نصوص قديمة تقدّم لنا أدلة جديدة عن الإيبولا، وفقًا لقول ليث أبو ردّاد ونيكو ناجلكِرك
نيكو ناجلكِرك وليث أبو ردّاد
الانتشار الحالي لوباء الإيبولا في غرب أفريقيا أخذ العالم على حين غرة1، وهذا يشمل الطبيب الذي اكتشفه، بيتر بايوت2.
لم يسبق قَط الإبلاغ عن أي فاشيات للإيبولا في هذا الجزء من أفريقيا3. ولم يحدث أن بلغت الفاشيات السابقة هذه النسب، ويبدو أن جميعها قد امّحى بعد تتبع طرق انتقال العدوى والسيطرة عليها. بعض هذه الفاشيات سهلها -جزئيًّا على الأقل- عدم كفاية تدابير حفظ الصحة4 في المستشفيات. في المقابل، يبدو أن "الفاشية" الحالية قد قاومت بشدة تدابير الرقابة، وسبب ذلك تضاعف عدد الحالات خلال أسبوعين15.
ويبدو أن حمى ماربورغ -وهي حمى نزفية فيروسية ذات صلة (VHF)- لم تحدث قَط بشكل جائحات كبرى4.
أحد الجوانب المهمة لفيروسات الحميات الفيروسية النزفية المميتة هو أنها اكتُشفت فقط في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته34. فقد اكتُشف فيروس الإيبولا المرة الأولى في الفاشية التي حدثت في يامبوكو، وزائير، ونزارا في السودان (جنوب السودان الآن) عام 1976. ويبدو من المستبعد عدم سبق حدوث حالات أو فاشيات من قبل، وفق ملحوظات ووصف المسافرين أو السلطات الاستعمارية أو المستشفيات التبشيرية على الأقل.
باستعراض رواية عام 1865، من المستكشف صموئيل بيكر من جنوب السودان، وهي منطقة قريبة من نزارا حيث حدثت فاشية المرض عام 1976، نجد أنها تقدم بعض الإيضاح6. وفي حين أطلق بيكر على المرض اسم "الطاعون"، من الجلي أن الأعراض لا تشبه المرض الناجم عن اليرسينية الطاعونية Yersinia pestis، بل تصف نوعًا قاتلاً من الحمى النزفية، ربما كان الإيبولا، كما يوضح الجزء التالي من نص بيكر:
"كل ما كان أمامنا إبحار واضح بسيط. لبضعة أيام اشتكى اثنان أو ثلاثة من رجالنا صداعًا حادًّا، ودوخة، وآلامًا شديدة في العمود الفقري وبين الكتفين. لقد كنت قلقًا عندما كنا في غندكرو بشأن السفينة، فقد مات كثير من الأشخاص على متنها بسبب الطاعون، في أثناء الرحلة من الخرطوم. وقد أكد لي الرجال أن أكثر الأعراض إحداثًا للوفاة كانت النزيف الحاد من الأنف، وفي مثل هذه الحالات لم ينج أحد. أحد البحارة -وكان معتلا أيامًا عدة- اتجه فجأة إلى جانب السفينة ودلى رأسه فوق النهر، لقد كان أنفه ينزف!
ياسين، رجل آخر من رجالي، كان مريضًا. وجاءني عمه -وكيلي- بتقرير يفيد أن "أنفه ينزف بشدة!"، سقط عدة رجال آخرين في براثن المرض؛ فهم مستلقون على سطح السفينة بلا حول ولا قوة ويهذون بصوت خفيض، وعيونهم صفراء كقشر البرتقال. خلال يومين أو ثلاثة أصبح حال السفينة مزعجًا لدرجة لا تطاق. لقد خرج الطاعون من عقاله!
تابعنا الإبحار وتجاوزنا تقاطع نهر السوباط، وكانت الريح جنوبية معتدلة، وهكذا لحسن الحظ كنا في مؤخرة السفينة في مهب الريح نحو أفراد الطاقم. لقي ياسين حتفه، وكان واحدًا ممن نزفت أنوفهم. توقفنا لدفنه. رُتّبت الجنازة على عجل، وأبحرنا ثانية. لقي محمد حتفه أيضًا، وكان قد نزف أنفه. توقفنا للدفن مرة ثانية. ومرة أخرى انطلقت السفينة وأسرعنا في النيل. كان هناك عدد من الرجال المرضى، إلا أن الأعراض اللعينة لم تظهر. كنت قد أعطيت كل رجل جرعة قوية من الكالوميل عند بدء المرض، ولم يكن بوسعي عمل المزيد مع نفاد أدويتي. كل ليلة كنا نسمع هذيان المرضى وتمتماتهم، ولكن بعد سنوات من التآلف مع المنغصات لم يكن لدينا خوف من العدوى.
في صبيحة أحد الأيام جاءني الصبي سات ورأسه معصب، واشتكى ألمًا شديدًا في الظهر والأطراف، إضافة إلى كل أعراض الطاعون المعتادة. في فترة ما بعد الظهر رأيته منحنيًا على جانب السفينة، لقد كان أنفه ينزف بشدة! وفي الليل كان يهذي. في صباح اليوم التالي كان قد فقد صوابه، ومع توقف السفينة لجمع الحطب ألقى بنفسه في النهر ليبرد الحمى الشديدة التي أنهكته. كانت عيناه محتقنتين بالدم، وقد اختلط لون الدم بلون أصفر قوي كصفار البيض، مما أعطى وجهه مظهرًا رهيبًا، إضافة إلى تغير ملامحه لدرجة تجعل التعرف عليه صعبًا.
مسكين سات! الصبي المخلص الذي تبنيناه، والذي رسم صورة ناصعة في استثناء صارخ لأبناء عرقه الأسود، وقع الآن ضحية لهذا المرض الرهيب. كان فتى قويًّا طيبًا في حوالي الخامسة عشرة من عمره، وها هو الآن يستلقي عاجزًا على حصيرته، ويلقي نظرات حزينة على وجه ربة بيته وهي تعطيه كوبًا من الماء البارد. انقضت ساعة من الزمن، وخلد إلى النوم. اتجهت كاركا -الأمة البدينة طيبة القلب- نحوه بهدوء. أمسكت بكاحليه وركبتيه برفق، ومدت ساقيه حتى استقامتا، ووضعت ذراعيه إلى جانبي جسده. ثم غطت وجهه بقطعة قماش، إحدى القطع القليلة المتبقية من الخرق التي لا تزال بحوزتنا. تساءلنا: "هل ينام بهدوء؟"، انحدرت الدموع على خدي كاركا الضخمة ذات القلب الطيب وهي تنشج باكية: "لقد مات".
تشير نصوص كهذه بدقة إلى البؤر المحتملة لتفشي الإيبولا، وتكشف عن وبائيات هذه الفيروسات الحموية النزفية في غياب تدابير الرقابة الحديثة.
كتاب بيكر متاح على شبكة الإنترنت، ومن المرجح أن تتوفر مصادر مماثلة يمكن البحث فيها للحصول على أدلة وبصائر. ولكن معظم النصوص ذات الصلة غير منشورة، وربما لم تُنشر على الإطلاق. إن دراسة الفاشيات التي حدثت إبان الحملات الاستعمارية والتبشيرية بحثًا عن أدلة تحتاج إلى بحث واسع ومعمق في مئات الوثائق، لأن تسمية الإيبولا وماربورغ لم تكن قد أُطلقت إذ ذاك على هذه الأمراض.
ومع ذلك قد تعيننا هذه النصوص على فهم وتيرة تفشي الأمراض، وتقديم أدلة عن طبيعة "الأحداث غير المباشرة" المنتقلة من المستودع الحيواني، وارتباطاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمناخية.
ليث أبو رداد مختص بالأوبئة في كلية طب وايل كورنيل في قطر، ونيكو ناجلكِرك مختص بالإحصاء الحيوي وعلم الأوبئة في مركز إيراسموس الطبي، روتردام، هولندا.
تواصل معنا: