القضاء على التقزم.. حلم غير مشروع لأطفال الشرق الأوسط
نشرت بتاريخ 26 أكتوبر 2023
أكثر من 30% يعانون من التقزم في جيبوتي، والسودان، واليمن، وليبيا.. و136 توصية لمواجهة التقزم تصطدم بتحديات الفقر والعنف
هاني زايد
على
أطراف مدينة الخانكة الواقعة شرق العاصمة المصرية القاهرة، ينتظر "جمال"
أصدقاءه ليشاركهم مباراةً في كرة القدم، لدى "جمال" مهارة المراوغة، لكن
قِصر قامته بصورة واضحة جعله يبدو عاجزًا عن مجاراة أصدقائه.
حالة
"جمال" -وهو اسم حركي- لا تختلف كثيرًا عن حوالي 13% من الأطفال
المصريين الذين يعانون التقزم، وفق المسح الصحي للأسرة المصرية، الذي أجراه الجهاز
المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2021.
فقد انخفضت
نسبة الأطفال المصريين دون سن الخامسة المصابين بالتقزم من 21% في عام 2014 إلى 13% في عام 2021،
وتستهدف مصر الحد من التقزم لدى الأطفال إلى 10% بحلول عام 2030.
يسترجع
"جمال" شغفه بلعب الكرة، لكنه في الوقت ذاته يتساءل: هل كان من الممكن
أن أتحول إلى محمد صلاح آخر لو كنت أكثر طولًا؟ وهل يمكن أن يقف التقزم حائلًا
أمام تحقيق أحلامي في المستقبل؟
الكل
من حولي يحلم، فهل من حقي أن أحلم مثلهم؟ سؤال قاله "جمال" وهو يزيح وجهه
بعيدًا وكأنه يهرب من الإجابة.
ناقوس
خطر
ربما
كانت معاناة "جمال" أكثر بساطةً بكثير مقارنةً بقرنائه في منطقة الشرق
الأوسط الذين يعانون مرارة الصراعات المسلحة.
ففي
أغسطس الماضي، أطلقت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، واليونيسف، وبرنامج الأغذية
العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، مبادرةً لمعالجة سوء التغذية في منطقة الشرق
الأوسط وشمال أفريقيا.
مبادرة
المنظمات الأممية الأربع كانت أشبه بناقوس خطر، محذرةً من أن ارتفاع معدل انتشار
التقزم بين الأطفال يعرِّض النمو البدني والتطور المعرفي لـ7.5 ملايين طفل للخطر.
ويمثل مشكلةً صحية عامة خطيرة
للغاية بنسبة بلغت أكثر من 30% في أربع دول عربية هي جيبوتي، والسودان، واليمن، وليبيا
التي نالت أعلى معدل لانتشار التقزم في المنطقة بنسبة بلغت 43.5%، وأن مستويات
انتشار التقزم عالية في دول جزر القمر، وسوريا، والصومال، وموريتانيا".
معاناة
لا تنتهي
يعاني
أكثر من 7 ملايين طفل في منطقة الشرق الأوسط من التقزم، وفق تقديرات اليونيسف لعام
2019، في حين يعاني طفل واحد من بين كل خمسة أطفال دون سن الخامسة في العالم
العربي من التقزم بنسبة تبلغ 20.5%.
والتقزم هو ضعف في النمو
يعاني منه الأطفال بسبب سوء التغذية، وتدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتردِّي
صحة الأمهات وتغذيتهن، وعدم حصول الرضع والأطفال الصغار على تغذية ملائمة، ويحدث خلال
الـ1000 يوم الأولى من ميلاد الطفل.
وينقسم
التقزم إلى نوعين هما
"قصر القامة المتناسب"، وهو نقص عام في النمو يشمل الجسم والذراعين
والساقين، وقد تسببه بعض المتلازمات الجينية مثل متلازمتي "تيرنر" و"نونان".
أما النوع
الثاني فهو قصر القامة غير المتناسب؛ إذ تكون الذراعان والساقان قصيرة بشكل خاص،
وتسببه حالة وراثية نادرة تسمى "تعظُّم الغضروف المبكر"، الذي يؤدي إلى
ضعف نمو العظام.
تداعيات
خطيرة
لا
تتوقف تداعيات التقزم عند حدود الأزمات النفسية، بل تتولَّد عنه أزمات صحية خطيرة،
مثل تضيق العمود الفقري، وفقدان السمع، والسمنة، ومشكلات الصحة العقلية.
ومن
أهم هذه التداعيات أيضًا انقطاع التنفس في أثناء النوم، الذي ينتشر بين 38.4% من
مرضى الودانة، وهي اضطراب
نمو العظام وتُعد السبب الأكثر شيوعًا للتقزم، وتؤدي إلى عدم نمو العظام الطويلة
في الذراعين والساقين إلى الطول المناسب.
وتؤدي أيضًا
إلى مشكلات في نمو عظام الجمجمة والوجه؛ بسبب تشوه نمو العظام في الرأس والحنجرة.
كما
ينتشر انقطاع التنفس في أثناء النوم بين أصحاب القامة المتوسطة أيضًا؛ إذ يبلغ 22%،
ما يجعل من الضروري المبيت في مركز للنوم في بعض الحالات لتقييم انقطاع التنفس في أثناء
النوم بشكل صحيح لدى الأشخاص الذين يعانون من اختلافات قحفية وجهية.
ويخضع حوالي
80% من مرضى "الودانة" لعملية
جراحية واحدة على الأقل في الأذنين والأنف والحنجرة والدماغ والثقبة الكبرى
(الفتحة في قاعدة الجمجمة) والعمود الفقري أو الأطراف لتخفيف الألم، كما أن أكثر
من نصف مرضى الودانة يكونون عرضةً لإجراء عمليات جراحية لإدخال أنابيب موازنة
الضغط في الأذنين أو لإزالة اللوزتين واللحمية.
طفرة
جينية
تقول جولي إي هوفر فونج -الأستاذ بقسم
الطب الوراثي وطب الأطفال في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز-: تحدث الودانة بسبب
طفرة جينية نادرة تغير نشاط "جين مستقبل عامل نمو الخلايا الليفية 3" (FGFR3) المشارك في نمو العظام، وتحدث في حوالي 20
ألف ولادة حية في بلد مثل الولايات المتحدة الأمريكية سنويًّا، وتتميز بقصر القامة
وتقوس الساقين وكبر حجم الرأس على نحوٍ غير متناسب ومشكلات عضلية هيكلية أخرى تسبب
الألم ومشكلات النوم وأعراض أخرى.
تضيف
"هوفر فونج": يحتاج الأطفال الذين يولدون مصابين بالودانة إلى تدخلات
مبكرة، ولا يزال أمامنا الكثير من التعليم للقيام به حتى نتمكن من تقديم رعاية
مستمرة لمرضى الودانة.
وتتابع:
نحتاج أيضًا إلى إجراء مزيد من الدراسات المستقبلية طويلة المدى لتحسين إدارة
الألم ورفاهية المرضى، مع تقليل تكاليف الرعاية الصحية وزيادة الوصول إلى الرعاية.
اختصاصات
متداخلة
تزداد
مشكلة التقزم تعقيدًا بسبب التخصصات المختلفة التي يتطلَّبها حلها، والتي تتراوح
من جراحة العظام إلى طب الأنف والأذن والحنجرة إلى علم النفس، ما دفع 55 خبيرًا من
16 دولة لإصدار بيان جماعي تضمَّن 136 توصية لمواجهة التقزم.
من أهم
هذه التوصيات توحيد الرعاية الطبية والوظيفية والنفسية الاجتماعية للأشخاص الذين
يعانون من التقزم في جميع مراحل الحياة الرئيسية لتحسين النتائج السريرية ونوعية
الحياة بسبب الإعاقات الوظيفية والتحديات النفسية والاجتماعية، ما قد يؤثر سلبًا على
متوسط العمر المتوقع لمرضى التقزم.
وكذلك إجراء
الاختبارات الجينية قبل الولادة عن طريق أخذ عينات من الزغابات المشيمائية إذا كان
أحد الوالدين أو كلاهما مصابًا بالتقزم، والزغابات المشيمائية هي نتوءات
صغيرة تشبه الأصابع داخل المشيمة، ونظرًا لكون المشيمة جزءًا من الجنين فإن
تركيبتها الجينية الوراثية تكون مطابقةً لتركيبة الجنين الوراثية.
واقع
مرير
لكن
تلك التوصيات تصطدم بواقع اقتصادي مرير تعيشه بلدان منطقة الشرق الأوسط، ما يخلِّف
"آثارًا عابرةً للأجيال" في منطقة تتميز بصغر عمر فئاتها السكانية وسط
مخاوف بمعاناة حوالي 8 ملايين طفل دون سن الخامسة في منطقة الشرق الأوسط -وشمال
أفريقيا- من انعدام الأمن الغذائي الشديد بسبب تداعيات جائحة "كوفيد-19"
والحرب الروسية على أوكرانيا، وتعرُّض ما بين 200 ألف إلى 285 ألف طفل رضيع لخطر
التقزم في الاقتصاديات النامية بالمنطقة.
ويعاني
20% من سكان منطقة
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من انعدام الأمن الغذائي، ويرجع ذلك بنسبة كبيرة إلى
سوريا واليمن، اللتين تعانيان من صراعات مسلحة.
ربما
بدت الصورة قاتمة، لكن الأكثر قتامةً أن يكتفي العالم بأداء دور "المشاهد
الصمت" المستمتع بخذلان أجيال من حقها التمسك بحلم -حتى لو كان حلمًا غير
مشروع- وهي تعاني مرارة أزمات اقتصادية وصراعات ألقت بها ضحيةً بين سندان "التقزم"
ومطرقة "سوء التغذية".
تواصل معنا: