مقالات

نقلة جديدة في التعامل مع مرض التوحد

نشرت بتاريخ 30 نوفمبر 2011

بدأ الأطفال العرب المصابون بمرض التوحد في تلقي أحدث طرق التعليم التي ابتكرت في الغرب. وفي الوقت ذاته، نجد أن المنطقة العربية لديها هي الأخرى ما تقدمه إلى باقي دول العالم: زيجات الأقارب.

محب قسطندي

مدرس يعمل مع  التلاميذ في مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة في اليمن.البنك الدولي/فليكر
مدرس يعمل مع التلاميذ في مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة في اليمن.البنك الدولي/فليكر

حتى وقت قريب، لم يكن هناك سوى النذر القليل من المعرفة بمرض التوحد في منطقة الشرق الأوسط، بل إن المعلومات عن مدى انتشار هذا المرض كانت قليلة، إنْ لم تكن منعدمة، إلا أن ذلك الوضع قد بدأ يتغير.

شهد العقد الماضي إنشاء عددٍ من مراكز الأبحاث والمنظمات غير الربحية المعنية بمرض التوحد في المنطقة، بالتعاون مع جهات دولية. وتتولى تلك المؤسسات عمل الأبحاث، وتقديم الخدمات التعليمية والتدريب للأطفال المصابين وذويهم. كما كشفت الأبحاث الأخيرة أن العائلات التي تضم عددًا كبيرًا من الأفراد في الشرق الأوسط قد تمنح فرصة للباحثين لفهم الأسباب الوراثية لهذا المرض.

والتوحد هو عبارة عن اضطراب في النمو العصبي، يتجلى بشكل أساسي في قصور في السلوكيات الاجتماعية، وكذا في التصرفات النمطية المتكررة. وفي أجزاء من منطقة الشرق الأوسط، جرى العرف في الماضي على اعتبار التوحد، وأمراض نفسية أخرى، نتيجة للسحر الأسود والحسد. وبتأثير هذا المرض، مُنِع الأطفال المصابون بالتوحد من الاندماج في المجتمع، أو الحصول على التعليم.

تقول رنوة يحيى، التي يعاني ابنها نديم ذو الأعوام الأربعة من مرض التوحد: "في مصر ـ ودول أخرى من منطقة الشرق الأوسط ـ لا يوجد وعي كافٍ بمرض التوحد. وكأي أمر آخر، يخشى الناس من الأمور التي لا يفهمونها، ويمارسون ـ دون قصد ـ نوعا من التمييز ضدها، لأنهم لا يعلمون غير ذلك".

وعبر المشاركة في الفعاليات الدولية، كاليوم العالمي للتوحد، ومن خلال نشر المعلومات عبر وسائل الإعلام، وأنشطة التوعية في المدارس والجامعات والمستشفيات، تقوم تلك المؤسسات المنشأة حديثًا برفع درجة الوعي بمرض التوحد في منطقة الشرق الأوسط، وإزالة الوصمة التي لطالما ألصقها المجتمع بالمصابين به.

ضرورة مُلِحَّة

"إن التحدي الذي نواجهه يكمن في تحديد الأسباب المختلفة للتوحد، كلٌّ على حدة. وهذا التحدي الكبير يمكن التغلب عليه من خلال دراسة التاريخ المرضي للعائلات الكبيرة."

الجمعية المصرية للأوتيزم (التوحد) هي إحدى أوائل تلك المنظمات في منطقة الشرق الأوسط، التي أسستها خبيرة علم النفس التربوي داليا سليمان في عام 1999. وقد درست داليا سليمان التوحد في جامعة برمنجهام البريطانية، قبل أن تعود إلى مصر. وتتولى حاليًا تقديم خدمات عديدة إلى الأطفال المصابين بالمرض، وذويهم.

تقول داليا سليمان: "لدينا مشكلة كبيرة فيما يتعلق بنقص التشخيصات حول حالات التوحد في مصر والشرق الأوسط، لأن كثيرًا من أطباء الأطفال يخفقون في اكتشاف أعراض المرض، وبالتالي لا يحصل الأطفال على الرعاية المناسبة، والعلاج المطلوب".

وقد بدأت الجمعية مؤخرًا في إخضاع مصابي التوحد لبرنامج مكثف بنظام اليوم الكامل، تحت مسمى "هيدستارت"، الذي يعتمد على ثلاثة برامج تربوية، تقوم على نظام المواجهة المباشرة. وتمثل البرامج الثلاثة وسائل للتدخل، تقوم على أسس قوية ،وترتكز على أدلة. وقد أثبتت قدرتها على تحسين التحصيل التعليمي لدى الأطفال المصابين بالتوحد.

وتم ابتكار برنامج "TEACCH"، وهو اختصار لمصطلح "علاج وتعليم مصابي التوحد والإعاقات المرتبطة بالتواصل"، في أوائل فترة السبعينيات من القرن الماضي على يد طبيب النفس الأمريكي إريك شوبلر. ويوفر هذا البرنامج تقييمات تشخيصية، وورشات عمل، وأنشطة ترفيهية للمصابين، بالإضافة إلى تكوين فرق تدريب ودعم من أسر الأطفال المتوحدين.

أما عن تحليل السلوك التطبيقي (ABA)، فهو عبارة عن تدخل يعتمد على تعليم الأطفال المهارات اللغوية، والإدراكية، والاجتماعية. ويعتمد البرنامج على مكافأة المتوحدين على فِعْل السلوكيات المرغوب فيها، وحَمْلِهِم على تجنب غير المرغوب منها. كما أن هناك ما يسمى ببرنامج التواصل عن طريق تبادل الصور(PECS) ، الذي يسهِّل من تعلم الأطفال مهارات التواصل، من خلال خلق بيئات تعلُّم فردية.

وأضافت رنوة يحيى، قائلةً: "يتلقى (ابني) نديم علاجًا مهنيًّا، وتدريبًا على المهارات الاجتماعية، والدراسية، والتخاطب. لقد نما وتقدم على كافة الأصعدة بفضل مجهوداتهم الشاقة (أي العاملين بالجمعية)، وإخلاصهم، وقدرتهم على العمل كفريق، بالتعاون مع آباء الأطفال المتوحدين. إنني أؤمن بشدة بعملهم، وأرى أنه مثال يحتذى لمزيد من العمل على مواجهة مرض التوحد في مصر، وأطالب بدعمهم؛ حتى يتمكنوا من الاستمرار".

ويعتمد مركز دبي للتوحد ـ الذي تأسس في عام 2001 بقرار من حاكم دبي الراحل، الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم ـ نهجًا مماثلاً، حيث إنه أيضًا يعتمد وسائل التعلم التي تقوم على المواجهة المباشرة بالنسبة للأطفال المصابين بالتوحد، باستخدام البرامج السالف ذكرها، بالإضافة إلى توفير نوادٍ ومنتديات لتدريب آباء المرضى، حيث يلتقي الآباء ليتبادلوا الخبرات والآراء حول الخدمات المقدمة.

ويقدم المركز إلى آباء المرضى أحدث المعلومات بشأن آخر ما وصل إليه الغرب حول سبل التدخل العلاجي. كما يقوم بتكوين فرق متعددة التخصصات، تضم معالجين نفسيين، وأطباء أعصاب، وأخصائيي علم النفس السريري، وأطباء تخاطب؛ لتشخيص ومعالجة المصابين باضطرابات طيف التوحد.

ويوفر مركز نيو إنجلاند للأطفال بأبوظبي برامج معدلة حسب الغرض لعلاج الأطفال، وكذا برامج دعم للمتخصصين في علاج هذا المرض.
ويوفر مركز نيو إنجلاند للأطفال بأبوظبي برامج معدلة حسب الغرض لعلاج الأطفال، وكذا برامج دعم للمتخصصين في علاج هذا المرض.

وفي يونيو من عام 2007، وقَّع مركز نيو إنجلاند ـ وهو من المؤسسات الرائدة في علاج المتوحدين وتعليمهم في ماساشوستس بالولايات المتحدة ـ على عَقْد لمدة عشر سنوات مع شركة أبوظبي للخدمات الطبية، بغية إدخال الأبحاث والعلاجات المتقدمة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة.

وقد افتُتح مركز نيو إنجلاند بأبوظبي في ديسمبر2007، وضم ـ في ذلك الوقت ـ ستة من الأطفال المصابين بالتوحد، وتسعة من العاملين. وبانتهاج نماذج علاجية حسب الحالة، يقدم المركز حاليًا خدماته إلى ستة وخمسين طفلاً من المصابين بالتوحد، وذويهم. كما ينظم المركز ورشات العمل والتدريب والخدمات الخارجية للمتخصصين في علاج هذا المرض. كما يُجرِي المركز بحوثاً تطبيقية على أفضل سبل علاج التوحد.

ويعد مركز أبحاث وعلاج التوحد بجامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية هو آخر المبادرات الهادفة للتعامل مع حالات التوحد. وقد تم افتتاحه في مارس 2010 بتمويل من حكومة المملكة. ويُعَدُّ هو الأول في المنطقة، الذي يقدم خدمة الأبحاث والعلاج في آنٍ واحد.

تقول مديرة المركز، الدكتورة ليلى العياضي، (طبيبة الفسيولوجيا العصبية): "رؤيتنا تتمثل في إجراء الأبحاث، وابتكار الاستراتيجيات؛ لانتهاج أفضل سبل العلاج والرعاية، ودمجهما معًا عبر الأساليب المرتكزة على الأدلة".

وقد أصدر علماء المركز عدة نشرات بحثية حول مرض التوحد في السعودية، على وجه التحديد، ويعملون الآن على خمسة مشاريع، تهدف إلى تعريف المحددات الوراثية والكهربية، التي قد تساعد في تشخيص اضطرابات طيف التوحد.

منجم للأبحاث

إن الأسس الوراثية للتوحد شديدة التعقيد، وقد تم تحديد المئات من التحولات الوراثية المرتبطة بالمرض، ولوحِظ أنها تشمل تكرُّر الكروموسومات، أو فقدها للنكليوتيدات، أو تغيُّر ترتيب الجينات بها. وقد ظهر أن بعض تلك التحولات جاءت عن طريق الوراثة، إلا أنها أحيانًا ما تبرز تلقائيًّا في البويضات، أو الحيوانات المنوية.

وتتسم معظم تلك التحولات بأنها نادرة للغاية، أو فريدة من نوعها. وحتى الآن، لا تمثل التحولات الوراثية المعروفة سوى واحد في المائة من حالات التوحد؛ وبالتالي يصعب التعرف على التحولات المرتبطة بالتوحد، رغم قدرتها على مَنْح فَهْم أكبر للمرض، حيث إن تلك التحولات تتطلب فحص أعداد كبيرة من الأفراد.

من جهة أخرى، تمثل شعوب الشرق الأوسط ميزة للباحثين في مرض التوحد، وأسبابه وطرق علاجه، وذلك لعدة أسباب. أولها شيوع ظاهرة زواج الأقارب في المنطقة؛ مما يزيد من تكرر الحالات النادرة التي تتصف بضعف الجينات، والاضطرابات الصبغية المتنحية. وثانيها النسبة المرتفعة لمعدلات المواليد في المنطقة؛ حيث تعني تلك النسبة المرتفعة وجود الكثير من العائلات الكبيرة، التي ينتشر في معظمها الزواج بين أولاد العمومة من الدرجة الأولى.

وبدراسة مثل تلك العائلات، يمكن للباحثين إيجاد الكثير من تلك الحالات النادرة داخل العائلة الواحدة، مما يسهل من عملية المسح الوراثي والتعرف عليها.

"وفيما يتعلق بدمج الأطفال المتوحدين في النظام التعليمي، يأتي التمييز في الأغلب من جانب الحكومة."

هذا هو المبدأ الذي يؤمن به كريستوفر وولش، خبير الوراثة العصبية بمعهد هوارد هيوز الطبي، في سعيه لإيجاد حالات التوحد الوراثي التي لم يسبق اكتشافها. وقد زار وولش دبي، والكويت، والسعودية، وتركيا، وباكستان، بالتعاون مع إريك مورو من مستشفى ماساتشوستس العام.1

وبالتعاون مع الأطباء النفسيين في تلك البلدان سابقة الذِّكر، قام كلٌّ من وولش، ومورو بالاستعانة بـ104 عائلات كبيرة تشهد ظاهرة زواج الأقارب، لإجراء تجارب عليهم، وكانت من بينها 88 عائلة تربطها زيجات بين أولاد العمومة من الدرجة الأولى. واستخدم هؤلاء الخبراء تقنية تُعرَف "بخرائط الجود زيجوت متماثلة الألائل"، لمقارنة الكروموسومات لدى الأقارب المتأثرين وغير المتأثرين بالتحولات النادرة داخل العائلة الواحدة، وذلك بغية كشف وتشخيص العناصر الوراثية التي يتشاطرها أفراد العائلة المصابون بالتوحد.

وقال وولش: "هذه طريقة فعالة للإسراع بتقليل عدد الجينات المحتمل تسببها في المرض من 20 ألفًا إلى رقم أقل بكثير. وتابع قائلاً: "يمكن تطبيق هذا الأسلوب فقط في العائلات ذات السلالة المشتركة، مما يجعل منطقة الخليج أنسب بيئة لتطبيقها".

وأشار وولش إلى أن هذا الفقد الصبغي يتضمن إزالة الحامض النووي الذي يحوي العناصر الرئيسة التي تتحكم في تنشيط أو وقف الجينات القريبة. لذا، وبالرغم من أن تلك الجينات المجاورة سليمة، فهي تظل غير نشطة. ويظهر زوج من تلك الجينات كهدف لعملية اللدانة المسؤولة عن التعلم.

ولا يزال مشروع وولش مستمرًّا، ويزور مع رفاقه الشرق الأوسط بشكل منتظم؛ للعمل مع أقرانهم في الكويت، والإمارات، والسعودية، وقطر، وعُمَان، والأردن، وتونس.

وقال وولش: "يتمثل التحدي الذي نواجهه في التعرف على الأسباب العديدة والمختلفة للتوحد، كلٌّ على حدة. وربما يتضمن ذلك عدة مئات من الجينات. وهذا تحدٍّ كبير، يمكن تلبيته عبر دراسة العائلات الكبيرة، التي يسهل فيها تعقُّب جِين واحد مشترك بين أفرادها.

وبالرغم من ذلك التقدم، لا يزال أمام الأطفال المصابين بالتوحد عدة تحديات أخرى. وأوضحت رنوة يحيى، قائلةً: "أنا سعيدة الحظ، لكوني قادرة على تدبير تكاليف التدريبات التي يحتاج إليها ابني، ولكن ليس هذا هو الحال مع معظم الآباء في مصر".

في كثيرٍ من العائلات الفقيرة في مصر، يظل الأطفال المتوحدون حبيسي بيوتهم، حيث يُحْرَمون من التعليم، نظرًا إلى التكاليف الباهظة للخدمات التعليمية الخاصة النادرة التي يجب أن تتوفر لهم. وغالبًا ما يترك هؤلاء الأطفال مدارسهم العادية، نظرًا إلى عدم امتلاك المعلمينـ في الفصول المزدحمة بالفعل ـ خبرة التعامل معهم.

وترى رنوة يحيى هي أيضًا أن الحكومة مسؤولة عن التمييز ضد المتوحدين عند دمجهم في النظام التعليمي الرسمي. وقالت إن تلك المشكلة يمكن حلها عبر سياسات حكومية شاملة؛ لدعم الآباء الذين يجدون أنفسهم في مثل هذا الوضع.

doi:10.1038/nmiddleeast.2011.160


Morrow, E. M., et al. Identifying Autism Loci and Genes by Tracing Recent Shared Ancestry. Science doi: 10.1126/science.1157657 (2008).