أخبار

عاصفة من الجدل أشعلها حصول الذكاء الاصطناعي على اثنتين من جوائز نوبل

نشرت بتاريخ 14 أكتوبر 2024

في الوقت الذي احتفى فيه باحثون بالإعلان عن فوز التقنية باثنين من جوائز نوبل لهذا العام، في مجالي الكيمياء والفيزياء، جاء هذا الإعلان مخيبًا لآمال البعض بسبب تسليطه الاهتمام على التقنيات الحوسبية.

• دافيديه كاستلفيكي • إيوين كالاواي • ديان كوون

ذهبت جائزة نوبل في الكيمياء لهذا العام إلى باحثين نجحوا في تطوير أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتصميم البروتينات والتنبؤ بالبِنى البروتينية.
ذهبت جائزة نوبل في الكيمياء لهذا العام إلى باحثين نجحوا في تطوير أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتصميم البروتينات والتنبؤ بالبِنى البروتينية.
حقوق نشر الصورة: Christine Olsson/TT News Agency via AP/Alamy

في اثنين من جوائز نوبل لهذا العام، أقرت لجان اختيار الفائزين بالجوائز بالإمكانات الثورية التي تفجرها تقنيات الذكاء الاصطناعي. فجاءت جائزة الفيزياء تكريمًا  لرواد ابتكار الشبكات العصبية الاصطناعية ، وكرَّمت جائزة الكيمياء باحثين يُنسب إليهم الفضل في تطوير أدوات حوسبية لدراسة البروتينات وتصميمها غير أن هذا الإعلان جاء أيضًا باعثًا على الاستياء بين بعض الباحثين.

فبعد دقائق من إسدال الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم الستار عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل في الفيزياء لهذا العام، ثارت ضجة على وسائط التواصل الاجتماعي، دفع خلالها بعض من علماء الفيزياء بأن الفيزياء لم تكن فعليًا القاعدة التي ارتكز عليها تطوير تعلُّم الآلة، التقنية التي تحتفي بها جائزة الفيزياء الممنوحة لكل من جيفري هينتون وجون هوبفيلد هذا العام.

على سبيل المثال، تعقيبًا على الجائزة، كتب جوناثان بريتشارد، اختصاصي الفيزياء الفلكية من كلية إمبريال كوليدج لندن  في تغريدة على منصة «إكس» X (تويتر سابقًا): "لا أجد تعبيرًا مناسبًا عما أشعر به! تستهويني تقنيات تعلُّم الآلة والشبكات العصبية الاصطناعية كأي شخص آخر، لكنني أجد صعوبة في تُخيل أن هذه التقنيات جاءت من رحم اكتشاف فيزيائي. لذا، أعتقد أن جوائز نوبل تأثرت بالضجة التي فجرها الذكاء الاصطناعي".

أما سابين هوسِنفيلدر، اختصاصية علم الفيزياء من مركز ميونخ للفلسفة الرياضية في ألمانيا، فتقول إن الأبحاث التي أجراها هينتون من جامعة تورونتو في كندا، وهوبفيلد من جامعة برينستون في ولاية نيوجيرسي الأمريكية "تدخل في مجال علوم الحاسوب. في حين أن جائزة نوبل السنوية للفيزياء تُعد فرصة نادرة لتسليط الضوء على هذا العلم ولبزوغ نجم عدد من الفيزيائيين. ففي يوم الإعلان عن الجائزة قد يتذكر أصدقاء وأسر الفائزين بها صلتهم بعالم فيزياء، وربما يسعون إلى سؤال هذا العالِم عن الأساس الذي ارتكز عليه فوزه بهذه الجائزة، لكن الوضع اختلف هذا العام".

تخصصات متداخلة

غير أن إعلان فوز الذكاء الاصطناعي بجائزة الفيزياء لم يكن مثار استياء بين الجميع، فبعض الفيزيائيين رحَّب بهذا النبأ. على سبيل المثال، يقول مات ستراسلر، اختصاصي علم الفيزياء النظرية من جامعة هارفارد في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية: "أبحاث هوبفيلد وهينتون تداخلت فيها تخصصات مختلفة، فجمعت بين الفيزياء، والرياضيات، وعلوم الحاسوب، وعلوم الأعصاب. ومن هذا المنطلق، تأتي هذه الأبحاث من رحم جميع هذه المجالات".

أما آنيل آنانثاسوامي، الكاتب المتخصص في مجال العلوم، من مدينة بيركلي في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وهو مؤلف كتاب «لِم تتعلم الآلات؟» Why Machines Learn، فيوضح لنا أن أبحاث هوبفيلد وهينتون التي لفتت إليها جائزة نوبل في الفيزياء قد لا تُوسم بأنها من صميم الفيزياء النظرية، لكنها تستمد جذورها من تقنيات ومفاهيم في علم الفيزياء، كمفهوم الطاقة، على سبيل المثال". ويشرح ذلك قائلًا: "شبكات بولتسمان التي ابتكرها هينتون، وشبكات هوبفيلد تُعدان من "نماذج (الفيزياء) القائمة على الطاقة".

ومع التطورات اللاحقة التي شهدها مجال تعلُّم الآلة تتجلى أكثر قوة ارتباط أبحاث العالِمين بالفيزياء، وتتضح قوة هذه العلاقة بالأخص في مجال تقنيات «التغذية الأمامية للشبكات العصبية» والتي سهلت تدريب شبكات الذكاء الاصطناعي العصبية. فيتبين أن مبادئ علم الفيزياء بدأت تستعيد أهميتها، وهي اليوم تساعد الباحثين في فهم الآليات التي تحرك عمل أنظمة شبكات التعلم العميق متزايدة التعقيد. فتقول لينكا زديبوروفا المتخصصة في دراسة الفيزياء الإحصائية من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا: "نحتاج إلى مقاربات علم الفيزياء لدراسة تعلُّم الآلة".

ومن جانبه، يضيف جيورجيو باريسي، اختصاصي علم الفيزياء من جامعة سابيينزا في العاصمة الإيطالية روما، والذي تقاسم الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء مع فائزين آخرين عام 2021: "أرى أن جائزة نوبل في الفيزياء ينبغي أن يتواصل اتساع نطاق آفاقها بحيث تطرق مناطق جديدة من علم الفيزياء. فعلم الفيزياء آخذ في الاتساع، وبات يشمل العديد من المجالات المعرفية التي لم توجد في السابق، أو كانت منبتة الصلة بهذا العلم".

الذكاء الاصطناعي ليس وليد اللحظة!

بدا أن علوم الحاسوب ستواصل استحواذها على جوائز نوبل بعد الإعلان عن الفائزين بنوبل في الفيزياء، وذلك عندما انتزع نصف جائزة نوبل في الكيمياء ديميس هاسابيس وجون جامبر، عن دورهما في  تطوير أداة الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالبِنى البروتينية «ألفا فولد» AlphaFold، في شركة «ديب مايند» DeepMind الكائنة في لندن والتابعة لشركة «جوجل». (ذهب النصف الآخر من قيمة الجائزة لديفيد بيكر من جامعة واشنطن في ولاية سياتل الأمريكية، عن أبحاثه في مجال تصميم البروتينات، والتي لم توظِّف تعلُّم الآلة".

جاءت هذه الجائزة إقرارًا بقدرة الذكاء الاصطناعي على صنع طفرة تقلب الموازين، إلا أنها احتفت في الوقت نفسه بالخطى المُطَّردة التي تراكمت بها المعارف في مجالي البيولوجيا البنيوية والبيولوجيا الحاسوبية، بحسب ما يفيد ديفيد جونز اختصاصي علم النظم المعلوماتية البيولوجية من كلية لندن الجامعية، والذي جمعه تعاوُن بحثي مع شركة «ديب مايند» في تطوير النسخة الأولى من نموذج الذكاء الاصطناعي «ألفا فولد».  فيقول في هذا السياق: "لا أحسب أن الأبحاث التي ارتكز عليها نموذج «ألفا فولد» قد انطوت على ثورة لم تكن قد تحققت بالفعل. بل تعلق الأمر بالكيفية التي صُمم بها هذا النموذج واستُحدث على نحو لا تشوبه شائبة، ما سمح له ببلوغ ما بلغه من آفاق".

على سبيل المثال، من المدخلات الرئيسة التي يستخدمها «ألفا فولد» تسلسلات الحمض النووي للبروتينات المتقاربة تطوريًا من كائنات حية مختلفة. هذا يسمح بالوقوف على أزواج الأحماض الأمينية التي مالت إلى التطور معًا، والتي قد تكون بالتبعية متجاورة في البِنى ثلاثية الأبعاد للبروتينات. وعندما ابتُكر نموذج «ألفا فولد»، كان عدد من الباحثين قد بدأ بالفعل في الاستعانة بهذه المعطيات للتنبؤ بالبِنى البروتينية، بل وكان بعضهم قد أخذ في تلقيم الشبكات العصبية الاصطناعية للتعلم العميق بهذه المعطيات.

بيد أنه، في ذلك السياق، يستدرك جامبر في مؤتمر صحفي انعقد في شركة «ديب مايند» في التاسع من أكتوبر الجاري :"لم نذهب إلى العمل ونضغط زر تفعيل الذكاء الاصطناعي، ليولد ببساطة هذا النموذج، ونعود أدراجنا إلى منازلنا. لقد كان نتاج عملية تكرارية من الابتكار، والبحث، والتوفيق بين ما عرفه المجتمع العلمي عن البروتينات والكيفية التي يمكننا بها تضمين هذا الحدس المعرفي في تصميماتنا".

كذلك لم يكن نموذج «ألفا فولد» ليخرج إلى النور لولا «بنك البيانات البروتينية»Protein  Data Bank ، وهو مستودع بيانات متاح مجانًا، يضم بيانات أكثر من 200 ألف بِنية بروتينية، منها بِنى لعبت دورًا في جوائز نوبل سابقة، وتحددت باستخدام تقنية تصوير البِنى البلورية بالأشعة السينية وتقنية الفحص المجهري الإلكتروني بالتبريد الفائق، وغير ذلك من التقنيات التجريبية. فبتعبير جامبر: "كل نقطة بيانات بالنموذج تعبر عن سنوات من الجهد الذي بذله شخص ما".

منذ منح نوبل للمرة الأولى في عام 1901، تمحورت الجائزة في الأغلب حول أثر الأبحاث في المجتمعات، وكثيرًا ما كرّمت الابتكارات العملية، وليس دائمًا العلوم البحتة.  وبالأخذ في الاعتبار هذا الجانب، بتعبير أنانثاسوامي، لا تُعد جوائز هذا العام حدثًا فريدًا من نوعه. ويعلل لذلك قائلًا: "أحيانًا ما تُمنح الجائزة لمشروعات هندسية فذة. منها مشروعات تقنيات الليزر وتقنيات تفاعلات البوليمراز المتسلسل".

نُشر هذا المقال في دورية Nature بتاريخ 10 أكتوبر عام 2024.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.316