سرعان ما يضيق الخناق على المجتمع العلمي في سوريا ـ وبوحشية في كثير من الأحيان ـ إذا حاول أي عالِم معارضة النظام الحاكم علنًا، خاصة خلال الحملة التي تشنها الحكومة حاليًا ضد احتجاجات المعارضة التي تجتاح البلاد، حيث توجه هذه الاحتجاجات المُعارِضة اتهامات للحكومة السورية باستهداف العديد من العلماء بصورة متعمدة، بما في ذلك اغتيال أستاذ الفيزياء النووية أَوْس عبد الكريم خليل في أيلول/ سبتمبر الماضي.
عاشت العالمة السورية ريم تركماني، عالمة الفيزياء الفلكية في كلية إمبريل في لندن، وأمينة معرض "جذور عربية" في الجمعية الملكية في المملكة المتحدة الذي يقام حاليًا في لندن، بعيدًا عن سوريا على مدى سنوات عديدة، لكنها على اتصال مستمر بزملائها في الوطن، حيث يقاومون النظام.
تحدثت تركماني مع Nature Middle East بشأن الأحداث الجارية في سوريا، ومشاركة المجتمع العلمي في الانتفاضة، ودار معها هذا الحوار.
ما هو وضع البحث العلمي والتعاون الدولي في مجال العلوم في ظل حكم نظام بشار الأسد؟
- تشهد مستويات البحث العلمي في سوريا تراجعًا. هناك أمثلة متفرقة من البحوث الناجحة، التي ترجع بصورة أساسية إلى تفاني الأفراد المخلصين في أعمالهم وبحوثهم، لكن بشكل عام.. تفتقر سوريا إلى بعض أهم العناصر الضرورية لتشجيع البحث العلمي، مثل الحرية الفكرية، وتوافر التمويل المناسب للأبحاث.
لقد قلل النظام تمامًا من أهمية البحث العلمي، و لم تكن كافة مبادراته الرامية إلى إحياء البحث العلمي سوى ممارسة بيروقراطية.
والمعهد الوحيد الذي يتلقى تمويلاً مناسبًا واهتماما من النظام هو "مركز الدراسات العلمية والأبحاث" بدمشق. وعلى الرغم من أنه قد يبدو بسيطاً، وأن قسم الأبحاث المدنية كان فقط جزءًا صغيرًا من هذا المعهد، بيد أن باقي أنشطة المركز تخضع لرقابة صارمة من النظام. وقد كان المركز مرتبطًا في الماضي بأبحاث الأسلحة العسكرية. وليس مستغربًا أن دولاً أوروبية أوقفت التعاون الدولي مع القسم المدني، الذي كانت له بداية قوية، عندما بدأ تسرب المزيد من الأخبار عن مشاركة قطاعات أخرى في المعهد، وفقًا لما ذكره أستاذ كان مشارِكًا في المشروع في الماضي.
ويرجع الفضل في معظم قصص النجاح وتحقيق الطفرات التقدمية في مجال البحث العلمي في سوريا إلى قطاع البحوث الزراعية، وذلك لأن الأبحاث في هذا القطاع تلبي الاحتياجات المباشِرَة لتطوير الزراعة في سوريا، وتستجيب للتعاون مع المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (ICARDA)، ومقره في مدينة حلب السورية.
إلى أي مدى دعم نظام الأسد الأبحاث والابتكار في سوريا بشكل جيد؟
ربما تؤدي الفوضى الأمنية السائدة في البلاد إلى سلب ونهب المتاحف، على غرار ما حدث في بغداد، يومَ أنْ سقطت في أيدي القوات الأمريكية
- لقد أَنفق النظامُ معظم عائدات الدولة على المؤسسة العسكرية، ولم يدرك أن الدفاع الحقيقي للبلاد يأتي من التقدم العلمي والتكنولوجي. وكان الإنفاق على العلوم والتكنولوجيا ضئيلاً للغاية، مقارنة بالإنفاق على الجيش والدفاع.
والأهم من ذلك.. هو أن قمع الحريات خنق الإبداع والابتكار؛ حتى إن المناهج الدراسية لا تشجع على التفكير النقدي والإبداعي، ولذلك.. حينما تصل إلى المرحلة الجامعية، تكون ـ إلى حد كبير ـ على استعداد لقبول كل ما يقال لك في المحاضرات، ولا توجد لديك ثقة كبيرة في مبادراتك الخاصة.
على مدى السنوات الخمس الماضية، بدأت الحكومة السماح بإنشاء المدارس والجامعات الخاصة. وساعد هذا في ظهور أساليب تدريس جديدة وتحسين المعايير. مع ذلك، ظل هذا التقدم حكرًا على الأقلية المحظوظة، وظلت مشاركة هذه الجامعات الخاصة والقطاع الخاص في مجال الأبحاث والتطوير محدودة للغاية.
ما هو الدور الذي يلعبه المجتمع العلمي السوري، بما في ذلك أعضاء هيئة التدريس الجامعي والطلاب، في الانتفاضة ضد النظام؟
- ليس هناك دور علني أستطيع أن أتحدث عنه، سوى ما يتسرب من تقارير عن أساتذة يتم جَرُّهُم إلى خارج قاعات المحاضرات بعد كتابة شعارات معادية للنظام على الحائط، لكن حينما تقوم بالتواصل مع زملاء في سوريا؛ تدرك أنهم غير راضين، وغير قادرين على فعل الكثير.. أولئك الذين تدخلوا ودفعوا ثمنًا باهظًا للغاية، والعديد منهم محتجزون في السجن. وقد دفع هذا بالعديد من الأكاديميين في سوريا إلى مغادرة البلاد، أو إلى الابتعاد عن الأضواء، وخصوصًا بعد سلسلة من الاغتيالات التي استهدفت أساتذة جامعيين.
وبالنسبة إلى الطلاب، نجد أن واحدة من الأدوات القمعية للنظام في سوريا هي اتحاد الطلاب، الذي لا يزال يرأسه الشخص نفسه الذي كان يقوده عندما كنتُ طالبة في جامعة دمشق قبل 18 عامًا. من الواضح أنه يؤدي وظيفة جيدة، ويتمسك بالتقليد القديم في الحفاظ على هذا المنصب. إن اتحاد الطلبة هو الذي يضمن عدم مشاركة الطلاب في أي أنشطة مشبوهة.
وقد لُوحِظَ خارج الاتحاد أن الطلاب بدأوا تنظيم أنفسهم في مجموعات غير رسمية، أصبحت تنشط يومًا بعد يوم بقوة. تخيَّلْ ـ على سبيل المثال ـ أن مجموعة من طلاب علوم الحاسوب قرروا عدم تسجيل أنفسهم في هذا الفصل الدراسي؛ وبالتالي يفقدون عامًا دراسيًّا كاملاً، وذلك فقط من أجل أن يفقد النظام رسوم التسجيل التي يُحصِّلها من الطلاب. توسلتُ إليهم، ونصحتهم بأنهم لا ينبغي عليهم أن يدمروا مسيرتهم من أجل النظام، لكن حجتهم كانت هي أنهم يفضلون أن يفقدوا عامًا دراسيًّا، بدلا من دفع أموال يمكن أن تُستَخدَم لقمع وقتل رفاقهم السوريين. هذا هو مدى تصميمهم.. فمن يستطيع أن ينتصر أمام مثل هذا التصميم؟
قرر خوان آيو ـ وهو صديق لي، وطالب ماجستير، كان يدرس الفلسفة ـ تعليق دراسته، والانضمام إلى الانتفاضة، والتفرغ لأنشطتها طوال الوقت. وهو الآن رهن الاعتقال، لكن تفانيه كان بمثابة حافز لمجموعة كبيرة من الناشطين الذين كانوا يعملون معه، وما زالوا يواصلون هذا العمل. وهناك الكثير والكثير من مِثْل هذه القصص.
كيف يمكن للعلماء المغتربين السوريين مساعدة الدولة خلال هذه الفترة؟
- يمكنهم مساعدة الدولة عن طريق إيصال الرسالة إلى المجتمع الدولي، والتحدث عن محنتهم. يمكنهم المساعدة أيضًا عن بُعْد عبر شبكة الإنترنت، لدعم مبادرات سلمية ومدنية داخل سوريا بوسائل عدة.
هل أثرت الانتفاضة الحالية على الأبحاث العلمية في سوريا، كما هو الحال في ICARDA على سبيل المثال؟
كثير من العلماء الطموحين في سوريا يسعون، ليس فقط للحصول على فرصة يثبتون فيها جدارتهم العلمية، ولكن أيضًا للحرية والكرامة، وهذا هو السبب في مغادرتهم إلى الخارج.
- إنها تؤثر على جميع جوانب الحياة في سوريا، لكن هذا التأثير لم يصل إلى جميع أنحاء البلاد. وهذا ينطبق على الأنشطة البحثية أيضًا.. فعلى سبيل المثال.. فإن والداي يعيشان في مدينة حمص، لكنهما يقضيان عطلة نهاية الأسبوع في مدينة حلب، ويقولان باستمرار إنهما يشعران كما لو أنهما ذاهبان إلى قارة مختلفة، حينما يتجهان إلى حلب، حيث الاضطرابات ليست بنفس الحدة، كما هو الحال في حمص.
إن العقوبات تؤثر على المجتمع بشكل عام، وليس فقط النظام. وقد بدأت هذه العقوبات تترك تأثيرًا سلبيًّا على الجميع. وستتأثر الأنشطة الزراعية ـ بلا شك ـ بنقص الوقود اللازم للآلات، مثلما تأثر المجتمع بالفعل من جراء القيود المفروضة على الحركة بسبب العمليات الأمنية. وكل هذا يقوض عمل معاهد الأبحاث، مثل ICARDA.
هل هناك أي نهب يحدث لتاريخ سوريا الغني بالآثار؟
- إن هذا مصدر قلق كبير. سوريا غنية للغاية بالمواقع الأثرية، والعديد منها محمي بالوجود الحقيقي لبعثات الباحثين الأجانب للتنقيب عن الآثار، الذين اضطر العديد منهم إلى مغادرة سوريا عندما أصدرت بلدانهم تحذيرات من البقاء فيها. والآن أصبحت هذه المواقع مكشوفة، وليس لديَّ أي فكرة عما يحدث لهذه المواقع. وبالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي الانفلات الأمني الذي يجتاح البلاد إلى نهب المتاحف، على غرار ما حدث في بغداد، يومَ سقوطها في أيدي القوات الأمريكية.
بيد أنه كان أمرًا يبعث على الاطمئنان في مصر عند رؤية الناس في ميدان التحرير وهم يحمون المتحف بأنفسهم. وآمُلُ أنْ يحدث نفس الشيء في سوريا. وقد وضع بعض النشطاء بالفعل خططًا لحماية هذه المواقع في حالة حدوث انهيار مفاجئ للنظام. ولكن يا تُرى هل سيقدرون على ذلك، أم لا ؟. إنه أمر مختلف، لكنه على الأقل يعكس وعيهم بالمخاطر.
ما الدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع العلمي في سوريا في حال سقوط النظام؟، وكيف يمكن أن يشارك العلماء في إصلاح البحث العلمي والتعليم؟
- يقول بعض الناس إنه من السابق لأوانه مناقشة هذه المسائل، حيث لا يزال مدنيون أبرياء يُقتلون على يد النظام. نعتقد بأن المجتمع العلمي سيكون له دور مهم جدًّا في أي دولة جديدة، وخصوصًا أنه سيكون متاحًا لها موردٌ مهم، ألا وهو: وجود عقول محررة، وشباب أشدّاء على استعداد لإعادة بناء بلدهم.
كل هذا يتوقف على اليوم التالي لسقوط النظام، الذي إذا ما حدث؛ فلن يكون ضمانًا للحرية السياسية. إنني أعمل مع مجموعة من الناشطين والأكاديميين، لرفع مستوى الوعي بأهمية الاستثمار في العلم والتكنولوجيا في أي دولة مستقبلية. ونحن نعمل على إدماج السياسة العلمية، باعتبارها جزءًا مهمًّا من سياسة دولة المستقبل. إننا نريد أن تنتقل سوريا تدريجيًّا إلى اقتصاد قائم على المعرفة.
هل تتوقعين تغيرًا لهجرة العقول السورية بعد الثورة؟
- كثير من العلماء الطموحين في سوريا يسعون، ليس فقط إلى الفرصة الجيدة التي يثبتون فيها خبراتهم العلمية، ولكن أيضًا إلى الحرية والكرامة. ولهذا السبب يغادرون البلاد إلى الخارج. إن جوهر الانتفاضة في سوريا هو النضال من أجل الحرية، وقد حصل السوريون بالفعل على جزء من هذه الحرية. وكثير من الأمور التي تجري في سوريا لم يكن من الممكن أن تحدث مطلقًا قبل اندلاع الانتفاضة.
إن الصراع سيكون طويلاً. وكلما زادت الحرية؛ قلت أعداد العقول التي ستخسرها سوريا، وزادت العقول التي ستعود إلى البلاد. وسيكون هناك دور مهم للغاية بالنسبة للعقول العائدة في سوريا. لقد مارسوا البحث العلمي في بيئة بحثية مناسبة وحرة، وكانت لهم أيضًا صلات مع المجتمع العلمي الدولي، وستكون هناك حاجة ماسة لهذه العقول والجذور الأصيلة في سوريا المستقبل.
تواصل معنا: