من المقرر أن يقول القضاء المصري كلمته اليوم في مدى قانونية اللجنة التي أعدت مسودة الدستور الجديد، ويرى محمد عبدالمطلب أن إقرار هذه المسودة سيمثل نكسة للتعليم والعلم، ويطالب باستبدال لجنة أخرى بهذه اللجنة.
محمد عبدالمطلب
كان أحد أكبر المطالب الشعبية في مصر بعد إسقاط نظام الرئيس السابق حسني مبارك -الذي حكم البلاد طويلا- هو إعداد دستور حديث، لكن عملية إصلاح الدستور كانت مرتبكة وقد ترقى إلى أن تكون أحد أكبر الألغاز في مصر الحديثة.
المسودة الأولى الرسمية للدستور مليئة بالتناقض والتكرار والهراء، لدرجة أن أي تحليل يدفع المرء للتساؤل عن الغاية من كتابتها بهذه الصورة، فالبحث والتعليم، اللذان يمثلان القواعد الأساسية في بناء أي دولة حديثة ومتقدمة، لا يحظيان بتمثيل جيد في إشارات مباشرة ومواد إضافية لهذا الدستور، وهناك تقليل من قيمتهما بشكل كبير.
جرت إحالة الإشارات المباشرة للبحث والتعليم إلى الفصل الثاني من الدستور الخاص "بالحقوق والواجبات" ولم تذكر في الفصل الأول الذي يحمل عنوان "الدولة والمجتمع"، وهذا يشير إلى أن من قاموا بإعداد الدستور لا يعتبرون البحث والتعليم جزءا مكملا من مستقبل الدولة المصرية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المواد من 9 إلى 11 تشكل سوابق دستورية وغموضا يمكن أن يقف بصورة مباشرة حائلا أمام المساواة في التعليم بين الجنسين والإبداع وحرية البحث.
لو أخذنا مثلا المادة 9 وتنص على: الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والقيم الوطنية.
تحرص الدولة والمجتمع على الطابع الأصيل للأسرة المصرية، وعلى تماسكها واستقرارها، وحماية تقاليدها وقيمها الأخلاقية.
فهذه المادة الغامضة تمثل لغماً قانونياً، والسؤال هو: كيف يمكن تعريف مفاهيم مثل "هوية الأسرة" و"استقرار الأسرة" و"الهوية المصرية" و"القيم الأخلاقية" في مجتمع متعدد الثقافات؟ هل يعتبر مواصلة الأطفال الفقراء تعليمهم بالمدارس بدلا من العمل للإنفاق على الأسرة تهديدا لوحدة الأسرة واستقرارها؟ ماذا عن تعليم الإناث؟ هل يمكن القول إنه في مجتمعات لم تر بشكل تقليدي سببا لتعليم الإناث فإن السماح لهن بالحصول على التعليم الأساسي والعالي يعد تهديدا لتقاليد الأسرة؟
في كل مادة تقريبا تذكر الحقوق في بداية المادة لكن بعد ذلك يتم تقييدها أو نقضها.
وكذلك المادة 10 التي نصها: تلتزم الدولة والمجتمع برعاية الأخلاق والآداب العامة وحمايتها، والتمكين للتقاليد المصرية الأصيلة، ومراعاة المستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية والثقافة العربية والتراث التاريخي والحضاري للشعب، وذلك وفقا لما ينظمه القانون.
واستكمالا لهذا النهج من التفكير فإن التركيز يقع على قيم غير قابلة للتعريف لا تمثل قيمة مضافة لمستقبل مصر أو أنشطة البحث والتعليم.. وتفتح هذه المادة مزيدا من الثغرات لإمكانية قمع الإبداع والتعدد الثقافي، ووفقا لهذه الصياغة يمكن اعتبار أي محاولات لإعادة دراسةٍ أو تحديثٍ أو تطويرٍ أو تحدٍ للتقاليد أو التاريخ أو الثقافة محاولات غير دستورية، وهكذا يتم حظرها وملاحقتها قضائيا.
المادة 11: تحمي الدولة الوحدة الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع المصري، وتعمل على تعريب التعليم والعلوم والمعارف.
أعتقد أن هذه قد تكون واحدة من أخطر مواد الدستور بأكمله.. فمن النظرة الأولى تلقى هذه المادة ترحيبا من الأشخاص العاديين، حيث يبدو الهدف منها هو حماية الثقافة واللغة، ولكن تختبئ في طياتها إمكانية حظر التعليم بأي لغة أجنبية والتبادل الثقافي.
وتسمح هذه المادة للمشرعين بتحديد ما هو اللائق ثقافيا لمصر، ويمكن أن يلجأ المشرع إلى الاستعانة بإشارة "الوحدة اللغوية" للحد من أو حظر تعليم اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية، ومن شأن تحجيم القدرة اللغوية للباحثين في المستقبل للاطلاع على بحوث منشورة دوليا أن يقوض بشكل كبير فرص مصر في التقدم.
وعلى صعيد التعليم فإن أجيال الخريجين سوف تفتقد القدرة التنافسية في سوق العمل الإقليمي والدولي، ما يؤدي إلى الإضرار بتنافسية القوة العاملة المصرية، وسوف تتضرر الاستثمارات الأجنبية وصناعة السياحة بشكل كبير إذا كانت العمالة في مصر ليست قادرة على التواصل بشكل مهني.
وتستمر التناقضات والغموض في الفصل الثاني من الدستور "الحقوق والوجبات"، ففي كل مادة تقريبا تذكر الحقوق في بداية المادة لكن بعد ذلك يتم تقييدها أو نقضها.
المادة 40: حرية الإبداع، بأشكاله المختلفة، حق لكل مواطن، وتنهض الدولة بالعلوم والفنون والآداب، وترعى المبدعين والمخترعين، وتحمي إبداعاتهم وابتكاراتهم وتعمل على تطبيقها لمصلحة المجتمع وتتخذ التدابير اللازمة للحفاظ على التراث الثقافى الوطني، وتعمل على نشر الخدمات الثقافية والاجتماعية.
الجملة الافتتاحية قوية وواضحة لكن إضافة "التدابير اللازمة للحفاظ على التنوع والتراث الثقافى الوطني" تبطل بوضوح الحقوق المذكورة في بداية المادة، إذ كيف سيقرر المشرع ما يمثل التراث الوطني والثقافي؟ وهل سوف يحدد المشرع ذلك وفقا لتفسيره هو وحسه وأجندته السياسية والدينية؟
ماذا لو تم اقتراح دراسة عن التأثير الفسيولوجي والاجتماعي لختان الإناث؟ هل ستقوم الدولة برعاية مثل هذا البحث المطلوب بشكل عاجل؟ وهل ستفتح هذه المادة إمكانية للطعن القانوني في مثل هذا البحث على أساس أن مثل هذا الإجراء -الذي لا يزال سائدا في مصر- هو جزء من التراث الثقافي؟ وهل ستفتح هذه المادة الطريق أمام المساءلة القانوينة لفريق البحث المقترح لإعداد هذه الدراسة؟
المادة 41: حرية الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق أيا كان مصدرها ومكانها حق مكفول للمواطنين، وتلتزم الدولة بتمكين مواطنيها من التمتع بهذا الحق دون معوقات وبما لا يتعارض مع الأمن القومي أو ينتهك حرمة الحياة الخاصة وينظم القانون إجراءات الحصول على تلك المعلومات وكيفية وجهة التظلم من رفض إعطائها والجزاء المناسب لمن يخالف ذلك.
جرى في الماضي إساءة استخدام المصطلح الغامض للأمن القومي كثيرا لإعاقة البحث، وقد لا يكون واضحا للبعض مدى أهمية هذه المادة بالنسبة لموضوعات التعليم والبحث، فالبحث العلمي المتطور ينتشر بطبيعته ويتم مشاركته على نطاق واسع؛ حيث إن العلماء في أماكن متباعدة جغرافيا يتعاونون بشكل يومي.. وفي الوقت الحالي لا يوجد قواعد بيانات شاملة للباحثين في مصر والمجال النشط لأبحاثهم، ولذا فإنه من الضروري جدا أن يتم تجميع وإتاحة مثل هذه البيانات على مستوى الدولة.
قمت بالمشاركة في مشروع في عام 2008 حيث كان من الضروري فهم طبيعة البحوث النشطة في مجال الطاقة الشمسية في مصر، واتصلنا بوزارة البحث العلمي في ذلك الوقت ولم نجد بيانات شاملة ومحدثة.. ثم اقترحنا جمع مثل هذه البيانات باستخدام القنوات الرسمية الوزارية وتحت إشراف الوزارة، وتم رفض طلبنا لأسباب تتعلق بالأمن القومي، وتم نقل المشروع بطبيعة الحال إلى دول أخرى في المنطقة.
هناك العديد من الثغرات التشريعية في كل موقع من المسودة والتي إن تم استغلالها فستؤدي إلى تعطيل البحث العلمي في مصر.
كان هناك مشروع آخر، وكنت على علم به شخصيا، يهدف إلى عمل بيانات شاملة عن المحتوى المائي والتلوث في صحراء مصر الغربية، وكان الباحثون بحاجة للبيانات لوضع استراتيجية لإدارة الموارد، ولكن تم رفض ذلك لأسباب تتعلق بالأمن القومي.
ومن أجل ضمان تطوير فعال لنظام التعليم المصري فلا بد من رسم خريطة كاملة للموارد والصناعات والتحديات ووضع خطة للاستجابة للاحتياجات، وستقف أسباب الأمن القومي المتصورة حائلا أمام رسم مثل هذه الخريطة، مما يعيق مشاركة المجتمع المدني والخاص والمؤسسات الخيرية في تطوير نظام التعليم السيئ في مصر.. ويمكن اللعب بورقة الأمن القومي لجعل النظام التعليمي بأكمله تماما تحت سيطرة الدولة والمسؤولين في السلطة ليوجه وفقا لأجندتهم الخاصة، فيحرمون بذلك المجتمع من أي فرصة لمتابعة هذا القطاع الهام.
وقد نصت المادة 50 بوضوح على أن "الدولة تشرف على جميع أنواع التعليم، وجميع مؤسسات التعليم سواء عامة أو مدنية أو خاصة ملزمة بخطة الدولة التعليمية وأهدافها".
وأخيرا المادة 51 ونصها: حرية البحث العلمي مكفولة، وتخصص له الدولة نسبة كافية من الناتج القومي وفقا للمعايير العالمية، وتضمن استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي وتطويرها.
لابد من الاعتراف بأن هذه المادة تمثل تطورا كبيرا عما كان موجودا في الدستور السابق. فعلى الأقل قد تم ذكر البحث العلمي والتعليم العالي في مادة منفصلة، ومع ذلك فلم تلب هذه المادة طموح الباحثين.. وقد أشارت لجنة إعداد الدستور في مواد عديدة إلى تسلسل زمني متوقع، وكان المرء يتوقع أن يرى نسبة محددة لتمويل البحث العلمي أو على الأقل إطارا زمنيا للوصول لمثل هذه النسبة، وجاءت جملة "ضمان استقلال الجامعات..." ضعيفة، وكان المرء يأمل في أن تكون "الجامعات ومراكز البحث العلمي هي مؤسسات مستقلة..." على غرار ما تم استخدامه مع الأزهر - المرجع الديني- في الفصل الأول.
وتركز المادة 53 على محو الأمية للجنسين وأن كل الموارد يجب أن تخصص لتحقيق هذا الهدف خلال 10 سنوات من العمل بهذا الدستور.. هذه المادة تعد بشكل واضح إضافة عظيمة للدستور.
بشكل عام يبدو أن اللجنة الدستورية مهتمة بفرض وحماية أجندات ثقافية ولغوية ودينية محددة، بدلا من الاهتمام بوضع لبنات المستقبل المصري، والمواد المتعلقة بالبحث العلمي والتعليم موزعة بشكل مباشر وغير مباشر على أول فصلين وهي في الواقع لا تدعم أو تعزز البحث العلمي والتطور أو التعليم بأي شكل من الأشكال.
وهناك العديد من الثغرات التشريعية في كل موقع من المسودة والتي إن تم استغلالها فستؤدي إلى تعطيل البحث العلمي في مصر، وسوف تضر بشكل كبير بنظام التعليم الذي يعاني من وضع سيئ بالفعل.. إنني على اقتناع بأن الدستور في صورته الحالية لا يصلح لتحقيق رؤية مصر المتطورة ويجب تعديله بشكل كبير أو رفضه في الاستفتاء العام.
تواصل معنا: