يمكن للبحث العلمي أن يكون قوة دافعة للتنمية، لكن ينبغي وضع أليات ملائمة؛ لضمان أن يحصل صانعو القرار السياسي على أفضل مشورة علمية.
محمد عبد المطلب
لا يكترث المواطن المصري العادي كثيرًا بأهمية البحث العلمي والتطوير. وحتى وقت قريب.. لم يحظ دور البحث العلمي بأولوية من جانب الحكومات التي تضع السياسات. هناك العديد من الباحثين المصريين ومعاهد الأبحاث المنتشرة في أرجاء البلاد، لكن على مدى العقود الستة الماضية، لم تكن أنشطة الباحثين ومعاهد الأبحاث محل اهتمام من الحكومة وصناع القرار السياسي في مصر. ومن جهة أخرى، لم تكن غالبية العلماء مهتمة بعملية صنع السياسات. ولم يتفاعل الاثنان سوى في القضايا المتعلقة بتنظيم الجامعات. وحتى ذلك الحين.. كان التركيز ينصبّ ـ بشكل بحت ـ على المسائل الإدارية.
يمثل إنشاء المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا مؤخرًا إقرارًا من جانب الحكومة بأهمية الدور الذي يجب أن يلعبه العِلْم في صُنع السياسات. ويضم المجلس عددًا من العلماء المصريين البارزين، ووزراء في الحكومة، ويرأسه رئيس الوزراء. ويتمثل دور المجلس في تقديم المشورة العلمية السليمة للحكومة، وإطلاع واضعي السياسات على الجديد والمفيد من الرؤى العلمية.
وعلى الرغم من وجوده منذ عامين على الأقل، إلا أن فاعلية المجلس في التأثير على السياسة لا تزال غير واضحة. وقد استطاع المجلس أن ينقل احتياجات الحكومة إلى العلماء، لكنه فشل في إشراك العلماء في القرارات التي تؤدي إلى وضع السياسة. لقد خلق المجلس تأثيرًا معاكسًا للتراتب الطبيعي. وبناءً على الوضع الحالي للمجلس، تنقل وزارات مختلفة، مثل الصناعة والزراعة والموارد المائية، احتياجاتها إلى وزارة البحث العلمي، وتقدم الوزارة ـ في المقابل ـ منحًا لتمويل بحوث محتملة؛ لتلبية هذه الاحتياجات.
هذا التعاون المتبادل بين مختلف الوزارات ووزارة البحث العلمي لا يتطلب وجود مجلس في المقام الأول. وبالإضافة إلى ذلك.. ليس من الواضح كيف ستستخدم كل وزارة الأبحاث التي يتم إجراؤها بالفعل.
يمكن اعتبار هذه السياسة سياسة جزئية، لكن فقط بالنسبة إلى وزارة البحث العلمي، وليس في جميع وزارات الحكومة. وفي نهاية الأمر، ليس من الواضح ما إذا كان هذا التنسيق يتم في ظل وجود رؤية وهدف للمستقبل، وهل الاحتياجات التي تقدمها الوزارات تمثل المشاكل الحالية فقط، أم أنها تتضمن رؤية مستقبلية حول كيفية وجوب تطور السياسة أيضًا؟
إنَّ رؤيتي حول تأثير العِلْم على صنع السياسات تنقسم إلى عنصرين رئيسيين.
يجب على العلماء التفاعل مع صناع القرار؛ للمساعدة في وضع الأهداف المستقبلية؛ والعمل على تحقيقها.
أولاً، يجب أن يتضمن التركيز على القضايا الراهنة واحتياجات القطاعات المختلفة آليات واضحة؛ لتحقيق أفضل استفادة من الأبحاث، وينبغي تحديد هذه الأهداف بوضوح من البداية. وتكشف مراجعة الدعوات للمقترحات التي أطلقتها وزارة البحث العلمي خلال العامين الماضيين عن استخدام نهج مبسط، من خلال مواضيع عامة للغاية، مثل "أبحاث المياه"، تليها قائمة من التقنيات القليلة المطلوبة، مثل "تصنيع أغشية التناضح العكسي". ولم يتم إعطاء أي تفاصيل أخرى. ومثل هذا النهج البسيط ـ ومع عدم وجود مواصفات تقنية واضحة، أو خريطة طريق للتطبيقات ـ هو نهج يتسم بقصر النظر. ويجب معالجة مثل هذه القضايا في دعوات مستقبلية؛ لتقديم مقترحات.
ثانيًا، يجب على العلماء التفاعل مع صناع القرار السياسي؛ للمساعدة في وضع الأهداف المستقبلية، والعمل على تحقيقها. وعلى سبيل المثال.. من الممكن اعتبار "توفير 20٪ من احتياجات المياه العذبة من مياه البحر بحلول عام 2025" هدفًا وطنيًّا، وهذا سيتضمن تصنيع عناصر الأغشية اللازمة لتحلية مياه البحر بفاعلية محددة، وتوفير الطاقة اللازمة لتعزيز هذه العملية، التي يفضل أن تكون من مصادر الطاقة المتجددة. وبعد ذلك.. ينبغي أن يتم تخصيص موارد لتحقيق هذا الهدف. وينبغي على واضعي السياسات والعلماء مناقشة وتحديد المعالم الرئيسية والتقنيات المحتملة، حيث سيكون بإمكان صناع القرار السياسي تحديد الأولويات الوطنية، وصياغة السياسات اللازمة لتحقيقها، في حين سيقدم العلماء المشورة بشأن ما يمكن تحقيقه، وتكلفته، والمدى الزمني الذي سيستغرقه. ومن شأن هذه العملية أن توفر خريطة طريق وطنية واضحة ومفصلة للتنمية. وستتطلب خريطة الطريق هذه مراجعة مستمرة، وإدخال تعديلات؛ لتلبية الاحتياجات المتغيرة، ومواكبة التطورات الجديدة في مجال العلوم.
ولتحقيق هذا التزامن بين عملية وضع السياسات والبحث العلمي، هناك حاجة لتشكيل عدد من المجموعات وفرق العمل. وينبغي ـ كبداية ـ تشكيل مجموعة عمل رئيسية لكل قطاع (الصناعة، والزراعة، إلخ). وينبغي أن تشكل مجموعة العمل هذه مجموعات عمل صغيرة، تركز كل منها على مجال أكثر تحديدًا. ويجب أن تتألف فرق العمل من العلماء، وممثلي الحكومات والشركات الخاصة في هذا المجال، بالإضافة إلى مراقبين، وخبراء اقتصاديين. وفي ظل وجود هذه الخبرات، يجب على كل فريق أن يقدم دراسة شاملة عن هذا المجال المحدد، والتطورات المحتملة، بما في ذلك التكاليف، والإطار الزمني. وينبغي بعد ذلك جمع كافة التقارير التي تعدها فرق العمل على مستوى مجموعة العمل الرئيسية، وفحصها وتقييمها؛ لتحديد الأولويات الوطنية في قطاع معين.
وسيتعيَّن على الحكومة تحديد الأولوية للقطاعات، على أساس الاحتياجات الوطنية، والآثار المحتملة، والوقت والتكلفة، من خلال الاستعانة بالمعلومات التي قدمتها مجموعات العمل. ومن شأن هذه العملية أن تؤدي إلى تحديد السياسات بصورة فعالة ومدروسة.
إنَّ البحث العلمي يجب أن يصبح القوة الدافعة لصنع السياسات وتحقيق التنمية، وليس العكس.
تواصل معنا: