قد يساهم الشذوذ في تكوين البكتيريا المعوية في الإصابة بأمراض عسيرة العلاج، مثل أمراض الأمعاء الالتهابية.. إلا أن بعض الباحثين يقدِّمون محاولات واعدة لتسخير الفيروسات المُسْتَهدِفة للبكتيريا لعلاج هذه الأمراض.
أمراض الأمعاء الالتهابية (التي يُشار إليها بالاختصار: IBDs)، هي أمراض معوية مزمنة تسبِّبها عوامل جينية وبيئية مرتبطة بسوء التكيُّف، إذ تؤدي تلك العوامل إلى انقطاع التواصل بين خلايا العائل والبكتيريا المعوية المختلفة، التي تُسمى المجهريات المعوية1، 2. وقد وضعَتْ سارا فيديريتشي وزملاؤها3 دراسةً، نُشرَتْ بدورية «سِل» Cell، تقدِّم مقاربة منهجية طموحة لاستهداف البكتيريا المرتبطة بالإصابة بأمراض الأمعاء الالتهابية.
يختلف تكوين المجهريات المعوية فيما بين الأشخاص اختلافات كبيرة، إلا إن اختلال التوازن الميكروبي – أي الانخفاض غير الطبيعي في تنوع أنواع البكتيريا المعوية- يُعَد من السمات الشائعة في أمراض الأمعاء الالتهابية2. ويرتبط هذا الانخفاض في تنوع البكتيريا باختلال الاستجابات المناعية واختلال الحاجز الخلوي الذي يمنع عبور البكتيريا من تجويف الأمعاء إلى نسيج الأمعاء، وقد يُسبب هذا الخلل الوظيفي اضطرابات في الآليات الدفاعية المُقاوِمة للبكتيريا، مما يؤدي لظهور أنواع من البكتيريا مُسبِّبة للأمراض يزدهر نموها في الأمعاء المُلتَهِبة. وقد حفزت هذه الملاحظات محاولات بحثية لاستهداف اختلال التوازن الميكروبي المرتبط بأمراض الأمعاء الالتهابية وعلاجه. وقد تراوحت المقاربات العلاجية من العلاج بعقاقير مثل المضادات الحيوية إلى استخدام الغرس البرازي لزيادة تعداد المجهريات المعوية، إلا أنها أسفرت عن نتائج متضاربة لا يتكرر ظهورها2، 4.
وقد قام فريق فيديريتشي البحثي بتسخير العاثيات البكتيرية (وتُسَمى العاثيات اختصارًا) – وهي فيروسات قادرة على إصابة البكتيريا بالعدوى ومن ثَمَّ قتلها. يمكن باستخدام العاثيات استهداف سلالات بكتيرية معيَّنة بدقة، وهذا يمثل استراتيجية لعلاج أمراض الأمعاء الالتهابية، وذلك باستهداف نوع محدد أو أكثر من البكتيريا المسببة للأمراض بغرض تدميرها5. وقد أوضحت فيديريتشي وزملاؤها إمكانية تخفيف التهاب الأمعاء في فئران التجارب باستخدام مزيجٍ من العاثيات يؤخذ عن طريق الفم ويستهدف سلالة من بكتيريا الكلبسيلا الرئوية Klebsiella pneumoniae مرتبطة بحدوث أمراض الأمعاء الالتهابية (شكل 1)، مما يُعَد إثباتًا على صحة مفهوم استخدام العاثيات لعلاج هذه الحالة.
شكل رقم 1 | علاج فيروسي يخفف من التهاب الأمعاء. أ: استخدام فأر تجارب مصاب بحالةٍ من التهاب الأمعاء تسمى التهاب القولون، أثبت فيديريتشي وزملاؤه3 أن السبب في الالتهاب هو سلالة من بكتيريا الكلبسيلا الرئوية Klebsiellapneumonia تُسَمَّى Kp-2H7 تسكن تجويف الأمعاء. كانت الفئران التي تحتوي أمعاؤها على مستعمرات السلالة Kp-2H7 فقط قد أصيبت بالعلامات التقليدية لالتهاب الأمعاء (اللون الوردي في الصورة يشير إلى نسيج الأمعاء الملتهبة)، ومن بينها ارتفاع أعداد الخلايا المناعية المسماة بالخلايا التائية من النوع CD4 والتي تُنتِج البروتين IFN-ƴ، ووفرة الخلايا المناعية المسماة بالعَدِلات. ب: أدَّى العلاج بمزيجٍ من خمسة فيروسات (تُسَمَّى العاثيات؛ وتظهر العاثيات المختلفة في الرسم بخمس درجات مختلفة من اللون الأزرق) تستهدف خصيصًا السلالة Kp-2H7 لتدميرها، إلى تخفيف الالتهاب وتلف الأنسجة الذي سببته العدوى بالسلالة Kp-2H7.
توجد الكلبسيلا الرئوية عادةً في أنسجة الفم، إلا إنها قد تُكَوِّن مستعمرات بكتيرية في الأمعاء في حالة اختلال التوازن الميكروبي، مما يؤدي أحيانًا إلى حدوث التهابات6. جمع الباحثون بيانات سريرية من مرضى مصابين بأمراض الأمعاء الالتهابية ومن أفراد أصحاء من أربعة مواقع مختلفة حول العالم. لاحظ الباحثون أن 39% من المصابين بأمراض الأمعاء الالتهابية كانت عينات البراز المأخوذة منهم تحتوي نسبًا من الكلبسيلا الرئوية أكثر من عينات البراز المأخوذة من الأفراد الأصحاء. وتشير هذه النتيجة بدورها إلى أن تكوُّن مستعمرات الكلبسيلا الرئوية في الأمعاء قابلٌ للحدوث في أشخاص مختلفين في نظامهم الغذائي وأنماط حياتهم. وقد أشارت دراسة سابقة إلى أن سلالة من الكلبسيلا الرئوية تُسَمى Kp-2H7 تستوطن لعاب المصابين بأمراض الأمعاء الالتهابية تُثير استجابة مناعية مُسببة للالتهاب في أمعاء فئران التجارب9.
درست فيديريتشي وفريقها سلالات الكلبسيلا الرئوية في العينات البشرية التي جمعوها، باستخدام منهجية لتعيين تسلسل الحمض النووي، ثم باستخدام تحاليل المعلوماتية الحيوية، واكتشفوا أن إحدى تلك السلالات (والتي أسموها Kp KSB1_4E) تتواجد في عينات البراز المأخوذة من المصابين بأمراض الأمعاء الالتهابية أكثر بكثير مما تتواجد في عينات البراز المأخوذة من الأفراد الأصحاء. ومن المثير للاهتمام أن هذه السلالة تنتمي إلى نفس الفرع الجيني (أو الفرع الحيوي) الذي تنتمي إليه السلالة Kp-2H7، وهو الفرع الحيوي الذي اعتبره الباحثون إجمالًا فرع Kp2 الحيوي المرتبط بأمراض الأمعاء الالتهابية.
ولاختبار حقيقة الدور السببي لسلالات Kp2 في تحفيز حدوث التهابات الأمعاء، عَزَل الباحثون سلالات من فرع Kp2 وسلالات من فروع أخرى من عينات البراز المأخوذة من المصابين بأمراض الأمعاء الالتهابية، ثم اختبروا السمات الوظيفية لهذه السلالات باستخدام اختبارات في الأنسجة الحية لفئران التجارب. وعند حقن فئران تجارب لا تحتوي أمعاؤها على مجهريات (فئران عديمة الجراثيم) بكلا النوعين من السلالات على حدة، تسبب النوعان في إنتاج البروتين IFN- γ المسبب للالتهاب (وهو أحد أنواع جزيئات التأشير المناعي المعروفة باسم السيتوكينات) بنسبة تُقارب نسبة الخلايا التائية المسببة للالتهاب والتي ينتجها جهاز المناعة. إلا إن سلالات Kp2 ولَّدت استجابة مصحوبة بمستويات من بروتين IFN- γ أعلى نسبيًا من مستويات السيتوكين IL-10 المضاد للالتهاب، ويفترض الباحثون أن هذا يعكس تكوُّن بيئة التهابية في الأمعاء فيما بعد استعمارها بسلالات تنتمي إلى فرع Kp2 بدرجةٍ أكثر وضوحًا مقارنة بما بعد استعمارها بسلالات أخرى.
وبما يتفق مع هذه النتائج ومع نتائج دراسة سابقة6، اكتشف الباحثون ظهور التهاب شديدٍ في الأمعاء (وهو التهاب القولون) في الفئران عديمة الجراثيم التي لا تحمل الجين المُشَفِّر للسيتوكين IL-10 وفي الفئران التي تحتوي أمعاؤها على مستعمرات سلالات Kp2 فقط (فئران أحادية المستعمرات). وقد ظهر في تلك الفئران اختراق الخلايا المناعية للأمعاء بشكلٍ ملحوظ وبدرجةٍ أكبر من الفئران غير المُصابة بالعدوى والتي لا تحمل الجين المشفِّر للسيتوكين IL-10، مما يؤكد قدرة سلالات Kp2 على التسبب في التهاب الأمعاء. لكن سيكون من الضروري إجراء المزيد من الدراسات لمعرفة ما إذا كانت سلالات Kp2 هي الوحيدة القادرة على التسبب في التهاب القولون أم إن هذه القدرة سمة شائعة في سلالات الكلبسيلا الرئوية الأخرى. كذلك فقد يكون من المفيد اختبار ما إذا كان بإمكان سلالات Kp2 التسبب في التهاب القولون في الأنظمة النموذجية التي تحتوي على مجهريات طبيعية أكثر تنوعًا من المجهريات التي تحملها الفئران عديمة الجراثيم أحادية المستعمرات.
بعد ذلك أثبت الباحثون إمكانية تخفيف التهابات الأمعاء باستهداف سلالات Kp2 باستخدام العاثيات كوسيلةٍ علاجية. وقد خاضوا لذلك مهمة شاقة هي فحص العاثيات بيئية المصدر للتوصُّل إلى العاثيات القادرة على استهداف سلالات Kp2 من بينها. وقد صمم الباحثون مزيجًا مُكَوَّنًا من خمس عاثيات أثبت قدرته في جميع التجارب على تقليل مستويات الكلبسيلا الرئوية في فئران التجارب التي سبق علاجها بالمضادات الحيوية والمصابة بعدوى سلالات Kp2 (وقد تم استخدام المضادات الحيوية للسماح للكلبسيلا الرئوية بتكوين مستعمرات في الأمعاء بشكلٍ فعال).
بعد ذلك، استخدمت فيديريتشي وزملاؤها حيوان تجارب مصابًا بالتهاب القولون الحاد الذي تسبب في اختلال الحاجز المعوي، مما سمح بانتقال البكتيريا بصورة غير طبيعية من تجويف الأمعاء إلى نسيج الأمعاء، مما عزز من حدوث الالتهاب. الجدير بالذكر أن الباحثين تمكنوا من خلال استخدام هذا النموذج من إثبات قدرة مزيج العاثيات على منع الإصابة بالتهاب القولون في فئران التجارب المُستعمرة بسلالة Kp-2H7 فقط، مُقارنة بفئران غير مُعالَجة من مجموعة مقارنة. حيث أدى إعطاء الفئران مزيج العاثيات إلى تقليل مستويات الكلبسيلا الرئوية، مما أدى إلى تقليل اختراق الخلايا المناعية للأمعاء تبعًا لوجود البكتيريا داخل الأمعاء، وتخفيض مستوى إنتاج السيتوكينات الالتهابية مثل IFN- γ. تثبت هذه النتائج بالإضافة إلى نتائج دراسة سابقة7 فعالية العلاج بالعاثيات عند إعطائه كعلاجٍ وقائي. لكن ما يزال غير معلوم ما إذا كان بالإمكان استخدامه لعلاج الحالات المصابة بالالتهاب بالفعل، وهو سيناريو أكثر قابلية للحدوث في سياق الطب السريري.
أجرى فريق الباحثين نفسه دراسة تدخلية تجريبية على متطوعين أصحاء. وكشف الباحثون من خلال هذه الدراسة عن إمكانية اكتشاف العاثيات المُسْتَهدِفة لسلالة Kp2 في عينات البراز بعد ستة أيام من تلقى المتطوعين عقار العاثيات، مما يشير إلى إمكانية بقاء هذه العاثيات حية في الأمعاء. وقد احتمل المتطوعون العقار بشكلٍ جيد، ولم يسبب لهم تناول العقار اختلالًا في التوازن البكتيري للأمعاء. ومع كون هذه النتائج مبدئية فحسب، إلا إنها مُشجِّعة وتستحق المزيد من التأكيد. ونظرًا لانخفاض مستويات بكتريا الكلبسيلا الرئوية في أمعاء الأشخاص غير المصابين بأمراض الأمعاء الالتهابية، فلم يكن من الممكن دراسة تخصصية استهداف العاثيات لسلالات Kp2 أو آثارها على البكتيريا الأخرى غير المستهدفة في مجموعة مركَّبة من المجهريات. تُعَد دراسة فيديريتشي وزملائه مدهشة من حيث مجالها، حيث اشتملت على ملاحظات سريرية وتحليلٍ للآليات الحيوية في حيوانات التجارب، كما شملت دراسات على البشر. علاوة على ذلك فهذه الدراسة تقترب بالمجال خطوةً نحو تطوير أدوية مُشَخصَنة لعلاج أمراض الأمعاء الالتهابية، وذلك بمحاولة استهداف أنواع محددة من البكتيريا المسببة للأمراض والموجودة في كل مريضٍ على حدة.
لكن تظل بعض النقاط الغامضة قائمة. على سبيل المثال، فقد قُدِّم مزيج العاثيات إلى فئران لا تحمل أمعاؤها سوى بكتيريا الكلبسيلا الرئوية، لذا فليس معروفًا ما إذا كان هذا العلاج سيُحْدِث نفس التأثير الفعال في أمعاء تحمل مجتمعات بكتيرية مركَّبة. كما تُشير بعض الدراسات1، 2، 4 إلى إمكانية حدوث تغيرات في المجتمع البكتيري داخل الأمعاء في حالة الإصابة بأمراض الأمعاء الالتهابية، مما يثير التساؤل عمَّا إذا كان استهداف سلالة بكتيرية واحدة بالعلاج كافيًا، أم إنه سيكون من الضروري استخدام توليفات مختلفة من العاثيات لاستهداف أنواع مختلفة من البكتيريا في الوقت نفسه.
عادة ما تتواجد العاثيات بكثرة في بيئة الأمعاء. وخلال العقد الماضي من الزمن، اكتشفت دراسات مختلفة أن تغيرات معينة في عاثيات الأمعاء تحدث فقط عند الإصابة بأمراض الأمعاء الالتهابية قد تتسبب في تغيير تكوين المجهريات المعوية8-10. عند النظر إلى العلاقة بين العاثيات والبكتيريا على أنها علاقة بين المفترِس والفريسة، نجد أن المصابين بأمراض الأمعاء الالتهابية تكون لديهم كمية أكثر من العاثيات البكتيرية (وهي المُفْتَرِسات) ونسبة أقلّ من التنوع البكتيري (حيث البكتيريا هي الفريسة) بالمقارنة بالوضع العام في الأفراد الأصحاء8-10. يثير هذا التساؤل عن تأثير إضافة المزيد من العاثيات إلى نظامٍ بيئيّ يكتظّ بالفعل بالعاثيات في الأمعاء المصابة بأمراض الأمعاء الالتهابية؛ حيث قد يتزايد الالتهاب نتيجة لازدياد نسبة إبادة العاثيات للبكتيريا.
تمهِّد دراسة فيديريتشي وزملائه الطريق إلى مزيدٍ من الدراسات التحليلية لاستخدام العاثيات كعلاجٍ لأمراض الأمعاء الالتهابية. سيكون اختبار هذه المقاربة في الأشخاص المصابين بهذه الأمراض خطوة تالية مهمة تستحق السعي إليها، حيث إن نجاحها قد يفتتح عصرًا جديدًا لتصميم الأدوية المُشَخصَنة. كذلك فالدروس المستفادة من هذه المقاربات لعلاج أمراض الأمعاء الالتهابية قد تُبنى عليها استراتيجيات مشابهة لعلاج حالات مرضية مختلفة ترتبط بسوء التكيف بين العائل والمجهريات، مثل سرطان القولون والمستقيم والسِّمنَة11، 12.
أليس برتوتشي وفيونا باوري تعملان بمعهد كينيدي للروماتيزم، وبقسم نوفيلد للعظام وطب الروماتيزم والعلوم العضلية الهيكلية بجامعة أوكسفورد، أوكسفورد OX3 7FY، المملكة المتحدة. بريد إلكتروني: alice.bertocchi@kennedy.ox.ac.uk، fiona.powrie@kennedy.ox.ac.uk
doi:10.1038/nmiddleeast.2023.66
1. Uhlig, H. H. & Powrie, F. Annu. Rev. Immunol. 36, 755–781
(2018).
2. Caruso, R., Lo, B. C. & Núñez, G. Nature Rev. Immunology
20, 411–426 (2020).
3. Federici, S. et al. Cell 185, 2879–2898 (2022).
4. Lewis, F. D. et al. Cell Host Microbe 18, 489–500 (2015).
5. Sutton, T. D. S. & Hill, C. Front. Endocrinol. 10, 784 (2019).
6. Atarashi, K. et al. Science 358, 359–365 (2017).
7. Galtier, M. et al. J. Crohns Colitis 11, 840–847 (2017).
8. Norman, J. M. et al. Cell 160, 447–460 (2015).
9. Gogokhia, L. et al. Cell Host Microbe 25, 285–299 (2019).
10. Clooney, A. G. et al. Cell Host Microbe 26, 764–778 (2019).
11. Janney, A., Powrie, F. & Mann, E. H. Nature 585, 509–517
(2020).
12. Mejia, J.-H. et al. Nature 482, 179–185 (2012).
تواصل معنا: