أخبار

الحقائق تتكشَّف عن داء الأمعاء الالتهابي.. والآمال تنتعش في التوصُّل إلى علاجات جديدة

نشرت بتاريخ 18 سبتمبر 2024

التقدم المُحرَز في فهم مسبِّبات هذا الاضطراب المناعي يمكن أن يجلب للمرضى علاجًا ناجعًا.

هيدي ليدفورد

داء «كرون»، وهو شكل من أشكال داء الأمعاء الالتهابي، عادةً ما يصيب الأمعاء (تصميم متخيَّل).
داء «كرون»، وهو شكل من أشكال داء الأمعاء الالتهابي، عادةً ما يصيب الأمعاء (تصميم متخيَّل).
Credit: SEBASTIAN KAULITZKI/SPL/Alamy Stock Images

عندما نشر الباحث في علم الجينات، جيمس لِي، ومعه زملاؤه، ورقةً بحثية في يونيو الماضي تربط بين جين بعينه وداء الأمعاء الالتهابي (IBD)، لم يكن يُقدِّر أنها ستحظى باهتمامٍ كبير من الرأي العام. لكن الأمور جرت على غير ما قدَّر لها.

عن هذا الاهتمام يقول: "غرقتُ فيه حتى أذنيّ".

في المحصلة، أُجري مع الباحث 25 لقاءً لإذاعات وصحف من شتى أنحاء العالم، فضلًا عن مئات الرسائل التي وصلت إلى صندوق بريده الإلكتروني من مرضى داء الأمعاء الالتهابي. يقول لي، الذي يعمل بمعهد فرانسيس كريك في لندن: "هذا يشهد على حجم انتشار داء الوباء الالتهابي، كما يشهد على اللهفة التي ينتظر بها المرضى ظهور علاجات أفضل".

دراسة لِي1، المنشورة على صفحات دورية Nature، واحدة من دراسات عدّة ظهرت في الآونة الأخيرة، وتبثُّ في نفوس مرضى داء الأمعاء الالتهابي الأمل في إمكان الوصول يومًا إلى خيارات علاجية أفضل، تراعي ما بين حالاتهم المَرضية من تمايُز. اكتشف لِي وفريقه أن التغيرات في نشاط جين بعينه — وهو جين مهم في الجهاز المناعي — يمكن أن تسهم في الإصابة بالمرض. وكشفت دراسة أخرى أن بعض المرضى لديهم أجسام مضادة تعطِّل بروتينًا يلعب دورًا مهمًا في الوقاية من الالتهابات2. وثمة دراسة ثالثة، تتبَّع فيها الباحثون الكيفية التي تتكيف بها البكتيريا المعوية مع بيئةٍ التهابية3.

يرى ديفيد أرتِس، عالم المناعة بكلية طب وايل كورنيل في مدينة نيويورك، أن هذه الدراسات، وإن كانت تبحث داء الأمعاء الالتهابي من زوايا مختلفة، إلا أنها مجتمعةً تعطي لمحةً عن الطُّرق التي ربما يكون في مقدور الأطباء أن يسلكوها سعيًا إلى وصف الدواء الذي يلائم حالة مريض داء الأمعاء الالتهابي أكثر من غيره. يقول: "مرضى داء الأمعاء الالتهابي ليسوا سواء. فإذا أمكن الوقوف على ما بينهم من اختلافات، ولو بمقدار، فأعتقد أنْ سيكون في إمكاننا علاج هؤلاء المرضى بصورةٍ أفضل".

أمراض تغيّر شكل الحياة

داء الأمعاء الالتهابي مرضٌ مؤلم، يسبب التهابًا مزمنًا في الجهاز الهضمي. ومن أكثر أشكال هذا الداء شيوعًا، التهاب القولون التقرُّحي (ulcerative colitis)، وما يُعرف بداء «كرون» (Crohn's disease). ومن الأعراض المرتبطة بكلا المرضين: الإسهال، والأنيميا، وتقلصات البطن.

لداء الأمعاء الالتهابي — شأنه شأن غيره من أمراض المناعة الذاتية — مسبِّبات على درجةٍ من الغموض والتعقيد، تجتمع فيها عناصر جينية وبيئية. والشيء المؤكَّد هو أن نسبة الإصابة بهذا الداء في ازدياد في مناطق شتّى من العالم4.

على مدار السنوات العشر الماضية، جمع الباحثون قائمة طويلةً من التغيُّرات الجينية المرتبطة بداء الأمعاء الالتهابي. غير أن لي وفريقه أقدموا على فحص منطقة في الجينوم لم يأبه لها إلا قلة من علماء الجينات؛ أو "صحراء جينية"، كما أطلق عليها لي، للدلالة على خلوّها من أية جينات أمكن التعرُّف عليها. يقول: "لم نكن نعرف ابتداءً ماذا سنجد. ولم ينته بنا المطاف إلا وقد وجدنا منظِّمًا رئيسيًا للاستجابات الالتهابية".

الخلايا المنتجة للمخاط (تظهر ملوَّنةً باللون الوردي) ترصِّع جدار الأمعاء لدى شخص يعاني من التهاب القولون التقرُّحي، وهو شكل شائع من أشكال داء الأمعاء الالتهابي.
الخلايا المنتجة للمخاط (تظهر ملوَّنةً باللون الوردي) ترصِّع جدار الأمعاء لدى شخص يعاني من التهاب القولون التقرُّحي، وهو شكل شائع من أشكال داء الأمعاء الالتهابي.

Credit: Steve Gschmeissner/Science Photo Library

هذا المنظِّم الرئيسي عبارة عن قطعة من الحمض النووي تتحكم في نشاط الجين ETS2، الذي يوجد بعيدًا عن «الصحراء الجينية». ووجد الباحثون أن زيادة نشاط هذا الجين تعزز قدرة الخلايا المناعية المسمَّاة البلاعم الكبيرة (macrophages) على زيادة الالتهاب.

ومما كشفت عنه الدراسة أيضًا أن فئة من أدوية السرطان، تُعرف بمثبطات البروتينات الكينازية المنشَّطة بالميتوجين (MEK inhibitors)، يمكن أن تحُول دون تنشيط الجين ETS2. اكتشف الفريق أن هذه الأدوية استطاعت إبطال تأثيرات البروتين ETS2، بما في ذلك إطلاق الجزيئات المعززة للالتهاب، في خلايا مستزرعة في المختبر. غير أن مثبِّطات البروتينات الكينازية المنشَّطة بالميتوجين، على حد قول لِي، يمكن أن تصبح سامَّة لأنواع أخرى من الخلايا إذا ما اعتمُد عليها لفترةٍ طويلة. ومن هنا، يعكف الفريق على البحث عن وسائل يمكن من خلالها توصيل هذه المثبِّطات إلى البلاعم الكبيرة، دون غيرها من الخلايا، قبل تجريب هذا الأسلوب العلاجي على مرضى داء الأمعاء الالتهابي.

أجسام مضادة مارقة

في دراسة أخرى، وجد الباحثون أن فئةً بعينها من مرضى داء الأمعاء الالتهابي ربما يتوفَّر لهم خيار علاجي جديد في المستقبل القريب. فقد عمدت صوفي هامبلتون، الباحثة في مناعة الأطفال بجامعة نيوكاسل البريطانية، يعاونها زملاؤها، إلى تحليل عينات مأخوذة من أطفال مصابين بهذا الداء. وتبيَّن للعلماء أن أجسام الأطفال المصابين كانت تنتج أجسامًا مضادة تعطل نشاط البروتين IL-102، علمًا بأن لهذا البروتين تأثيرًا مضادًا للالتهابات الأمعاء.

وعليه، أفاد الباحثون، في ورقةٍ نُشرت لهم في يوليو الماضي بدورية «نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن» New England Journal of Medicine، بأن وجود هذه الأجسام المضادة في أجسام الأطفال يعني عجز البروتين IL-10 عن إبطال النشاط الالتهابي في أمعائهم، ومن ثم وقوعهم ضحايا لداء الأمعاء الالتهابي. وبمجرد الكشف عن الرابط بين مرض هؤلاء الأطفال والبروتين IL-10، عُولج أحد الأطفال بعلاجات الهدف منها القضاء على هذه الأجسام المضادة، ومن ثم تخفيف الأعراض.

وذكرت هامبلتون أن أحدًا لا يعرف عدد أو نسبة مرضى داء الأمعاء الالتهابي الذين تنتج أجسامهم هذه الأجسام المضادة التي تستهدف البروتين IL-10. ولكن عندما فحص الفريق عينات مأخوذة من مرضى بالغين، تبيَّن لهم أن أجسام بعضهم تنتج هذه الأجسام المضادة أيضًا، وإن كانوا يشكِّلون "أقلية" من جملة المرضى. تقول: "لا شكَّ عندنا في أن هذه الطريقة العلاجية ستكون آليةً مسانِدة في علاج مزيدٍ من المرضى".

تفاعُل ميكروبيومي

يُضاف إلى عنصرَي الجينات والخلايا المناعية عنصر ثالث، يُعتقد أن له علاقة بداء الأمعاء الالتهابي، هو الكائنات الدقيقة. ففي دراسة ثالثة، أقدم كريستوفر سميلي، المتخصص في دراسة الميكروبيوم البشري بكلية طب هارفارد في بوسطن، رفقة زملائه، على فحص أثر الالتهاب المزمن في تشكيل تطوُّر الكائنات الدقيقة التي تسكن الجهاز الهضمي3.

تمكَّن الفريق من التعرُّف على 14 ألف سلالة فيروسية في عيّنات البراز المأخوذة من مرضى داء الأمعاء الالتهابي. وأمكن ربط المئات من هذه السلالات الفيروسية بالمرض، ويبدو أن الكثير منها قد تكيَّفت على العَيش في أنسجة ملتهبة. ويمكن الاعتماد على العديد من هذه السلالات في تقدير شدة المرض. من ذلك، على سبيل المثال، أنه قد لوحظ انخفاض كثافة بعض سلالات البكتيريا Eggerthella lenta مع ارتفاع مستويات البروتين المرتبط بالالتهاب. ونُشرت نتائج هذه الدراسة في شهر يوليو الماضي بدورية «سِل هوست آند ميكروب» Cell Host & Microbe.

وفي الأخير، يأمل سميلي في أن يقود توصيف هذه الكائنات الدقيقة إلى ابتكار وسائل لمتابعة حالة المرض، وتقسيم مرضى داء الأمعاء الالتهابي إلى فئات، تبعًا لفُرص استجابتهم للعلاجات المزمع تطويرها.

كل دراسة من هذه الدراسات يمكن أن تسهم في بلوغ هذا الهدف. هذا مع الإقرار بأن هذا المسعي لا يزال في أوَّله، حسب قول جابرييل نونيز، عالم المناعة بكلية طب جامعة ميشيجان، ومقرُّها مدينة آن آربور الأمريكية، الذي أضاف قائلًا إن دراسة المرض من زاوية الميكروبيوم، على سبيل المثال، لا تظهر دورًا لأيٍّ من الكائنات الدقيقة في الإصابة به. كما لم تُعرف نسبة مرضى داء الأمعاء الالتهابي الذين يعانون تغيُّرًا في نشاط الجين ETS2، أو تنتج أجسامُهم أجسامًا مضادة تستهدف البروتين IL-10. يقول: "لا يبعُد أن يكون هؤلاء قلةً قليلة، بحيث يستفيد من العلاج بضعة أشخاص يُعدُّون على الأصابع".

غير أنه يعود فيستدرك قائلًا إنه حتى لو لم يُفِد من هذه النتائج إلا بضعة أشخاص، فهذا بحد ذاته يُعتبر تقدُّمًا، مؤكدًا أنه "حتى لو لم يُعالَج سوى شخص واحد، فيبقى أن العلاج مهم لذلك الشخص وأسرته".

 

* هذه ترجمة للمقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 16 أغسطس 2024.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.292


References

  1. Stankey, C.T. et al. Nature 630, 447–456 (2024).
  2. Griffin, H. et al. N. Engl. J. Med. 391, 434–441 (2024).
  3. Kumbhari, A. et al. Cell Host & Microbe 32, 1147–1162 (2024).
  4. GBD 2017 Inflammatory Bowel Disease Collaborators. Lancet Gastroenterol. Hepatol. 5, 17–30 (2020).