أُنقِذَت مجموعةٌ من البذور التي لا تُقدَّر بقيمةٍ من منطقة الهلال الخصيب بالشرق الأوسط من الدمار في سوريا، بفضل تشكيلة متنوعة من عيّنات البذور الاحتياطية المخزّنة في قبو "نهاية العالم" على إحدى الجُزر في الدائرة القطبية الشمالية. الآن، يستطيع الباحثون إعادة بناء بنك البذور في كلٍّ من المغرب ولبنان، وهو أمرٌ لم يكن ليحدث من دون الجهود والاتفاقيات الدولية.
وبنوك البذور هي مستودعات غنية بالتنوع البيولوجي الذي لا غنى عنه لضمان الأمن الغذائي في المستقبل، لا سيما في مواجهة التغيُّر المناخي.
يضم بنك البذور التابع للمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة "إيكاردا" ICARDA أكبر تشكيلة متنوعة من المحاصيل الزراعية من منطقة الهلال الخصيب، وهي المنطقة التي شهدت نشأة الزراعة. يحتوي البنك على آلاف الأقارب البريّة للمحاصيل الغذائية الأساسية، مثل القمح والشعير والعدس والفول. وتُتاح عينات البذور بالمجان لمربّي النباتات وللباحثين حول العالم ضمن إطار "المعاهدة الدولية بشأن الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة"، التي تيسِّر الحصول على الصفات الوراثية لتعزيز قدرة محاصيل أخرى حول العالم على تحمُّل ظروف الجفاف والحرارة والآفات.
كانت هذه المجموعة من البذور محفوظةً بالكامل في سوريا، لكنها باتت عُرضةً للضياع عندما اندلعت الحرب الأهلية في مارس عام 2011.
نجت مجموعة البذور من الدمار بفعل قرار مبكّر بإرسال البذور للاحتفاظ بها في صورة عيّنات احتياطية في قبو "سفالبارد العالمي للبذور"، الذي يُشار إليه عادةً باسم قبو بذور نهاية العالم. يقع القبو في إحدى الجُزر النرويجية داخل المنطقة القطبية الشمالية، على عمق أكثر من 100 متر تحت الأرض داخل جبل "بلاتابيرجيت"، حيث تحيط به طبقة جليدية دائمة وصخور سميكة.
كان بنك «إيكاردا» من أوائل مُودِعي البذور في القبو عند افتتاحه عام 2008، وقد نجح في مضاعفة أكثر من 80% من تشكيلة البذور الموجودة فيه عندما اضطُرَّ آخر العاملين به إلى مغادرة بلدة "تل حدية" في سوريا عام 2014 من جَرَّاء الحرب. وقد حظيت الجهود الاستثنائية للعاملين في «إيكاردا»، الذين تمكّنوا من تصنيف البذور وتهيئتها وإرسال عينات منها خارج سوريا في خضم الصراعات، بإِشادة دولية، ونال عنها الفريق "جائزة جريجور مندل للابتكار" عام 2015.
يقول زكريا كحيل، رئيس عمليات الموارد الوراثية وإعداد الأنسال وبنك الجينات لدى بنك "إيكاردا" بالمغرب: "العينات الاحتياطية هي إحدى الركائز التي تقوم عليها إدارة بنك الجينات، فهي أشبه بوثيقة تأمين. لم نكن نفكر في حماية بنك البذور في حالة حدوث اضطرابات سياسية وقتها عام 2008. لكن مثلما اتضح لاحقًا، كان البدء في إيداع البذور آنذاك قرارًا صائبًا جدًّا".
يعمل بنك "إيكاردا" منذ عام 2015 على إعادة بناء تشكيلته من البذور في مرافق جديدة في تربل بلبنان والرباط بالمغرب باستخدام العينات الاحتياطية المحفوظة في قبو "سفالبارد".
ويشير الباحثون1 إلى أن عينات البذور المسترجَعة قد استُنسِخَت بأعداد كبيرة لإنتاج بذور جديدة بغرض إعادة تكوين مجموعات البذور النشطة والأساسية وبغرض التوزيع أيضًا. إضافةً إلى ذلك، فقد أُعيدت نُسخ احتياطية جديدة إلى قبو "سفالبارد".
يقول أُولا ويستنجن، من الجامعة النرويجية لعلوم الحياة: "يكشف إنقاذ مجموعة بذور إيكاردا في سفالبارد عن أهمية التعاون متعدد الأطراف"، مؤكدًا فكرة الاعتماد المتبادل بين جميع دول العالم ومناطقه حين يتعلق الأمر بالموارد الوراثية، ويضيف قائلًا: "لولا المعاهدة الدولية بشأن الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة، لما حظينا بهذا المناخ من الثقة وبالقوانين التي تنظّم جهود التعاون الدولي المبذولة لإنقاذ هذه الموارد الطبيعية القيّمة".
يضيف ويستنجن أن الاحتفاظ بمجموعات بهذه الضخامة من الموارد الوراثية وإعادة إنتاجها يشكّل تحديًا من الناحية الفنية، ويقول: "قدرة إيكاردا على إعادة إنتاج ومضاعفة 30,000 عينة من البذور سنويًّا منذ استعادة العينات الاحتياطية من سفالبارد أمرٌ مثيرٌ للإعجاب بدرجة كبيرة".
إن إعادة إنتاج البذور بكميات كبيرة تتطلّب طاقة ريٍّ كبيرة، وقدرة على دَرْس الحبوب، والتخزين المؤقت، واختبار صحّة البذور، ومعالجتها، واختبار صلاحيتها، وتجفيفها وتعبئتها، وغيرها من العمليات الأخرى. ولدى بنك إيكاردا في لبنان حاليًّا واحدٌ من أكبر المرافق التي تلبِّي هذه الاحتياجات على مستوى العالم.
قد تستمر عملية استعادة العينات من قبو "سفالبارد" إلى لبنان والمغرب لإعادة بناء مجموعة «إيكاردا» بالكامل حتى عام 2030 أو ما بعده، اعتمادًا على ظروف التمويل.
يشير كحيل إلى أن إعادة بناء بنك بذور «إيكاردا» في منطقة الشرق الأوسط أمرٌ منطقي، قائلًا: "يرجع ذلك إلى سهولة وصولنا إلى الأنواع المتوطّنة وإعادة إنتاجها في موطنها الطبيعي، وإلى أسباب لوجستية. كان من السهل علينا نقل خبرائنا من حلب إلى مقرّنا الجديد في لبنان. والمساعدات التي نحصل عليها من الحكومات في صورة مرافق وتمويل لها أهميةٌ بالغة، ومن المهم كذلك أن نكون على مقربة من العملاء ومستخدمي بنك الجينات في المنطقة".
ويوضح كحيل أن أكبر التحديات الماثلة أمام "إيكاردا" سيكون "الاستمرار في إعادة الإنتاج بمعدلات مكثفة؛ لإتاحة مجموعة البذور للتوزيع المحلي والعالمي، ولتخزين عينات احتياطية، والاستمرار في تطوير قدرات فرق العمل".
تواصل معنا: