يبدي كثير من الأطفال على امتداد الوطن العربي علامات الضيق النفسي الشديد، وكثيرًا ما تكون محاولات الدعم غير مجدية في مواجهة الصراعات المتأججة المستمرة.
باكينام عامر
في غزة، يلعب الأطفال لعبة تسمى "نقاط التفتيش والبحث"، حيث يمثلون أنهم يمرون من نقطة تفتيش أمنية، ويقوم كل منهم بإجراء تفتيش جسدي للآخر. ومن هواياتهم المفضلة الأخرى لعبة "الشهيد"، حيث يمثل أحد الأطفال أنه ميت، في حين يحمله أو يحملها الباقون في موكب جنازة وهمية.
وفي حصة الفنون في الفصول الدراسية المهترئة المكتظة، يرسم الأطفال السوريون وجوه الجنود المخيفة التي تجعلهم يبللون فراشهم ليلاً من الرعب، بدلاً من رسم الأشجار، أو أقواس قزح، أو الفراشات. وبدلاً من توجيه رسائل إلى الأصدقاء والأهل، فإنهم يخطون التهديدات؛ مثل: "سنقهركم"، أو "يسقط بشار [الأسد]"، أو "أيها الديكتاتور، لقد قتلت أمي".
يكمن وراء تعبيرات الخوف هذه اضطراب نفسي أحدثه الصراع، الذي يبذل العالم العربي القليل جدًّا لتخفيفه.
وسواء كانوا ممن يعيشون في مخيمات اللجوء في لبنان أو الأردن أو تركيا، أو ممن وقعوا في شبكة العنف في سوريا أو العراق أو غزة، فالأطفال يبدون أعراضًا متماثلة: الاكتئاب، والمشكلات النفسية الجسدية كصعوبة النوم والقلق والعصبية والإجهاد، أو قد تظهر عليهم علامات الحزن والتمرد، والسلوك العدواني.
في المتوسط، حوالي 41% من الفتيات والفتيان في سن المراهقة ممن هم الآن في مخيمات اللجوء فكروا في الانتحار، وفق قول مارتا باسيريني، المستشار التقني لحماية الأطفال في هيئة إنقاذ الطفولة في لبنان. وتابعت: "هناك أيضًا قلق كبير من إمكانية عودة المراهقين للقتال".
حتى في المأمن النسبي في مخيمات اللاجئين، فالأطفال "يكبرون بسرعة فائقة في عالم ليس رحيمًا بهم"، تشرح كونستنتينا بوغونيكولو، المختصة بعلم النفس، والمنسق الطبي مع منظمة أطباء بلا حدود. يجري الإبلاغ عن حوادث السرقة والحرق والقتل في بعض مخيمات اللاجئين السوريين. ويبلغ الأطفال خبراء حماية الأطفال بأنهم يخافون أن يمشوا بمفردهم، ويخافون التعرض للترهيب، ويخافون الكلاب، ويخافون عندما تحلق طائرة قربهم.
تقرير أولي من الهيئة الطبية الدولية عن تقييم الاستجابة السورية للصحة العقلية والنفسية، لم ينشر بعد، يرسم صورة أكثر وضوحًا لحالة اللاجئين السوريين، ومن ضمنهم الأطفال.
"بناء على عينات أُخذت من نحو 6,000 حالة من السوريين الذين يتلقون خدمات تدبير الصحة النفسية، سواء في سوريا أو في البلدان المجاورة، تمثل الاضطرابات الانفعالية الحادة (31%) الشكل الأكثر شيوعًا من اضطرابات الصحة النفسية المجمعة من البلدان الأربعة (لبنان والأردن وسوريا وتركيا)"، استنادًا إلى موجز التقرير الذي اطلعت عليه Nature Middle East بشكل حصري.
تعمل الهيئة الطبية -كغيرها من المجموعات الدولية الأخرى، ومن ضمنها: أطباء بلا حدود، وهيئة إنقاذ الطفولة- على إرسال خبراء في الصحة النفسية وعمال الإغاثة، إما لإنشاء شبكات الدعم، أو للعمل فردًا مقابل فرد مع بعض هؤلاء الأطفال. كما أنها توفر التدريب لممارسي الرعاية الصحية في مجال الصحة النفسية والصدمة. وهم ينظمون الأنشطة، كمباريات كرة القدم، وتمارين حل النزاعات ودروس التوعية؛ لمساعدة الأطفال على التكيف مع واقعهم الجديد.
وتعمل الهيئة الطبية على تدبير حالات الأطفال والشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 سنة. وضمن مجموعة العينة التي اختاروها، وجد التقرير "ارتفاع معدل انتشار الاضطرابات الاكتئابية الشديدة (20%)، والاضطرابات ثنائية القطب (6%). وكان الفصام (10%) هو الشكل الأكثر شيوعًا من الاضطرابات الذهانية في جميع أنحاء المنطقة".
وقد تكون التأثيرات على نمو الطفل واضحة؛ فالاضطرابات النمائية والتوحد والإعاقات الذهنية أو سلس البول اضطرابات شائعة. كما تزداد عوامل الخطر لاضطرابات كالصرع في أثناء الأزمة.
يركز البحث عن مدى الصدمة الحادثة في المنطقة عادة على اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، الذي يظهر فور انطلاق الصراعات، وهو الأسهل تشخيصًا. وهذا ما يضع تركيزًا أقل على الاضطرابات النمائية لدى الرضع والأطفال الصغار، وغيرها من الآثار طويلة الأمد الأكثر غموضًا، والتي لها الدرجة نفسها من التعطيل.
يعاني الأطفال الكوابيس، ويزداد التصاقهم بوالديهم، ويعانون قلق الانفصال، ولديهم صعوبة في التركيز والتعلم في المدرسة
في مجموعة نقاش مركَّز وضعتها كل من اليونيسف والهيئة الطبية الدولية، تقول والدة أحد المراهقين: "أصبح الأطفال يرون الأسلحة ويعرفون أسماءها- إنهم يعرفون اسم كل قطعة سلاح لأنها رأوا عددًا كبيرًا منها". يحتفظ البعض بمشكلاتهم داخلهم، ويجد الفتيان صعوبة أكبر في التحدث عن مشاعرهم أو في التحدث على الإطلاق مقارنة بالفتيات، بسبب التكيف الثقافي الإقليمي عن الطريقة التي يجب أن يعبر بها الفتيان عن أنفسهم.
"يعاني الأطفال الكوابيس، ويزداد التصاقهم بوالديهم، ويعانون قلق الانفصال، ولديهم صعوبة في التركيز والتعلم في المدرسة، وفي بعض الأحيان يعزلون أنفسهم"، تقول إنكا وايسبيكر، مستشار الصحة العقلية والنفسية الشاملة في الهيئة الطبية الدولية.
"هذه ليست بالضرورة اضطرابات صحية نفسية، إنها ردود فعل على أوساط مسببة للإجهاد. وتتطور لدى بعض الأطفال بالطبع مشكلات أكثر انتشارًا، مثل التبول المزمن في الفراش وتراجعات أخرى إلى المراحل الأولى من التطور".
في العراق، وجدت دراسة أجرتها جمعية الأطباء النفسيين العراقية ومنظمة الصحة العالمية على 10,000 تلميذ في المدارس الابتدائية في منطقة الشعب شمال بغداد أن 70% من الأطفال يعانون الأعراض المرتبطة بالصدمة.
تاريخيًّا كانت خدمات الصحة النفسية شحيحة وممارسوها قلة في العراق، وأسهمت هجرة الأطباء طوال العقد الماضي في تفاقم هذه المشكلة. وحاليًّا هناك معالج نفسي واحد فقط لكل مليون نسمة في العراق. واعتبارًا من مارس 2014، كان هناك فقط ثلاثة أطباء نفسيين متخصصين بالطفل في كافة أنحاء البلاد، وفقًا لجمعية الأطفال ضحايا الحرب، وهي جمعية خيرية تكشف تأثير الحروب الحديثة على الأطفال.
بشكل عام، هناك عدد قليل جدًّا من الأطباء النفسيين المحليين أو العاملين في مجال الصحة النفسية المتخصصة في البلدان المتضررة، استنادًا إلى قول وايسبيكر. "إن مكانًا مثل غزة فيه عشرة أطباء نفسيين فقط. وكثير من الذين يطلقون على أنفسهم علماء نفس ليسوا مدربين بما فيه الكفاية".
في الأراضي الفلسطينية، يبدو أن "الإجهاد الحاد" هو القاعدة، وعادة ما يحتاج إلى عناية سريرية متخصصة يندر أن تكون متاحة. يقول ياسر أبو جامع -رئيس مركز غزة للصحة النفسية-: إنه خلال القصف، واجه القطاع الصغير جدًّا وأكثر الأماكن في العالم اكتظاظًا بالسكان، ارتفاعًا كبيرًا في الطلب على الرعاية الصحية النفسية.
في مايو الماضي، استقبلت منظمة أطباء بلا حدود 15 حالة فلسطينية جديدة لتقديم المشورة، ولكنها استقبلت في يونيو، في ذروة الهجوم الإسرائيلي، 263 حالة جديدة.
إن الأمر الأكثر صعوبة في محاولات تخفيف المخاوف والصدمات النفسية للأطفال في قطاع غزة، وفق أبو جامع، هو عدم وجود بيئة آمنة لتخفيف الصدمة الأولية وتسهيل تقديم المشورة. وقال: "لا مكان آمنًا لحمايتهم [من وطأة الحرب]. حتى مدارس الأونروا تتلقى ضربات مباشرة من الغارات الجوية الإسرائيلية". أما التدخلات النفسية في المدارس الرسمية فهي شحيحة أو معدومة.
وهم المرونة
لن تظهر الآثار النفسية للحرب لدى الجميع بشكل صدمة أو اضطراب نفسي.
ما قد يكون خطأ بالنسبة للمرونة بين بعض الأطفال هو في العادة تكيفهم مع الواقع الجديد المنحرف، تقول بوغونيكولو، إذ من المألوف أن يُقتل الجيران وزملاء الدراسة أو يختفون، حيث يجري قصف المنازل بشكل متقطع، ويتكرر تعطل الروتين.
"عندما تشاهد أخبار غزة حيث يصف الأطفال الوضع قائلين: ’كنا نلعب وفيما بعد قُتل ثلاثة أطفال‘، متحدثين عن الموت [بلا مبالاة]، واصفين واقعًا تعلموا كيف يعايشونه منذ وُلدوا"، تتابع القول.
بالنسبة لمعظم أطفال فلسطين البالغ عمرهم 10 سنوات، كان صراع هذا العام بين إسرائيل وغزة هو ثالث حرب يشهدونها.
يعرف الأطفال الفلسطينيون منذ بدء التحاقهم بالمدرسة أن عليهم عبور نقاط تفتيش متعددة كل يوم من أجل الوصول إليها، وفق قول بوغونيكولو، "فيصبح هذا الأمر جزءًا من رؤيتهم لتجربة المدرسة".
ولكن هذا "التكيف" يحمل ثمنًا باهظًا. فكثيرًا ما يتبنى هؤلاء الأطفال سلوكًا متهورًا أو قهريًّا، ولا يترددون في الإلقاء بأنفسهم إلى حالات خطرة. "لن يكونوا خائفين من المشاركة في حالات قد تودي بحياتهم"، تتابع بوغونيكولو.
وتشرح أن التعرض المستمر للعنف والصراع قد يكون ذا تأثير ضار طويل الأجل على الأطفال، حتى ولو لم يظهر على الفور. "تأخذ حياتهم منعطفًا خطأ، ويكون إرجاعهم صعبًا جدًّا".
أسهمت كيرا ووكر الكاتبة في Nature Middle East في هذا التقرير.
تصحيح: تم تصحيح المقال يوم 21 سبتمبر لتوضيح ان41% من الفتيات والفتيان في سن المراهقة ممن هم الآن في مخيمات اللجوء فكروا في الإنتحار ولم يحاولوا الإنتحار.
تواصل معنا: