التقدم العلمي مرهون بتحقيق تعاون دولي قائم على مبدأ التكافؤ.. وهذا المبدأ لا يزال بعيد المنال.
محمد شعبان، وأبيب دوت، ونانا منساه
لعلك لاحظت تلك النزعة لدى صناع
الأفلام الأمريكية إلى نسج قصص مشوِّقة حول علماء يأتون من نواحي متفرقة من
العالم، ويعملون معًا على إنجاز شيء استثنائي — القضاء على فيروس فتّاك، مثلًا، أو
العثور على موطن جديد للبشرية — مصدِّرين بذلك فكرة أن العِلم الحقَّ لا يعرف
الحدود، وإنما يتجاوزها ويسمو فوقها. بفضل الشراكات الدولية، أصبح لدينا لقاح
للوقاية من «كوفيد-19»، ومحطة فضائية لتتبُّع الظواهر المناخية، وأدلة على وجود
الجُسيم المحيِّر، المسمَّى «بوزون هيجز».
ولكن بوصفنا باحثين قادمين من بلدان
منخفضة الدخل، ونعمل في بلدان غنية، نستطيع القول إن الشراكات العلمية ليست
بالبهاء ولا بالتكافؤ الذي تصوِّره الأفلام الهوليودية.
وبحكم ارتباطنا الشخصي بقارة
إفريقيا، فبإمكاننا أن نرى بجلاء المزايا العلمية التي تتوفَّر في الدول الغنية.
اكتشف محمد شعبان، الذي نشأ في مصر، أن طموحاته في حقل البيولوجيا البنيوية تعوقها
محدودية الأدوات العلمية المتقدمة في ذلك البلد الإفريقي. في عام 2016، كانت قارة
إفريقيا، بجميع بلدانها، تخلو من أي مجهر إلكتروني فائق البرودة،
الذي يمكن الاستعانة به في كشف البنية البيولوجية على المستوى الجزيئي. هذه
الحقيقة الصادمة كانت من بين الأسباب التي دفعته إلى إكمال دراسته بالخارج.
وباستخدام المعدات العلمية المتوفرة في الولايات المتحدة وبريطانيا، أسهم شعبان في
كشف النقاب عن بنية البروتينات الداخلة في عملية التنوِّي (أي تكوُّن النوى على
سطح متحول الطور) الخاصة بالأكتين المسؤول عن الحركة الجزيئية، وتنظيم بروتين
التدرُّك المسمَّى «يوبيكويتين ليجيز» ubiquitin
ligase،
الذي يمكن أن يسهم في استهداف البروتينات لتطبيق ما يعرف بالتحلل البروتيني1،2
— وهي إنجازات لم تكن لتتحقق لو مكث في مصر.
أبيب دوت ونانا منساه كلاهما وُلدا
في غانا، لكنّهما سلكا طريقين مختلفين في ميدان العلوم. أما دوت، فقد مكث في
غانا حتى نصحه المشرفون عليه في المرحلة الجامعية بالتماس فرصةٍ في أوروبا.
وبمساعدتهم، توفَّرت له الأموال اللازمة للعمل باحثًا في علوم الحاسب في ألمانيا،
ثم في بريطانيا في مرحلةٍ لاحقة. وأتاح ذلك له أن يدعم أسرته ماليًّا، وأن يكتسب —
في الوقت نفسه — خبراتٍ لا تقدَّر بثمن في أعرق المؤسسات العلمية العالمية. وأما
منساه، فقد هاجر رفقة أسرته إلى المملكة المتحدة وهو في سنٍّ صغيرة، لينتهي به
الحال وهو مواطن بريطاني مجنَّس. وكان ذلك بمثابة تذكرة الدخول إلى مجال علم
الجينات، الذي لم يكن ليدخله لو بقي في غانا. درس في جامعة لانكستر البريطانية،
لقاء سداد الجزء من مصاريف الدراسة الذي عادةً ما يُفرض على الطلاب الأجانب.
ولاحقًا، انضم إلى هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، مع اتجاه الهيئة إلى
توسيع خبراتها العالمية في حقل الجينوم.
الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون
كيف كانت قصصنا ستختلف لو لم نباشر
حياتنا الأكاديمية بالخارج؟ الحق أننا — ثلاثتنا — سمعنا من زملائنا حول العالم ما
لا يكاد يُحصى من قصص الإحباط: فمن كيميائي في مدينة دلهي الهندية فاته موعد إجراء
مراجعة لبحثه بسبب فيضان مدمِّر؛ إلى باحث كيني في مجال الأحياء الدقيقة أُتلف ما
لديه من عيّنات مجمَّدة لطفيليات حاملة للملاريا بسبب الانقطاع المتكرر للتيار
الكهربي؛ إلى عالم الجينات المقيم بدولة من دول غرب إفريقيا، والذي يشهد مختبرُه
انضمام الطلاب إليه ثم تخرُّجهم فيه ولمَّا تصل بعد الكواشف اللازمة لتجاربهم بسبب
تأخيرات الاستيراد التي تمتدُّ شهورًا. هذه التحديات الاقتصادية، والتقنية،
والتحديات المتصلة بالبنية التحتية، تحُول بين الدول منخفضة الدخل وبين الوصول إلى
التقنيات التي تقود قاطرة الأبحاث العلمية عالية القيمة.
هذا التفاوت لا يستند إلى القصص
والشهادات وحدها، وإنما يستند أيضًا إلى بيانات. فمجموعة العشرين، التي تضم عددًا
من الدول ذات الاقتصادات الأكبر، تستحوذ معًا على 93% من الأوراق البحثية في
العالم، أخذًا بعين الاعتبار أن عدد الأوراق يُعد مؤشرًا على حجم الإنتاج العلمي
(انظر: الدول الغنية تستأثر بنصيب الأسد من الإنتاج العلمي العالمي).
يبدو جليًّا أن الدول الأشد تضرُّرًا
من الأزمات العالمية (من قبيل ارتفاع مستوى سطح البحر، والتغير المناخي، وتفشّيات
الفيروسَين «إيبولا» و«زيكا») — وهي دول في مسيس الحاجة إلى حلول تتكئ على مُخرجات
البحث العلمي — هذه الدول لا تحتل مواقع متقدمة على هذه القائمة. التناقض صارخ، مع
وجود خط غير منظور يفصل بين من يملكون المقدرات العلمية ومن لا يملكونها. فبين
عامي 2012 و2019، شهدت الدول الغنية تراجعًا مطَّردًا في الإنتاج البحثي الذي يركز
على أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، وهي المبادرة التي أطلقتها الأمم المتحدة
بغية تحقيق "مستقبل أفضل وأكثر استدامة للجميع". وهو تراجع يبعث على
القلق، بالنظر إلى أنه يقوض الجهود الرامية إلى إيجاد حلول للمشكلات العالمية
الملحّة — من القضاء على الفقر والجوع إلى رفع مستوى التعليم وتعزيز المساواة — لا
سيّما في البلدان التي تشتد فيها المعاناة من آثار هذه المشكلات.
شراكات دولية
تصدَّرت الجامعات وجهات التمويل
والحكومات المساعي المبذولة من أجل جَسْر الفجوة العلمية. ولعلنا نجد مثالًا
يُحتذى فيما فعلته الحكومة الهولندية في عام 1990، عندما أقدمت على تعزيز شراكاتها
مع باحثي العلوم الصحية في غانا. ففي حين أن البرامج السابقة على هذه المبادرة
أخفقت في تلبية الاحتياجات المحلية، تمكَّن البرنامج الغاني الهولندي للأبحاث
الصحية والتنمية في تمويل 79 دراسة يقودها علماء غانيّون، وقد مُنحوا الحرية في
اختيار شركائهم، وخُلِّي بينهم وبين إدارة مشاريعهم البحثية. وداخل هذا الإطار
البحثي، وجد الباحثون على الأرض الدافع إلى إنتاج دراسات عالية القيمة. نجح
البرنامج، رغم تركيزه على موضوعات لم يكن لبعض الباحثين الهولنديين أن يلتفتوا
إليها من تلقائهم3. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، تصميم برامج
تطعيم مناطقية، وخفض نسبة الوفيات بين الأمهات، وتجهيز مراكز لعلاج الدرن، وتصميم
خطة لمنظومة التأمين الصحي الوطنية.
ومع ذلك، فبعد مرور ثلاثة عقود على
الشراكة الغانية الهولندية، لا يزال باحثو إفريقيا مستبعَدين من خطط التمويل
الدولية، وبرامج بناء القدرات4.
يُنتظر من الشراكات الدولية أن تعود
بالنفع على كلا الطرفين: تتيح التدريب والأدوات من جهة، والبيانات للجميع من جهة
أخرى. لكن ما يحدث هو أن هذه المنفعة تكون أحادية الجانب؛ إذ تستمر الدول الغنية
في "إنقاذ" الدول الفقيرة، لتؤبِّد بذلك وضعًا ينطوي في جوهره على غيابٍ
للتكافؤ. والذي يتعين على هذه البرامج هو أن تحرص على صقل المواهب العلمية في
البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وأن تنظر إلى جميع الشركاء على أنهم سواسية.
ولا غناء لكلا الطرفين عن تبادل المنفعة، بما يسمح لباحثي البلدان ذات الدخل
المنخفض والمتوسط أن يكتسبوا خبرات في الدول مرتفعة الدخل، والعكسُ بالعكس. لنا أن
نتمثل نموذج التعاون الغاني الهولندي، ونحتذيه بوصفه نموذجًا رائعًا: فنعهد إلى
باحثي الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط بتحديد الأولويات وقيادة المشروعات
البحثية. وإننا لعلى اقتناع بأن تمويل الأبحاث الدولية ينبغي أن يحكمه عامل
الجودة: جودة البحث، وجودة الشراكة البحثية. كما أن إنشاء أكاديميات علمية في
الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، على غرار الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم،
يمكن أن يسهم في تعزيز الاعتراف بالأبحاث التي تخرج من هذه المناطق. ويبقى أن الاعتراف
بالمكرَّمين والفائزين بالجوائز من باحثي الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط من
شأنه أن يبعث بإشارة مفادها أن أبحاثهم جديرة بأرفع الجوائز وأقيمها.
ما الدور المنوط بشباب الباحثين؟
بحُكم انخراط الباحثين الشباب في
الأعمال العلمية، فقد جرت العادة على أن يلحظوا قبل غيرهم وجود التفاوتات وأوجُه
غياب المساواة. على سبيل المثال، قبل أن يخرج محمد شعبان من مصر، تمكن من أن يحجز
لنفسه مكانًا يغبطه عليه أقرانه في ورشةٍ نظَّمتها جامعة ستانفورد في كاليفورنيا
في عام 2016، للتدريب الفعلي على الأساليب العلمية المتقدمة في مجالي علم الأعصاب
والتصوير البيولوجي. لكنه لم يستطع حضور الورشة، وما أقعده عنها إلا أنه لم يجد
المال اللازم للسفر والإقامة. وفي ذلك تجلٍّ صارخ لهول الهوّة بين الذين يملكون
والذين لا يملكون من الباحثين. هذه التجربة هي ما حَدَتْ بشعبان إلى دعم الباحثين
غير المحظيين في أن يقتنصوا فُرص المشاركة في الورش الدولية المموَّلة تمويلًا
كاملًا. وقد حدث أن تواصل مع لجان المجتمع المهني، وبعث رسائل إلى منظمي الوِرَش،
واتصل بمؤسسة تمويلية دولية من أجل تأمين مِنَح سفر لطلاب من الدول ذات الدخل
المنخفض والمتوسط لحضور ورشة ستانفورد.
إننا نحثُّ شباب الباحثين من شتى
أنحاء العالم على الاستفادة من خبراتهم ومنصَّاتهم في تكوين شراكات علمية دولية
متينة. فحين يجتمع الباحثون في مقتبل مسيرتهم البحثية، ويتكاتفون معًا، يكون لهم
من الحيثية والثِّقَل في دعم الممارسات العلمية التي تتسم بالشمول والتكافؤ ما هو
أكثر وأقيَم من أي مُنجَز يمكن أن يتحقق بجهد فردي. وهؤلاء الباحثون يملكون من
القوَّة ما يمكنهم من تكوين شراكات دولية تقوم على أساس المنفعة المتبادلة، عوضًا
عن المساعدات؛ ومن دعم السياسات الدافعة نحو توخِّي العدالة والتكافؤ في إتاحة
الموارد، والمِنَح، وفُرَص النشر؛ ومن التشجيع على تنظيم مؤسساتنا للفعاليات
والأنشطة التي تستهدف مشاركة المهارات ونقل الخبرات؛ ومن المشاركة مع زملائنا على
اختلاف مشاربهم في استيعاب التحديات التي تعترض سبيل الباحثين الذين يكابدون
ظروفًا غير مواتية. وإلى الباحثين في مقتبل حياتهم العملية نوجِّه بعضًا من
الإرشادات الكفيلة بتغيير الوضع الراهن:
•
ساند البحث العلمي الذي يتسع للجميع، ومن شتى
أنحاء العالم، عن طريق التماس فرص التعاون مع مؤسسات بدول تتفاوت فيما بينها في
المستوى الاقتصادي. وقِف وراء البرامج التي تنظر إلى الشراكات على أنها فُرَص
للتعاون المتكافئ، وليست جهدًا أحادي الاتجاه. من ذلك، مثلًا، أن نانا منساه،
أثناء عمله لنيل درجة الدكتوراه، انضم إلى «رابطة
المجموعة الدولية لسرطان البروستاتا» PanProstate
Cancer Group من
أجل المساعدة في تحليل بيانات الجينوم الكامل لنحو ألف رجل يعانون سرطان
البروستاتا. ورأى كيف أن مجموعات العمل المصغَّرة تعزز فرص التعاون المتكافئ. فقد
كانت الرابطة تتبنَّى هيكلية إدارية "مسطحة"، أي غير هرمية، أتاحت
للباحثين على اختلاف أرصدتهم من الخبرة أن يسهموا في تحديد الأولويات. وأتيح له أن
يلتقي عددًا من كبار الباحثين القادمين من الدول مرتفعة الدخل، والذين يناصرون
فكرة أن تتحلَّى الدراسات الجينومية بالشمول بحيث تتسع لدراسة الجماعات البشرية
الإفريقية، والتقى كذلك علماء متخصصين في دراسة الجينوم.
•
ادعم المشاركة في اللجان، والهيئات، والمجموعات
التوجيهية، التي ترسم ملامح الشراكات الدولية وتحدد طبيعتها. واحرص على أن يكون
جهدك في هذا الشأن له فائدة، وليس بلا طائل، وأن يكون قائمًا على مبدأ تبادل
المنفعة، وأن يتواءم مع خبرات الباحثين في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط،
ويلبي احتياجاتهم. ومن خلال ذلك، تستطيع توسيع دائرة معارفك البحثية، وفي الوقت
تكون أقرب إلى معرفة الامتيازات التحديات.
•
احرص على التصدي للمشروعات البحثية التي تتطلَّب
بطبيعتها تبادل البيانات مع شركاء دوليين، وكذلك تبادل مخرجات العمل الميداني
معهم، والأدوات والخبرات. فهذا لن يوسّع نطاق العمل البحثي فحسب، وإنما سيسهم
أيضًا في خلق علاقة قوامها التكافؤ والتكافل، تعود بالنفع على الأطراف كافة. يحرص
أبيب دوت، مثلًا، على أن يتردد على جامعة غانا في العاصمة أكرا بين الفينة
والأخرى، بوصفه من خرّيجيها، لعقد ورش في مجالي علم الأعصاب الحاسوبي وتعلُّم
الآلة، وهي الفعاليات التي ترعاها المؤسسة الخيرية المسمَّاة «تريند إن أفريكا» TReND
in Africa. كان
لهذا الحرص من جانب دوت على مشاركة خبرته مع الطلاب في غانا أكبر الأثر في توعيتهم
بهذا المجال، وبث الاهتمام به في نفوسهم؛ ما حدا ببعضهم إلى التقدُّم لنيل
الشهادات العليا في هذين التخصصين.
•
اشترك مع غيرك من الباحثين في تشجيع المؤسسات
الأكاديمية وجهات التمويل على تغيير سياساتها، بما يكفل عدم تهميش الباحثين من
البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، أو — وهو الأنكى والأمضّ — استغلالهم عن
إرسال ما لديهم من عينات وبيانات إلى المختبرات الدولية، دون أن يعود عليهم ذلك
بفُرَص مكافئة.
•
بادر إلى تكوين علاقات مع الأفراد الذين يعملون
بالمؤسسات التي تربطها شراكة بمؤسستك، وأعضاء لجان الجهات التمويلية، والمسؤولين
بالحكومات المحلية؛ ذلك أن الباحثين في مستهل مسيرتهم المهنية، في البلدان مرتفعة
الدخل ومنخفضته على السواء، بحاجة إلى تشتمل دوائر معارهم على شخصيات محلية وأخرى
عالمية.
•
أصبح العالم أكثر ترابطًا من أي وقتٍ مضى. ولكي
يتغلب العالم على ما يعترضه من تحديات، ما أحوجه إلى أن ينظر إلى نجاح باحثي
البلدان منخفضة الدخل على أنه مساوٍ في الأهمية لنجاح أقرانهم في البلدان الغنية.
والعمل على بناء الجسور بين هذه البلدان وتلك ينبغي أن يكون سمةً أساسية في
المسيرة المهنية لكل باحث، إضافةً إلى الإسهام فيما من شأنه تحقيق الصالح العام.
تواصل معنا: