نشرت بتاريخ 6 نوفمبر 2024
تقول آنا باستوس إن اكتشافها كيفية عمل دماغها
ساعدها على الموازنة بين حياتها الأكاديمية وسلامتها النفسية.
قبل بضع سنوات، وقعت عيني على لافتة إعلانية
كُتب عليها: "معنا ستصبح سائق حافلة"، وإذا بالإعلان يصادف هوًى في نفسي!
كنتُ حينها ملتحقةً ببرنامج ما بعد الدكتوراه الثاني، ومنهمكةً في العمل على
العديد من المهام والالتزامات: ما بين التدريس، وتجاربي الأولى في الإشراف على
الرسائل العلمية – يُضاف كل ذلك إلى محاولة التكيف مع الحياة في بلد جديد، وخوض
علاقة عاطفية عن بُعد. بلغ الإجهاد منّي مبلغه، وبُحتُ للطبيب بأني أتمنى من أعماق
قلبي لو أنام فلا أصحو من نومي أبدًا. ورأى الطبيب في ذلك إشارةً غير مبشرة.
كانت لي خبرة سابقة بالاكتئاب، فعرفتُ أني
كنتُ بحاجة إلى التماس المساعدة من متخصص. أما ما لم أكن أعرفه، فهو أنه كان ثمة سبب
أعمق لقلقي الدائم، ونومي المضطرب، والدخول في نوبات متكررة من الإجهاد والكلل،
والشعور بأن العمل المطلوب يفوق طاقتي. وما هي إلا سنوات قليلة حتى عرفتُ أن هذا
كلَّه مما يندرج في الأعراض المصاحبة لاضطراب قصور الانتباه وفرط النشاط (ADHD).
كانت هذه المعلومة، على بساطتها، كفيلةً
بأن تغيِّر نظرتي إلى كل شيء، وساعدتني على رؤية نفسي من خلال عدسة التنوع العصبي:
لا على أني شخص غريب أو خارج عن المألوف، بل شخص تختلف تركيبته النفسية عن تركيبة الكثيرين
ممن حولي.
ولكن ما الذي أستطيع فعله حيال ذلك؟ الكل
يعلم أن بيئة العمل الأكاديمي تغلفها حالة من المنافسة الشديدة، وألا شيء فيها
مضمون، وأن العاملين فيها مطالبون دائمًا بفعل ما هو أكثر، والعمل بوتيرة أسرع، وأن
للجوانب الاجتماعية أهميتها في المجال الأكاديمي، وأنه مُترع بمظاهر البيروقراطية
الجامدة. تشكل هذه السمات تحديات كبرى للأدمغة التي تحركها الدوافع، وتمتاز بقوة
الملاحظة – ومن ثم يسهُل تشتيت انتباهها، كما هي حالتي – والتي غالبًا ما تعاني من
خلل في إدارة المشاعر، وضعف في التحكم في الدوافع، والافتقار إلى القدرة على تحمل
الإحباطات.
في أثناء الإجازة المرضية التي أخذتُها
إثر حالة الإجهاد والكلل التي أفضت إلى تشخيص حالتي بهذا الاضطراب، كان لديّ متَّسع
من الوقت للتفكير بعمق. وحينها أدركتُ أن إصابتي باضطراب قصور
الانتباه وفرط النشاط كانت من أسباب تقدمي في حياتي المهنية؛ فقد عزز الاضطراب،
على سبيل المثال، رغبتي في العمل في تخصصات مختلفة في الوقت نفسه. وعلى مدى العقود
التي أمضيتها قبل التشخيص بين الدراسة والعمل، اكتسبتُ عادات وأدوات أفادتني كثيرًا
في التعامل مع هذا العالم الذي لا يعترف بالتنوع العصبي.
أستعرض فيما يلي بعض الأمور التي ساعدتني
أكثر من غيرها في طريقي من الدراسات العليا إلى الأستاذية، لكنها قطعًا ليست كل
شيء. وآمل أن تكون هذه النصائح عونًا للعلماء الذين ما زالوا يقطعون الخطوات
الأولى في مسيرتهم المهنية، ويعانون مثلما عانيتُ في الماضي، ومثلما أعاني إلى
الآن في بعض الأحيان.
احرص على مزاولة النشاط البدني
لاحظتُ أن الفترات التي كانت فيها صحتي النفسية
في أفضل حالاتها هي تلك الفترات التي أكثرتُ فيها من النشاط البدني، من خلال
ممارسة الرياضة والرقص على سبيل المثال، مع تحفيز عقلي من خلال ممارسة هوايات مثل
تعلُّم لغات جديدة. ولذلك أحرص على ألا يخلو جدولي الأسبوعي من الأنشطة الرياضية،
وأضع لنفسي أهدافًا رياضية لكيلا يفتُر حماسي.
يساعدني النشاط البدني على النوم بشكل أفضل،
ويقلل من شعوري بالقلق. ويحدث أحيانًا أن أقصد حمام السباحة لا لشيءٍ إلا ليتسنى
لي أثناء السباحة التفكير في مشكلات معقدة، أو تطوير أفكار مقترحة.
عليك بإدارة الجهد، لا الوقت
أمضيتُ من الساعات ما لا يُعد ولا يُحصى وأنا
أحاول استخدام أدوات إدارة الوقت الشائعة، لينتهي بي الحال وأنا أتجاهل إشعارات لا
حصر لها لأخذ قسط من الراحة، بينما أحاول تصحيح خطأ برمجيّ، أو أحدِّق في شاشة
حاسوبي، أو وأنا أقاسي شعورًا بالغثيان أثناء محاولة تطبيق مبدأ «أكل الضفدع»؛ أي
القيام بالمهمة الأصعب أولًا.
عوضًا عن إدارة الوقت، أصبحتُ أحرَص على
إدارة دوافعي، من خلال تحديد أهداف يومية وأسبوعية. ففي بداية الأسبوع، أضع في مفكرتي
أهدافًا لكل يوم من أيام الأسبوع: مهمة كبيرة واحدة في اليوم، وبجانبها مهام أصغر،
مع تحديد المهام العاجلة. وفي الوقت نفسه، أتجنب إضافة مهام تتطلب التركيز في
الأيام التي أعلم أنني سأكون فيها عرضة لتشتت الانتباه، وأعيد توزيع المهام غير
العاجلة بين الأيام حينما لا أجد في نفسي إقبالًا على النهوض بها.
أبدأ يومي في الصباح الباكر، حتى أتمكن من
قضاء بعض الوقت بلا مشتتات، بحيث يمكنني التركيز جيدًا على المهام التي أجدها أكثر
تحفيزًا، مثل الكتابة أو تحليل البيانات، أو الانتهاء من المهام العاجلة. وهكذا، تساعدني
هذه البداية الإيجابية على متابعة أداء ما يُستتبع من مهام على مدار اليوم.
استحضِر الدوافع
تبقى بعض المهام صعبةً عليَّ ما دمتُ أفتقر
إلى الدافع المناسب. ولإنجاز هذه المهام، أحاول العثور على طرق مختلفة لتحفيز
نفسي. أُعدُّ كوبًا من الشاي، وأرتدي نظارة القراءة وسماعات الرأس، فيكون من شأن
ذلك أن يتهيَّأ الدماغ للبدء في العمل المراد إنجازه. تعمل الموسيقى على تحفيز دماغي،
ويمكن أن تضعني في حالات مزاجية معينة. على سبيل المثال، لديَّ قائمة موسيقية
بعينها أستمع إليها لدى التحضير لمناقشة الأطروحات البحثية، وعادةً ما أستبق
المناقشة برقصٍ محموم لبضع دقائق.
ثم إنني أحرص على مكافأة نفسي عند إنجاز
مهمَّة صعبة؛ فأقصد حمام السباحة، مثلًا، أو أشاهد فيلمًا. كما أحدد لكل عملٍ
أمدًا زمنيًّا لا أتعدَّاه، عادة ما يسبق الموعد النهائي المضروب بأيام أو أسابيع،
فأزيد بذلك الدافع الذي تحركه الضرورة. ولا تنسَ أن هذه البحبوحة من الوقت تتيح لي
فرصة إجراء المراجعات النهائية وإصلاح الأخطاء.
كن منظَّمًا
الحفاظ على مكان عمل منظَّم وآلية عمل
ثابتة يقلل من عوامل التشتيت، ويساعدني على تجنب الأخطاء وتذكر الأشياء التي يمكن
أن أنساها لو لم أفعل ذلك. ولذا أحمل دائمًا مفكرتي الأسبوعية، وأستخدمها لا
لإدارة المهام فقط، ولكن أيضًا للاحتفاظ في مكان واحد بالملاحظات والأفكار وخطط
السفر. أدوِّن كل الأشياء المهمة، وعندما أعرف أنني سأحتاج إلى تذكيرٍ بالموعد النهائي
لعملٍ ما، أحرص على إبرازه في مفكرتي، وأضع تذكيرًا به على هاتفي المحمول.
وإلى ذلك، فإنني أقسِّم المشاريع الكبيرة
إلى مهام صغيرة، بحيث تبدو أخف وطأة وأيسر تنفيذًا، ثم أعيد تجميعها لأرتب المهام حسب الجدول الزمني الذي
حددته.
اطلب المساعدة والتمس الدعم
بالنسبة إلى شخصٍ يواجه صعوبات نفسية، أو
يحاول جاهدًا التكيُّف مع متطلبات مهنة جديدة، يمكن أن يكون الوسط الأكاديمي مكانًا
موحشًا، يثير في النفس شعورًا بالوحدة. وبسبب السعي المحموم إلى التفوق، جنبًا إلى
جنب مع ما يرتبط بالاضطراب النفسي من وصم اجتماعي، ربما يكون من الصعب أن نتحدث بصراحة
عن التحديات التي نواجهها. وكثيرًا ما يكون الدعم المؤسسي للصحة النفسية غائبًا أو
غير كافٍ، في حين أنه من الضروري استشارة طبيب متخصص لتجنب الدخول في دوامة. ولذا
فأنا على يقين من أنني لم أكن لأصل إلى ما وصلتُ إليه من تقدم في مسيرتي المهنية
دون حصولي على العلاج والمساعدة الطبية.
وكان مهمًّا أيضًا، بل على نفس القدر من
الأهمية، أن أقابل زملاء ومرشدين أثق فيهم، ويمكنني اللجوء إليهم للبوح أو التماس
المشورة. منهم استمدَّيتُ القوة والقدرة على المواصلة، وأروني أن الأخبار المثيرة
وقصص النجاح البراقة، تخفي تحتها وجهًا آخر للوسط الأكاديمي:
قد
يكون أقل بريقًا، إلا أنه أصدق وأرحمأكثر
صدقًا وتعاطفًا.
أمسك بزمام الأمور شيئًا فشيئًا
مع تقدم المرء في حياته المهنية، سترِدُ
عليه مسؤوليات وتحديات جديدة. أصبحتُ أتقبَّل الآن أنني أحتاج إلى مدة تربو على العام
لكي أتكيف مع البيئات الجديدة، وأنني خلال تلك المدة، سيتعين عليَّ على الأرجح أن أربِّي
عادات جديدة للتكيف مع الأوضاع الجديدة.
ليس من السهل دائمًا أن نحدد مصادر
التوتر، فضلًا عن أن نحدد التغييرات السلوكية أو الإدراكية التي يمكن أنا تساعدنا
في التكيف مع المواقف الجديدة. ولذا أحاول أن أرفق بنفسي حينما أشعر بثِقل الأشياء
على نفسي، أو حينما أعجز عن الوفاء بما هو مُتوقع مني، فأنا أعلم أنه من خلال تبني
هذا المسار، والتحلِّي بالصبر فيه ما استطعتُ إليه سبيلًا، سأستعيد توازني في
نهاية المطاف، ولكن ببطء.
أدرك الآن أن العمل في مجال العلوم يمكن
أن يكون خيارًا رائعًا للعقول التي هي بطبيعتها فضولية وإبداعية ومثابِرة ومفعمة بالحيوية
ومجبولة على قوة الملاحظة. لكن استيعاب هؤلاء الأفراد يتطلب الاعتراف بوجود طرق
متنوعة للتفكير والعمل والتواصل، والسعي إلى امتلاك بيئات عمل تتسع للجميع. من شأن
هذا النهج أن يعود بالنفع على الجميع: النمطيين والمتنوعين عصبيًّا على السواء.
تواصل معنا: