منذ آلاف الأعوام بدأ مزارعي منطقة الهلال الخصيب - وهي المنطقة الممتدة من مصر (كما هي حاليا) مروراً بلبنان وسوريا وجنوب تركيا والعراق- في الزراعة الحديثة، التي أسست بدورها نمواً وازدهاراً في المجتمعات الحديثة والحضارة الإنسانية. وقد بدأت زراعة العديد من المحاصيل الغذائية الرئيسية في العالم، ومنها القمح، في تلك المنطقة.
والآن بعد مرور ما يقرب من 10,000 عام، أصبح الوضع الغذائي في المنطقة التي بدأ بها العمل بالزراعة المنتظمة من بين أكثر ألأوضاع تقلباً في العالم. فقد أدى ارتفاع أسعار الغذاء في العالم عام 2008 إلي نزول الآلاف إلى الشوارع للاحتجاج. اليوم أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي المنطقة الأكثر اعتماداً على استيراد الغذاء، وتشير التوقعات إلي أن هذا الاعتماد سوف يزداد زيادة كبيرة في خلال العقدين القادمين. إن تحديات النمو السكاني والتغير المناخي والفقر المائي والتصحر، يشكلون تهديدا مؤثراً علي الجهود الإقليمية التي تبذلها حكومات تلك المنطقة من أجل الإقلال من الفقر وضمان الأمن الغذائي للملايين من الأفراد.
هناك عاصفة شديدة تقترب من مهد الزراعة.
أسرعت الحكومات بالاستجابة لإنذارات الكارثة المتوقعة من خلال إجراء الإصلاحات السياسية اللازمة للتوسع في شبكات الأمن للفقراء، والقيام باستثمارات جديدة في القطاع الزراعي بما في ذلك الأبحاث الزراعية. ويجب أن يحظى زيادة الاستثمار في الأبحاث الزراعية من أجل التنمية بالمرتبة الأولى في اهتمام الحكومات بالمنطقة. فعلى مدار السنين اتضح الارتفاع الكبير المستمر للعائد الناتج من الأبحاث الزراعية. وعلى الرغم من ارتفاع نسبة العائد إلي 36% في البلاد العربية، فإن قطاع الأبحاث الزراعية في المنطقة يحظى بأقل تمويل مقارنة بأي منطقة أخرى في العالم.
هناك تطور واعد آخر، فوزراء الزراعة ببعض بلاد المنطقة - بما في ذلك مصر والمملكة العربية السعودية واليمن وعمان وأفغانستان وتونس وسوريا- سيحضرون أول مؤتمر عالمي عن الأبحاث الزراعية من أجل التنمية (GCARD) المنعقد في مدينة مونبيليه في فرنسا من 28 إلى 31 مارس الجاري. وعدد من القيادات السياسية الأخرى والعلماء والمزارعون وممثلي المجتمع المدني سيعطون أصواتهم لجهد جديد من أجل إصلاح أجندة الأبحاث الزراعية والعمل كمجتمع واحد لتحسين تلك الأبحاث.
يأتي هذا الجهد في وقت حرج. فالجفاف الحديث في المنطقة أظهر واقع التغير المناخي، وقد أظهرت الأزمة العالمية للغذاء والأزمة العالمية المالية ضعف المنطقة في مواجهة التغيرات الاقتصادية العالمية، وأصبح هناك احتياج مُلح للعمل حتى تصبح نظم الزراعة في المنطقة أكثر مرونة في مجابهة التغيرات المناخية.
إن المزارعين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معتادون على زراعة محاصيلهم وتربية ماشيتهم في وسط بيئة قاسية، وهم الآن في حاجة إلى علماء لمساعدتهم على تكيف نظم زراعتهم مع التقلبات الناتجة عن التغير المناخي، وتطوير اختيارات جديدة منتجة تربطهم بالأسواق بطريقة آمنه. كما يحتاج المزارعون أيضا إلى العلم لمساعدتهم على تطوير أصناف زراعية وتطوير ممارسات إدارية جديدة من أجل ضمان تحقيق حصاد مستديم يمكن الاعتماد عليه، دون إرهاق لموارد المياه الشحيحة بالفعل.
المؤتمر العالمي عن الأبحاث الزراعية من أجل التنمية - وهو الأول من نوعه- سوف يجمع الأفراد الذين ينتجون والذين يستخدمون المعرفة الزراعية سواء في المعامل أو في القرى، من أجل المشاركة في الآراء والخبرات والتي من شأنها أن تسفر عن إستراتجية لمعالجة تلك التحديات. وفي بعض الحالات قد نحتاج إلى إعادة التفكير وتنحية مناهج قديمة جانباً لحل مشاكل جديدة.
على سبيل المثال سيؤثر التغير المناخي على الأمطار وعلى أنماط الحرارة، كما سيكون له أثر مباشر على مصادر المياه الشحيحة في معظم بلدان المنطقة. إن توافر المياه له تأثير مباشر على مدي توافر الغذاء. ولتفادى الأزمات المستقبلية سواء غذائية أو اقتصادية أو اجتماعية، فإنه يجب أن نشكل جبهة موحدة لمعالجة استخدام المياه في الزراعة الآن.
ليس بمقدور العلماء بمفردهم مواجهة هذه المشاكل، فقد ازداد الطلب على العلم استجابة للضغط المتزايد على كل من المزارعين والأرض بغرض الوصول إلى إنتاج كميات أكبر من المحاصيل الغذائية لمواكبة النمو المتزايد للسكان، ولزيادة تكثيف استخدام الأرض للمحاصيل والحيوانات، والضغط الناجم عن الزراعة المستمرة وتغير متطلبات النظم الغذائية ونقص المياه المتواصل.
ومن ثم فنحن ندعو للتغيير الذى سوف يخلق نظاما لتوصيل المعرفة إلى المزارعين، ويسمح لهم بالتأثير على الباحثين وعلى الاختيارات التي يتخذونها فيما يتعلق بالمشاكل التي يجب دراستها والحلول التي يجب إتباعها. هذه الدعوة للتغيير تتوافق مع الإصلاحات التي تقوم بها المجموعة الإستشارية للأبحاث الزراعية الدولية (CGIAR)، وهي ائتلاف عالمي يضم حوالي 8,000 باحث، تعمل من أجل تحقيق هدفها نحو مكافحة الفقر والجوع مع الحفاظ على البيئة. وهذه الإصلاحات في النظام الدولي يجب أن يقترن بها إصلاحات واستثمارات جديدة على المستوى القومي، للتأكد من أن النتائج التي تقدمها الأبحاث يمكن للمزارع استخدامها، وأن الجهود الدولية مرتبطة باستراتيجيات قومية لتحسين الأمن الغذائي.
المركز الدولي للأبحاث الزراعية في المناطق الجافة، هو أحد المراكز الدولية التي تدعمها CGIAR، وهو حاصل على تفويض عالمي لتحسين الزراعة في الأماكن الجافة بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهذا المركز يقوم بعمل أبحاث زراعية في المنطقة منذ أكثر من 30 عاماً بالمشاركة مع المؤسسات القومية للأبحاث والتنمية.
كانت منطقة الشرق الأوسط رائدة في الابتكارات الأولية في الزراعة، وقد حان الوقت لنا لمواجهة التحديات الحالية، والمساعدة على إيجاد منهج للبحث والتنمية في القرن الحادي والعشرين يركز علي المزارع. وهذا التحول ليس باليسير، حيث يستلزم دعم راسخ من الحكومات والمزارعين والعلماء ومن قيادات أخرى في القطاعين العام والخاص.
وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فإن الوقت عامل جوهري.
عادل البلتاجي هو المدير السابق للمنتدى العالمي للأبحاث الزراعية (GFAR). محمود صلح هو المدير العام للمركز الدولي للأبحاث الزراعية في المناطق الجافة (ICARDA).
تواصل معنا: