من منظور فيزياء الكم: هل الإنسان مخيَّر أم مسيَّر؟
نشرت بتاريخ 18 يوليو 2024
هل يتسع علم الفيزياء لإرادة إنسانية حرة؟
دان فالك
كان ذلك في صباح يوم الثامن والعشرين من يونيو من العام 1914، حين
وقف طالب بوسنيٌّ صربيّ، يُدعى جافريلو برينسيب، خارج متجر «موريتس شيلر» للبقالة
والأطعمة الجاهزة، غير بعيدٍ من الجسر اللاتيني، في العاصمة البوسنيّة سراييفو.
وعند حدود الحادية عشرة إلا ربع، مرَّ به – على بُعد أمتارٍ قليلة – موكب وليِّ
عهد النمسا، فرانتس فرديناند، وإذا بالشاب يُخرج من ثوبه مسدَّسًا عيار 38، ويشقُّ
هدوء ذلك الصباح الصيفي البعيد ببضع طلقات، استقرت إحداها في عنق ولي العهد. هُرع
بالرجل في الحال إلى مقر إقامة الحاكم العسكري لإسعافه، ولكن لم يمضِ وقتٌ طويل
حتى أُعلن، عند نحو الحادية عشرة والنصف، مصرعُه.
كان اغتيال ولي عهد النمسا بمثابة الشرارة التي أشعلت الحرب
العالمية الأولى. ونحن نعلم أن المؤرخين يميلون إلى تصوير التاريخ على أنه سلسلة
من الحوادث المتصلة، وإن يكن حدوثها خاضعًا لمبدأ المصادفة إلى حدٍّ بعيد؛ أي أنه
يتألَّف من طيف عريض من السلاسل – غير المنظورة في الغالب – التي تقف عند أحد
طرفيها الأسباب، وعند الطرف الآخر المسبَّبات أو النتائج. فلو كان أصاب مسدَّسَ
برينسيب عَطَبٌ ما، لو انحشرت الرصاصة ولم تفارق فوهة السلاح مثلًا، لنجا وليُّ
العهد النمساوي، ولربما كُتب لأوروبا تاريخٌ غيرُ التاريخ الذي
سطَّرته تلك الواقعة وما أتبعها من وقائع – هكذا يفكرون. وقع الأدباء في هوى أسئلة «ماذا لو» هذه (أو السيناريوهات المغايرة لما حصل بالفعل، التي يُطلق عليها
الفلاسفة: التواريخ البديلة):
ماذا لو لم يُفصل هتلر من كلية الفنون الجميلة؟ ماذا لو سبق الألمان الأمريكان إلى
اختراع القنبلة الذرية؟ ماذا لو أن جون لينون لم يلتقِ بول مكارتني ليؤسِّسا معًا
فرقة «البيتلز» ذائعة الشهرة؟ ماذا لو أن الأرضَ لم يضربها ذلك الكويكب الذي أفنى
الديناصورات قبل نحو 65 مليون سنة، وبقيَتْ الأرض محكومةً بالزواحف إلى يومنا هذا؟
ما من شكٍّ في أن هذه المصادفات تقوم على افتراض أن الأمور كان يمكن أن تجري على غير ما جرت عليه؛ إما لأن
الشخص – أَمَا وأنه يتمتَّع بحرية الاختيار – كان في
استطاعته أن يسلك مسلكًا مغايرًا (كألا يضغط برينسيب بإصبعه على الزناد، مثلًا)،
أو لأن الأحداث العشوائية (كسقوط كويكب على الأرض) كان يمكن ألا تحدث من الأصل.
لكن هل تتسق هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء مع منهج التفكير الفيزيائي؟ هل تسمح
القوانين الطبيعية المسيِّرة للكون بأن يكون للإنسان إرادة حرة، أو أن يتمتع بحرية
الاختيار؟
أشعل هذا السؤال جدلًا بين العلماء والفلاسفة من قديم، وانقسموا
حوله إلى فريقين يقفان على طرفَي نقيض: ففريقٌ يقول: أجل، الإنسان مخيَّر
بلا مراء (ألا ترى أنك، وقد قرأت الفقرات الأربع السالفة، إنما تقرأ مقالًا
اخترتَهُ بمحض إرادتك؟). وفريقٌ يقول: كلَّا، الإنسان ليس مخيَّرًا، وليس
في وسعه أن يمتلك إرادةً حرة؛ لأن قوانين الطبيعة تقضي بأن أي حادثةٍ تُحدِّدها
الحادثة السابقة عليها، المُفضية إليها؛ وما يجري داخل العقل ليس بدعًا من سائر
المجريات، يصدُقُ في حوادثه ما يصدُقُ فيما دونها من حوادث. وقد ظهر في الآونة
الأخيرة اتجاه فكري جديد، يبرهن على أن فيزياء الكمّ تتجاوز في
نزوعها إلى الحتمية (determinism) حتى ما كان يظنُّه الفيزيائيون أنفسهم؛ وهو الاتجاه الذي بثَّ
روحًا جديدة في الجدل القديم المتجدد حول مسألة الجبر والاختيار.
القول بأن الفيزياء وحرية الإرادة لا يتفقان ليس بالأمر الجديد أو
المستحدث، وإنما نجد له جذورًا عند الإغريق، وربما عند أممٍ أسبق عهدًا وأوغل في
القِدم. لكننا نجد التعبير الأوضح لهذه الفكرة عند العلَّامة الفرنسي موسوعي
المعرفة، بيير سيمون لابلاس، الذي ذهب إلى أنه لا يبعُد أن يكون كل شيء محتومًا
ومحدَّدًا بالشيء السابق عليه. أجرى لابلاس تجربة فكرية، استعان فيها بما بات
يُعرف بشيطان لابلاس الذي يستطيع أن
يميز موقع كل جُسَيمٍ في الكون، وزخمه أو قوة اندفاعه. بالنسبة إلى شيطانٍ كهذا،
المستقبَل شيءٌ ثابت، إذ لا يمكن للعالَم إلا أن يسلُك طريقًا واحدًا. ويكون
الكون، بهذا المنظور، حتميًّا بالمعنى الفلسفي: أي أن المستقبل يقرِّره الحاضر،
ولا شيء سواه؛ والحاضر، من ثم، يقرره الماضي، ولا شيء سواه. وإذا صحَّ ما ذهب إليه
لابلاس، فمعنى ذلك أن فكرة المصادفة – التي تفيد بأنه بقطع النظر عما يحدث في أي
لحظة من الزمن، فإن ما يحدث لاحقًا يظلُّ مفتوحًا على احتمالات، أو "معلقًا
في الهواء" – هذه الفكرة لا وجود لها.
وفي مُفتتح القرن العشرين، كان العالَم على موعدٍ مع ثورتين
علميَّتين كُبريين: فيزياء الكم، ونسبية أينشتاين. وبدا أن لميكانيكا الكم، بوجهٍ
خاص، مضامين أعمق وأوثق اتصالًا بمسألة الجبر والاختيار. الطبيعة من منظور
ميكانيكا الكم عشوائية في جوهرها: فالكميات التي كانت محدَّدة تحديدًا قطعيًّا في
الفيزياء الكلاسيكية، مثل الموضع والزخم، تكون غير محددة في فيزياء الكم ما لم
تُقَس. وما إن يجري قياس نظام فيزيائي ما (على الأقل وفقًا لما يُعرف بتفسير كوبنهاجن للنظرية)، حتى
"تنهار" دالّته الموجية (وهي تعبير
رياضي عن ذلك النظام)، أو هكذا تفترض النظرية، بحيث لا يبقى منه سوى نتيجة فريدة
واحدة، التي قد تكون موضعًا أو زخمًا معيَّنًا أمكن رصده. ولمّا كان الأمر كذلك،
فإن النظرية تكتفي بعرض نتيجة محتملة، من بين احتمالات متعددة لكل ما يُرصَد،
لكنها لا تخبرك بالنتيجة التي ستخلُص إليها فعلًا. قد يبدو لأول وهلة أن النظرية،
بهذه الصورة، تنتشل الفيزياء من براثن الحتمية. وعلى ذلك، فلم يتَّضح، من جهةٍ
أخرى، كيف لهذا النزوع الكمومي إلى عدم الحتمية أن يعزز حرية الإرادة، بالنظر إلى
أننا اعتدنا النظر إلى عمليات صنع القرار على أنها عشوائية بقدر ما هي مقدورة
ومحتومة.
إلا أن القصة تنطوي على تفصيلة أخرى، تتجلَّى أوضح ما تتجلَّى في
مساعي الفيزيائيين إلى تطبيق مفاهيم ميكانيكا الكم على الكون برُمَّته، وهو الفرع
من فروع المعرفة الذي يُطلق عليه: علم الكونيات الكمّي).
وإذا نظرت إلى بعض المناهج الكَمِّية المعتمَدة في دراسة الكونيات، كتلك المنهجية
التي وضع أساسها عالِما الفيزياء النظرية جيم هارتل وستيفن هوكنج (والتي شرحها
هوكنج في كتابه: «تاريخ موجز للزمان» A
Brief History of Time)، لوجدت أن هذه
المناهج لا تقرر القواعد الحاكمة لتطوُّر الكون فحسب، كما يبدو، وإنما تفصح كذلك
عن حالته الأولى. وإذا أخذنا بهذا المنحى في النظر إلى الأمور، فلا عجب في أن يصف
عالم الفيزياء روجر بنروز، في كتابه المعنون: «عقل الإمبراطور الجديد» The Emperor's New Mind، فيزياءَ الكم بأنها
"موغلة في الحتمية"، في إشارة إلى أن الكون ربما يكون له مسار تاريخي
واحد، وليس سواه. لا شيء كان يمكن أن يجري على غير ما جرى عليه في الماضي، أو ما
يجري عليه الآن. ما من شيء – من المسار الذي اتخذته رصاصة برينسيب صوب عُنق وليّ
عهد النمسا، إلى قراءتك هذه الجملة في هذه اللحظة – إلا وكان مقرَّرًا حدوثه، إذا
جاز التعبير، منذ انبلاج الكون، وابتداء الزمن.
على أن هذا ليس المنظور الوحيد لفيزياء الكم. ثمة منظور شائع آخر،
يُطلق عليه منظور «العوالم المتعددة» (أو المنظور الإفريتي،
نسبةً إلى عالم الفيزياء هيو إفريت الثالث،
الذي كان أول من تعرَّض له بشيءٍ من التفصيل). وفقًا لهذا المنظور، كل شيء ممكن
الحدوث يحدث بالفعل، لكن في عالمٍ مغاير. ولما كان الأمر كذلك، فعوضًا عن
القول بأن للعالم تاريخًا واحدًا، لا أكثر، يرى أنصار فكرة تعدُّد العوالم أنه إن
كان ثمة تاريخ واحد فهو تاريخ «العوالم المتعددة» multiverse. في هذه العوالم
المتعددة، توجد فروع – أو سمِّها إن شئتَ عوالم – ضَغَط فيها برينسيب على زناد
مسدَّسه لتنطلق منه الرصاصات القاتلات، كما توجد عوالم أخرى لم يفعل فيها برينسيب
فعلته تلك. ثمة عوالم يحيا فيها قِطُّ شرودنجر الشهير،
وعوالم أخرى القطُّ فيها ميّت. أما إذا نظرنا إلى الكون أو الوجود على جملته، فسوف
نجد أنه محكومٌ تمامًا بالجبر والحتمية.
يعتقد إدي كيمنج تشِن، المتخصص في فلسفة الفيزياء بجامعة
كاليفورنيا الكائنة في مدينة سان دياجو الأمريكية، أن علينا أخْذ فكرة الحتمية
الشديدة – وتضميناتها – على محمل الجد. ذلك أننا لو أخذنا بنظرية كتلك التي خرج
بها هارتل وهوكنج، والتي تضع إصبعها على ديناميات الكون (أو الأكوان المتعددة)
وحالاته الأولى، لوجدنا أن هذا الكون لا يمكن إلا أن يكون له تاريخ واحد دون سواه.
ووفق هذا التصوُّر، تكون ميكانيكا الكمّ أكثر إغراقًا في الحتمية حتى من سَلَفها
(أي الميكانيكا الكلاسيكية)، كما جاء في ورقة لتشِن نُشرَت له في الآونة
الأخيرة على صفحات دورية Nature. (وفي مسوَّدة بحثية ذات صلة، قدَّم تشِن
نظرية جديدة طوَّر من خلالها هذه الفكرة أكثر وأكثر، هي النظرية التي أطلق عليها
«ونتاكيولوس الإفريتي» Everettian Wentaculus، والتي وصفها بأنها "أول نظرية عن العالم الكَمِّي تتأسَّس
على الحتمية الشديدة، وتتَّسم بالواقعية والبساطة").
على أن الأمر ليس بهذه البساطة؛ فحتى لو كنَّا نعيش في عوالم
متعددة، بالمنطق الإفريتي، فليس في مستطاعنا إلا أن نرى فرعًا واحدًا (هو عالَمُنا
الخاص). وحتى داخل هذا الفرع الواحد، لا نجد مناصًا من الاعتقاد بتعدُّد النتائج
أو الاحتمالات. وفي مسوَّدته البحثية آنفة الذِّكر، يقرُّ تشِن بأن "ثمة
سؤالًا لا جواب قاطعًا له، هو السؤال عن طريقة النظر إلى الحرية والأهليَّة في
سياقٍ متعدد العوالم". ولا أقلَّ، حسبما قال، من إعادة النظر في طريقة فهمنا
للقرارات، والاختيارات، والمصادفات. وهو يعتقد أنه، داخل إطار الحتمية الشديدة أو
المطبِقة، لا مجال للحديث عن وقائع أو سيناريوهات بديلة. يقول: "لك أن تفهم
الوقائع البديلة على أنها إشارة إلى الاحتمالات الفيزيائية المختلفة التي تتّفق
وقوانين الطبيعة. فإن قلتُ لك إنه ليس ثَمَّ إلا احتمالٌ واحد، فمعنى ذلك أنه لا
مكان للوقائع البديلة. حينها، تستحيلُ كلُّ هذه الوقائع البديلة إلى [افتراضات] لا
معنى لها، ولا وزن، أو تكون مفرَّغةً من أية دلالة". وحيث لا مكان للوقائع
البديلة، لا مكان للحرية، على حد قوله. وفي مقالته المنشورة على صفحات دورية Nature، ذكر تشِن أن هذه
الحتمية المُطبِقة "لا يستقيم معها اللجوء إلى نظرية الكم للذَّب عن حياض
الحرية".
وفي الوقت الذي يحتدم فيه الجدل حول فكرة الحتمية المُطبِقة، تتخذ
الباحثة في فلسفة الفيزياء بجامعة تشابمان، إميلي أدلم، موقفًا يتفق مع ما ذهب
إليه تشِن، من حيث أن هذه الفكرة تمثل، على ما يبدو، تهديدًا لحرية الإرادة يتجاوز
التهديد الذي تمثله الحتمية التقليدية، لا سيَّما عند الأخذ في الحسبان ما يربطها
من صلات بفكرة تعدُّد العوالم الإفريتية. تقول: "من المنظور الحتمي التقليدي،
نعم، لا ريب في أن كلَّ شيءٍ يكون محتومًا ومقدَّرًا سلفًا، إلا أن عقلك يبقى
عنصرًا لا غناء عنه في عملية التسلسل العِلِّي أو الاستدلال السببي التي يُدْرَك من
خلالها ما يقع في المستقبل من أحداث. وعلى هذا، ففي الإمكان القول إن وقائع
المستقبل – وإن كانت مقرَّرةً سلفًا – إنما تتحقَّق عبر وساطة عملياتٍ بعينها،
تكون أنت نفسك عنصرًا فاعلًا فيها". أما من المنظور الإفريتي، فيصعُب، حسبما
ترى أدلم، الوقوف على المرحلة التي تتم عندها عملية صنع القرار. تقول: "إذا
كان من دأبك أن تتخذ جميع القرارات الممكنة، على النحو الذي يمكن القول معه إنك لا
تكاد تمارس فعل الاختيار الواعي، فإنك ستكون في هذه الحالة، وبهذا المعنى، على ما
يظهر، في وضعٍ أسوأ كثيرًا مما لو كنتَ تتحرك داخل إطار الحتمية التقليدية، الذي
تحدُث فيه واقعة بعينها، ويكون لك في إحداثها يد".
وإذا كانت ميكانيكا الكم (أو بعض تمثُّلاتها على الأقل) تتحدَّى
فكرة حرية الإرادة، فإن النسبية – التي تُعد ثاني العمودين اللذَين تقوم عليهما
الفيزياء الحديثة – ليست بمعزل عن هذا التحدي. فقد راح كثيرٌ من علماء الفيزياء
النظرية يرسمون صورةً للكون يكون فيها كلٌّ من الماضي والحاضر والمستقبل حقيقيًّا،
بل على نفس الدرجة من التحقُّق: كون ثابت، يرقد بلا حراك كما لو كان كُتلةً
مُصمتةً قوامها الزمكان (يُشار إليها أحيانًا بـ«الكتلة الكونية» block universe). ولا يعني ذلك أن
الزمن يختفي في هذه الصورة، غير أنه لا "يمرُّ" ولا "يجري".
(وهي الفكرة التي صاغها ألبرت أينشتاين في مقولته الذائعة: إن مرور الزمن "وهمٌ باقٍ، متمسكٌ ببقائه".)
ولعلنا لا نجاوز الحق إن قلنا إن الكون الكَمِّي، المُغرِق في الحتمية، لا يبعُد
كثيرًا، من الناحية المفاهيمية، عن الكتلة الكونية التي اشتُهرت بها النسبية؛ إذ
يمكن النظر إلى الكون الكَمِّي على أنه "نسخة منقَّحة ومزيدة من الكتلة
الكونية"، على حد وصف ألاستير ويلسون، الباحث المتخصص في فلسفة العلوم بجامعة
ليدز في إنجلترا، الذي أردف قائلًا: "تخيَّل أنك أتيتَ بكتلة كونية، ثم أضفت
إليها بُعدًا جديدًا، هو بُعد الاحتمال".
لكننا بحاجةٍ إلى توخِّي شيء من الحذر ونحن ننظر في النظريات التي
تركَّزت حول تبيان الطبيعة الأولى للزمان والمكان. فإذا كان من الحق القول بأن
الفيزيائيين صاروا يُلمُّون بأغلب تاريخ الكون، الذي يمتدُّ عمره إلى 13.8 مليار سنة،
إلمامًا لا بأس به، إلا أننا، ونحن نستعيد شريط معارفنا، سنجد أن استيعابنا
لمفهومَي المكان والزمان يزداد غموضًا وتشوُّشًا كلما اقتربنا من الانفجار العظيم.
فإذا عُدنا إلى اللحظات الأولى من عمر الكون، سنجد أنه ليس في مستطاع أيٍّ من
رافدَي الفيزياء الحديثة – النسبية وميكانيكا الكم – الخروج بتوصيف دقيق لما حدث،
ولا إجماع حول نظرية موحَّدة للجاذبية الكَمَّية يمكن أن تحلَّ محلهما. عند النظر في تلك اللحظات الأولى،
"تبدأ تصوراتنا عن المكان والزمان في الانهيار من أساسها، وعلى نحوٍ لا نفهم
له سببًا"، هكذا علَّق ديفيد والاس، الذي يدرس الفيزياء والفلسفة بجامعة
بيتسبرج. وأضاف: "وإذا انهارت فكرة الزمن، تنهار معها الحدود الفاصلة بين
القوانين، التي تبيِّن كيف تتغيَّر الأشياء بمرور الزمن، كما تنهار الحالات
الأولى، التي تُنبئُنا بالحالة التي يكون عليها الشيء في بدء الزمان". وعلى
الرغم من الالتفاف الكبير حول أطروحة هارتل وهوكنج، يعود والاس ليُذَكِّر بأنها
أطروحة "حدسية" في المقام الأول. ومع أن والاس معدود بين أنصار التصوُّر
الإفريتي ومعتنقيه الخُلَّص (ومعه أسماء أخرى بعيدة الصيت، من أمثال ديفيد دويتش،
وماكس تِجْمارك، وشون كارول)، تبقى فكرة تعدُّد الأكوان الإفريتية هي الأخرى
موضعًا لجدلٍ لم ينقض.
الشكوك التي تحيط بحرية الإرادة ليست بالشيء الجديد. فحتى قبل ظهور
ميكانيكا الكم والنسبية، تساءل الناس من قديمٍ عن نوع الحرية – إن كان ثمة حرية –
التي يمكن أن تسنح في كونٍ ليس فيه إلا مادةٌ تتحرَّك استجابة لقوًى تتصادم ككُرات
بلياردو كونيةٍ في مباراةٍ لا انتهاء لها. وطويلةٌ قائمة العلماء والفلاسفة
الذين يقفون من حرية الإرادة موقف الشك، لعل آخرهم عالم البيولوجيا وعلم الأعصاب
روبرت سابولسكي، بكتابه الأخير الذي يحمل عنوان: «محتوم: نظرة علمية إلى حياةٍ لا مكان فيها
لحرية الإرادة» Determined: A Science of Life without Free Will. يرى سابولسكي أن كينونة المرء تشكِّلها المُجريات السابقة، سواءٌ
في حياته، أو قبل مولده بآمادٍ بعيدة. فبعد عقودٍ قضاها سابولسكي في السعي إلى
محاولة قياس المساحة التي يُفسحها العلم للحريات الشخصية، خَلُصَ من مساعيه تلك،
كما أورد في كتابه، إلى أننا "لا نملك حرية الإرادة، ولا بأي مقدار".
أما "الحلُّ" الأثير للتوفيق بين الفيزياء، بما يغلب
عليها من حتمية، والاختيارات الشخصية، بما يُفترض فيها من حرية – وعلامات التنصيص
هنا ضرورية، بالنظر إلى أن الفكرة لا تلقى قبولًا من الجميع – هذا الحلُّ يكمُن
فيما يُعرف بـ«التوافقية» compatibilism. يقول أصحاب هذا
المذهب إنه بقطع النظر عما يقع من الجسيمات والقوى الأساسية أو يحدث لها على
المستوى دون الذري، فإن الحرية الإنسانية تبقى ممكنة، لأننا نعيش في العالم
العياني، الذي تحكمه قواعد تختلف كلَّ الاختلاف عن القواعد الحاكمة لعالم الذرة.
أجل، أجسامُنا تتألَّف من ذرَّات (أو، إن شئت، فمن مجالات كمّية متماوجة)،
لكن من العبث أن نحاول تفسير أي سمةٍ من سمات السلوك الإنساني انطلاقًا من تحليل
ذرّاتنا (أو مجالاتنا الكمّية). وإذا كان أكثر الفلاسفة ودارسي الفلسفة توافقيِّين بمعنًى من المعاني (60% منهم، حسبما تشير استطلاعات الرأي)، فإنَّ منهم مَن يرى في
التوافقيَّة موقفًا هروبيًّا. وقد نَعَتَها إيمانويل كانط، مثلًا، بأنها
"حيلة بائسة". وفي الآونة الأخيرة، جاء سام هاريس، بكتابه «الإرادة
الحرة» Free Will، ليتخذ موقفًا
مشابهًا، إذ كتب يقول: "من المنظورين الأخلاقي والعلمي، تبدو [التوافقية]
متهافتة تهافتًا متعمَّدًا".
أما بالنسبة إلى التوافقيين، فالمسألة لا تعدو كونها مسألة
منظور. يسوق ويلسون مثالًا أورده عالم
الفلك آرثر إدينجتون في كتابه المنشور قبل قرنٍ من الزمان، إذ كتب يقول إن المنضدة تفقد خواصَّها – من حيث هي منضدة – إنْ هي فُحِصَتْ على المستوى الميكروسكوبي. يقول ويلسون:
"إذا تبيَّن وجود فراغات بينية كثيرة بين جسيمات المادة الداخلة في صنع
المنضدة، فهل يعني ذلك أنها ليست صلبة؟ أم معناه أن الصلابة تختلف عن مفهومنا
عنها؟" وهو يدعو إلى النظر إلى العوالم المتعددة، بالمفهوم الإفريتي، من نفس
المنطلَق. فبإمكاننا أن نقول، من زاوية نظرٍ بعينها، إن فكرة الاحتمالات بحد ذاتها
قد تلاشت؛ وبإمكاننا أن نقول أيضًا، من زاوية نظرٍ مغايرة، إن "الاحتمالات موجودة،
وكلُّ ما هنالك أنها تختلف عن مفهومنا عنها".
من وجهة نظر التوافقيين الخُلَّص، لا تتوقف قضية حرية الإرادة على
ما يقوله الفيزيائيون عن الذرات، أو القوى، أو المجالات الكَمِّية، أو غير ذلك مما
يُرصَد على المستوى الميكروسكوبي. كما يرون أن الحتمية المطبِقة ليست أكثر تشاؤمًا،
ولا أدْعَى للتشاؤم، من الحتمية التقليدية. والأمرُ كما قالت إميلي أدلم:
"عند أحد مستويات النظر، الإنسان هو مصدر قراراته. وعند مستوًى آخر، هو
المستوى الفيزيائي، الماضي البعيد وقوانين الطبيعة هما مصدر هذه القرارات. وإنني
لأعتقد أنك إنْ أبقيتَ على هذين المستويين منفصلين – كما ينبغي – فليس ثَمَّ ما يمنع من أن تكون لك إرادة حرة".
* دان فالك:
صحفي علمي يقيم في مدينة تورونتو الكندية. صدرت له عدة كتب، منها كتاب «العلم في
كتابات شكسبير» The Science of Shakespeare، وكتاب «بحثًا عن الزمن» In
Search of Time.
** هذه ترجمة للمقالة
الإنجليزية المنشورة بمجلة «ساينتيفيك أميريكان» Scientific
American بتاريخ 16 مايو 2024.
تواصل معنا: