حذار من الرغبة في توجيه البحث بشكل وثيق جداً، يقول أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل. علمنا التاريخ قيمة الفضول العلمي الحر.
أحمد زويل كتبها في مجلة ناتشر
في زيارة رسمية لجنوب شرق آسيا مؤخراً، سألني أحد رؤساء الوزراء: "ما الذي يتطلبه الحصول على جائزة نوبل؟" أجبت فوراً: "الاستثمار في البحوث الأساسية وتجنيد أفضل العقول." يبدو أن هذا النهج الذي يحركه الفضول أصبح من الطراز القديم ولا يقدر حق قدره في عصر العلم الحديث. يعتقد البعض أنه يمكن تحقيق المزيد عن طريق إدارة توجهات الأبحاث بإحكام — وكأننا نستطيع توقع المستقبل. أنا أؤمن أن تلك الفكرة للأسف خاطئة وأثرت وأصابت تمويل الأبحاث. أسمع مراراً، خاصةً في الدول النامية: "نحن بحاجة إلى الأبحاث التطبيقية." ليس هناك شيء خطأ بدولة لديها أبحاث موجهة الرسالة وتطور لحل مشاكل معينة أو لتركز في برامج التوعية، مثل استكشاف الفضاء أو الطاقة البديلة. خلال زياراتي كموفد العلم للولايات المتحدة، شددت أن بدون الاستثمار الصلب في التعليم العلمي في بناء قاعدة أساسية للعلوم، الدول لن تكتسب المعلومات الرائدة المطلوبة لصنع الاكتشافات والاختراعات التي ستشكل مستقبلهم.
هناك عدد لا يحصى من الأمثلة لأبحاث لها السبق قادها الفضول. في عامي الأول كعضو جامعي في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech) في باسادينا عام 1976، تحدثت أنا والراحل ريتشارد فينمان عن دراسة نظرية نشرها منذ 20 عاماً في بصريات الكم والتي فتحت المجال لتجارب، تقدم طريقة لتصور التفاعل بين ضوء الليزر والمادة. أخبرني بابتسامة أن كل ما أراده في ذلك الوقت كان أن يجيب على سؤال أساسي: لو كانت لحظة الدوران تغير اتجاها في المجال المغناطيسي، فهل لحظة الإنتقال البصرية ستفعل مثلها؟ ربما مثل أكثر عامية لذلك هو تطور ضوء الليزر بواسطة تشارلي تاونز. في الاحتفالية بالعيد الخمسين لاختراعه بباريس هذا العام، أكد تاونز أن الذي دفعه منذ البداية أسئلة أساسية عن الموجات الصغرى (الميكروويف) الطيفي وكيفية تضخيم الضوء. كما أخبرت الجمهور في باريس، كان الفضول هو ما أتى بمساهماتي لعلم الفيمتوثانية، والتي منحت جائزة نوبل بسببها، والمجهر الالكتروني رباعي الأبعاد لتصور المادة في الفضاء والوقت.
صنع معرفة جديدة غير سهل ولا يجني المال على المدى القصير
ميكانيكا الكم، النسبية، وفك الرموز الجينية هي اكتشافات صنعت على طول المسارات نفسها، وكذلك تكنولوجيات ثورية مثل التصوير بالرنين المغناطيسي (نبعت من أبحاث بدافع الفضول عن دوران الالكترون) والترانزيستور (تم اكتشافه كنتيجة للفضول عن طبيعة الالكترونات في اشباه الموصلات). صناعات تكنولوجيا المعلومات الرقمية والتحويل والصناعات الطبية التي تبعتها تشكل العمود الفقري للاتصالات والاقتصاد العالمي. الفضول مجزي!
كيف يمكننا التأكد من أن مثل تلك الأبحاث تحظى بالتشجيع اليوم؟ البحث بدافع الفضول يلزمه عالم مبتكر يعمل في بيئة تشجع التفاعل بينه وبين باحثين ومتعاونين من مجالات مختلفة. ولكن تلك السمات لا يمكن، ومن الضروري، ألا تنسق بواسطة إدارة ثقيلة ومهيكلة، وذلك لأن العقول المبدعة والبيروقراطية لا يعملوا بانسجام سوياً. لذا هل هناك صيغة لإدارة صنع الاكتشاف؟ تكمن الإجابة في تقبل ثلاث أساسيات. أولاً، والأكثر أهمية، هي الأشخاص المشاركين. إعطاء أهمية مناسبة لتقديم تعليم ملهم وشامل في العلوم والتكنولوجيا والرياضيات والهندسة شيء أساسي. الأبحاث والتطوير في حاجة لجذب أفضل العقول الشابة. المباني الكبيرة والتمويل الضخم لن ينتج الكثير بدون الأشخاص المناسبين.
ثانياً، خلق مناخ من التبادل الفكري من الأهمية القصوى لتبلور الأفكار. صرف انتباه أعضاء الكلية بكتابة عروض عديدة ومطولة أو تحويلهم لمديرين هي بداية النهاية. مشروع العلم الحديث أصبح منتفخ ومعقد ولذلك فإن النماذج التقليدية للتمويل يجب أن يعاد النظر فيها. كيف يمكننا تركيز الموارد على أفضل العلوم وما مستوى التمويل الذي نحتاجه لخدمة المجتمع بشكل أفضل؟
ثالثاً، بدون الموارد لا يمكن انجاز الا القليل، مهما كانت درجة ابداع العقول. من الواضح، أن هناك حاجة للاستثمار في العلم لبناء المعدات ولتعيين الموظفيين الكفؤ. الدول والمؤسسات التي تقدم البنية التحتية الأساسية والتي تمول الأفكار ستكون موطن الاكتشافات. ولكن مثل هذا الدعم يجب أن يتبع رؤية باحثيين مبدعيين، ولا يبنى فقط لاصطياد المال أو لإجبار الناس على الاتجاه لمجالات الأبحاث الأنيقة مثل تكنولوجيا النانو.
اليوم، المسؤلون في العديد من الدول النامية يريدون إيجاد طرق للوصول إلى مستويات الإبداع للدول المتقدمة. في أثناء البحث، يغفلون في كثير من الأحيان عن الدور الرئيسي للأبحاث الأساسية و التعليم العلمي؛ وللأسف، نفس النزعة بدأت في الزحف للدول المتقدمة. القادة السياسيون يجب أن يقدروا أن البحث عن معلومات جديدة هو ما يدفع الإبداع، وبدونه لن ينجذب الطلاب الشباب للمهنة.
لقد كنت سعيد الحظ أن أقضي الثلاثين عاماُ الماضية من مهنتي في مؤسسة تؤمن بمثل هذه القيم. بالرغم من الضغوط للتغيير، أتمنى أن تستمر Caltech في الحفاظ على ثقافتها الفريدة مثل — بكلمات أحد زملائي و الرئيس السابق لـCaltech، دايفيد بالتيمور — "قرية العلم". الحفاظ على المعرفة سهل. نقل المعرفة سهل أيضاً. ولكن صنع معرفة جديدة غير سهل ولا يجني المال على المدى القصير. الأبحاث الأساسية أثبتت أنها تجلب المال على المدى الطويل، وعلى نفس مستوى الأهمية ، فإنها قوة لإثراء ثقافة أي مجتمع بالمنطق والحقيقة الأساسية.
تواصل معنا: