ثلاثون عامًا من الصراع والعقوبات والهجرة الجماعية لممارسي المهن الصحية أثرت بشدة على صحة أطفال العراق، ولا تبدو في الأفق بارقة أمل.
كيرا ووكر
يتحمل أطفال العراق عبء نظام الرعاية الصحية المتعثر، الذي عانى بسبب الحرب وسوء الإدارة، ويبدأ بين حين وآخر انتعاشًا خجولاً قصير الأجل.
يعيش نحو 3,5 ملايين طفل عراقي في فقر. وتبقى تلبية احتياجاتهم الصحية الجسدية والنفسية شديدة الصعوبة مع استمرار الاضطرابات السياسية. ويبدو المستقبل قاتمًا لملايين المحرومين من حقهم في صحة جيدة وطفولة آمنة.
بدأ تراجع العراق مع الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، واستمر مع حرب الخليج وما تلاها من 12 عامًا من العقوبات. "كان هناك نقص في المواد الغذائية والأدوية والمعدات الطبية والكهرباء. غرقت المباني في الأعطال، ولم يتمكن الأطباء من الوصول إلى التطورات الطبية الدولية"، كذا تقول جوان بيكر، المنسقة لدى منظمة ’الأطفال ضحايا الحرب‘ غير الحكومية.
ومع حلول الوقت الذي غزت فيه قوات تقودها الولايات المتحدة بغداد عام 2003، كان نظام الرعاية الصحية الرائد يومًا ما يتداعى بالفعل، وكان الأطفال -على وجه الخصوص- يعانون عواقب الانهيار الوخيمة.
كل عام يموت أكثر من 35,000 طفل عراقي. أما بالنسبة للأطفال الذين يبقون على قيد الحياة، فإن واحدًا من كل أربعة دون الخامسة من العمر يعاني إعاقة في التطور الجسدي والذهني بسبب سوء التغذية المزمن. حاليًّا يبلغ معدل وفيات الرضع 28 لكل 1000 مولود حي، ومعدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة 34 لكل 1000 طفل.
الهجرة الجماعية
لا يسع المجتمع المنهار الاهتمام للرعاية الصحية؛ فهو يهتم للأمور الأساسية فحسب كالغذاء والسلامة
كانت هجرة الأطباء الجماعية من أكثر التركات الكارثية للحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق بين عامي 2003 و2011. فقد دفعت مغادرتهم نظام الرعاية الصحية المتداعي إلى حافة الانهيار.
كانت ممارسة الطب تعني المخاطرة بحياتك، حيث أصبحت التهديدات والاعتداءات وعمليات الخطف مألوفة، وفق قول نبيل الخالصي، الذي كان يبحث في هجرة العقول الطبية العراقية وآثارها منذ فراره من بغداد إلى الولايات المتحدة عام 2010.
منذ عام 2003، تذكر تقارير الخالصي أنه جرى اختطاف250 طبيبًا عراقيًّا، وقتل 2,000، وفرار نحو 20,000. اليوم، تراجعت موجة الهجرة، ولكن العنف الطائفي لا يزال يستقطب العراق، ولا يزال العديد من الأطباء يتلقون تهديدات لحياتهم.
"لقد خسر العراق 50% من قواه العاملة خلال عام واحد بين عامي 2007 و2008. ولا يزال مفتقرًا إلى العدد الكافي من الأطباء؛ فهم يغادرونه فور تخرجهم إلى دول الجوار أو الغرب؛ بسبب تدني الأجور وانعدام الأمن وحجم أعباء العمل الذي لا يصدق في العراق"، وفق تفسير الخالصي.
يقول الخالصي: إن بعض الأطباء الموجودين في الخارج يعتزمون العودة، ومن بين الذين بقوا في العراق، 50% منهم متردد يريد المغادرة. "لا توفر [السلطات] الأمن للأطباء، لكن من مصلحتها الحفاظ على سلامتهم ليتمكنوا من ممارسة عملهم. إن العراق يدفع الأطباء بعيدًا في نفس الوقت الذي يجذبهم العالم إليه"، كما يشرح.
لقد دفع أطفال العراق كلفة نقص الأطباء؛ فانخفضت معدلات تحصين الأطفال بنسبة 20% منذ عام 2000، ويتلقى نصف الأطفال الصغار بين18 و29 شهرًا كافة التطعيمات الموصى بها عندما يُفترض بهم أن يتلقوها. وقد أدى ذلك إلى عودة ظهور أمراض يمكن الوقاية منها، وقد جرى الإبلاغ هذا العام عن ظهور أول إصابة بشلل الأطفال في العراق منذ إعلان خلوّه من المرض عام 2000.
وتُعَد التهابات الجهاز التنفسي الحادة والإسهال -وكلاهما يمكن علاجه بسهولة- أكبر الأمراض القاتلة للأطفال في البلاد.
مخلفات الحروب السابقة
مخلفات الحروب الماضية تظل تترك عواقب وخيمة على أطفال العراق.
وجد البحث الذي أجرته سعاد العزاوي -الأستاذ المشارك في جامعة المأمون الخاصة للعلوم والتكنولوجيا- عن استخدام اليورانيوم المنضب (DU) في العراق، ارتباطات جلية بين التعرض للمستوى المنخفض من الإشعاع وزيادة العيوب الخلقية، ولوكيميا الأطفال والأورام الخبيثة المسجلة منذ عام 1995، ويتضمن ذلك بعض أنواع السرطان التي لم تكن تُشاهَد قبل عام 1991.
الأطفال معرضون بشكل خاص لمخاطر اليورانيوم المنضب، الذي يترسب في العظام، وأعضاء الجسم وخلاياه؛ لأن خلاياهم تنقسم بسرعة في أثناء نموهم، استنادًا إلى أحمد حردان، في دراسة أُعِدت لصالح وزارة الصحة العراقية.
وتشكل الألغام الأرضية تهديدًا آخر لأطفال العراق، الذي يحتوي على واحدة من أعلى النسب في العالم من الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة. وتقول اليونيسيف إن الألغام الأرضية والقنابل العنقودية قد شوهت مئات الأطفال في العراق أو أودت بحياتهم، وأثرت على ما يقدر بمليون إضافي من خلال تقييد قيامهم بالمهام اليومية البسيطة، أو جعل هذه المهام محفوفة بالمخاطر.
تشير تقديرات اليونيسف إلى أن نصف عدد النازحين داخليًّا في العراق والبالغ عددهم 2,3 مليون شخص هم من الأطفال. وتزيد التغذية غير الكافية والظروف المعيشية غير الصحية وقلة فرص الحصول على خدمات الرعاية الصحية من انتشار الأمراض وتفاقم الحالات الصحية المزمنة. ويؤدي شُح المياه الصالحة للشرب إلى ارتفاع معدلات الأمراض المعوية والجلدية بين الأطفال النازحين.
مستقبل الصحة لأطفال العراق
على خلفية العنف والنزاعات اليومية، تكافح الحكومة لاستعادة الوظائف الأساسية للدولة المدمّرة، ولم تتمكن من معالجة قضايا الصحة العامة التي تحتاج إليها على وجه السرعة.
يقول الخالصي: إن العراق لم يلحق بركب بقية دول العالم من حيث التعليم الطبي. ونتيجة لذلك، فإن أطفال العراق هم تحت عناية نظام الرعاية الصحية الذي لا يزال يعاني نقصًا في المهارات والموارد، واستراتيجية صحية لا تزال ضعيفة ويعوزها التنسيق، ووزارة الصحة لم تلحق حتى الآن بركب التغيرات الوبائية والديموغرافية الرئيسية التي مرت بها البلاد.
"لا يسع المجتمع المنهار الاهتمام للرعاية الصحية؛ فهو يهتم للأمور الأساسية فحسب كالغذاء والسلامة"، يقول الخالصي - رغم أنه يحذر من أن العراق لا يمكن مقارنته خارج السياق، ويتابع: "حتى في أثناء الحرب، وبعد كل ما مرّ به النظام الصحي، فإنه ما يزال يعمل، وأنا معجب به لمرونته".
مهما تكن مرونة النظام، يقول بيكر، فمن دون استقرار وحكومة تعمل، لن يكون ثمة مجال كبير للتحسن، وسيبقى مستقبل أطفال العراق في خطر. "وهنا لا بد للمرء أن يتساءل: كم يمكن للشعب أن يتحمل؟".
تواصل معنا: