قد يكون تأخُّر وصول الفيروس والعمر الفتي للسكان من العوامل المساعدة على الانخفاض النسبي الحالي لأعداد المصابين في المنطقة العربية
محمد السعيد
مع اقتراب عدد حالات الإصابة المؤكدة بفيروس كورونا المستجد خمسة ملايين إصابة على مستوى العالم1 ، وتجاوز عدد الإصابات في البلاد العربية 190 ألف حالة إصابة مؤكدة2 ، يتزايد القلق من المستقبل، في ظل الاتجاه العالمي لتخفيف قيود التباعد الاجتماعي المفروضة للحد من انتشار الفيروس.
في ندوة افتراضية يوم الثلاثاء 5 مايو، استضافت Nature Middle East الدكتورة "غنى ممتاز"، الأستاذ المساعد في علم الوبائيات والأمراض المعدية في كلية العلوم الصحية بالجامعة الأميركية في بيروت، للإجابة عن السؤال: عالمنا العربي في زمن كوفيد-19.. إلى أين؟
أشارت "ممتاز" إلى التدنِّي النسبي لعدد الإصابات بالعدوى في البلاد العربية مقارنةً بدول أخرى أكثر تطورًا وجاهزية، وأرجعت ذلك إلى عدة أسباب محتملة، أولها عامل الوقت؛ إذ تأخر وصول الفيروس إلى المنطقة، مقارنةً بمناطق أخرى، بالإضافة إلى العزلة التي تعاني منها بعض الدول بسبب نزاعات سياسية أو أزمات اقتصادية.
بخلاف دول الخليج ذات الاقتصادات القوية، جاءت نسبة إجراء الاختبارات في معظم دول المنطقة متدنية؛ نظرًا لعدم كفاية الموارد لتوسيع نطاق الاختبارات، ومحدودية قدرات المختبرات، وضَعف أنظمة المراقبة والترصد. ووفق "ممتاز" فإن إجراء عدد كبير من الفحوصات في دول مثل السعودية والإمارات وقطر قد يفسر اكتشاف عدد حالات أكبر من الدول العربية الأخرى.
كما أن التطبيق المبكر لعدد من الإجراءات التي تقلل من الحركة والاختلاط ربما يكون قد وضع حدًّا لسرعة انتشار الوباء، فضلاً عن تأثير عامل متوسط سن السكان الفتي نسبيًّا بالعالم العربي. تلفت الباحثة إلى دراسات جديدة ترجح وجود اختلاف في القابلية البيولوجية للعدوى، إذ تنخفض نسبة العدوى تدريجيًّا مع انخفاض متوسط العمر، فتكون نسبة الإصابة محدودة بين الأطفال، لكنها ترتفع بين مَن تزيد أعمارهم على 50 عامًا.
نسبة الوفيات بسبب الإصابة بجائحة "كوفيد-19" منخفضة هي الأخرى في البلاد العربية، ربما للسبب نفسه، أي التأثير الوقائي للعمر الفتي. لكن معدل الوفيات قد يرتفع مستقبلًا؛ إذ إن الفيروس حديث القدوم إلى المنطقة نسبيًّا، كما أن الأمر قد يستغرق ما يصل إلى ثمانية أسابيع قبل الإصابة بمضاعفات حادة تؤدي إلى الوفاة، على حد قول "ممتاز".
تشير الباحثة إلى أهمية اعتبار عامل الانتشار الخاص بالفيروس، ويقدر بـ"2.5" في حالة عدم اتخاذ إجراءات للحد من انتشارها، وهو أعلى من فيروسات أخرى، مثل فيروس متلازمة الشرق الأوسط التنفسية "ميرس"، الذي يبلغ عامل انتشاره أقل من "1"، ويتراوح عامل انتشار فيروس الإنفلونزا الموسمية بين "1.3 و1.5". ويُعرف عامل الانتشار بأنه متوسط عدد الإصابات الجديدة التي يسببها المصاب الواحد حين ينقل العدوى إلى آخرين.
تكشف نتائج دراسات المسح المصلي في العالم ارتفاع نسبة انتشار العدوى الفعلية عدة أضعاف النسب المشخَّصة؛ إذ تظهر أعراض طفيفة على نسبة كبيرة من المصابين، وقد لا تظهر أعراض للإصابة من الأساس. لكن نسبة الانتشار لا تزال دون النسبة الكافية لتحقيق مناعة جماعية، فيبقى الاحتواء الخيار المنطقي والأكثر سلامة.
لاحتواء الوباء، تشير "ممتاز" إلى أنه يجب خفض عامل انتشار الفيروس إلى أقل من "1"، أو إلى حد قدرة استيعاب القطاع الصحي في كل دولة. هذا يستلزم تقليص التواصل الاجتماعي من خلال عدد من الإجراءات، كالتباعد الاجتماعي، والتوسع في إجراء الاختبارات، وتتبُّع المخالطين للمصابين من أجل كسر سلاسل الانتشار، والعزل الفوري للحالات المصابة، فضلًا عن التشديد على ضرورة التزام الأفراد بإجراءات الوقاية الشخصية.
ومع الاتجاه العالمي نحو تخفيف قيود التباعد الاجتماعي لتلافي الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجائحة، تطرح "ممتاز" ثلاث إستراتيجيات محتملة لهذا الأمر.
أولى هذه الإستراتيجيات التخفيف التدريجي للقيود، من أجل تحقيق التوازن بين الحاجة إلى الانتعاش الاقتصادي واستئناف النشاط الطبيعي من ناحية، والسيطرة على الوباء بدرجة يمكن لنظم الرعاية الصحية استيعابها من ناحية أخرى. لكن اتباع هذه الإستراتيجية يطيل مدة الوباء ويزيد عدد الإصابات، فضلًا عن الزيادة المتوقعة في التواصل الاجتماعي فور التخفيف.
أما الإستراتيجية الثانية، فتتضمن التخفيف السريع لقيود التباعد الاجتماعي، مع إجراء اختبارات على نطاق واسع كبديل لها. وفي هذه الحالة سيتم اكتشاف المزيد من الإصابات. ولتحقيق مفهوم "الاختبارات الواسعة"، يجب على الدولة إجراء اختبارات يومية لنسبة تقارب 1٪ من مجمل سكان البلد، إلا أن هذه النسبة قد تختلف وفق الوضع الوبائي في كل بلد. ورغم كلفتها المادية الكبيرة، فإن هذه الإستراتيجية تحقق انتعاشًا فوريًّا للاقتصاد مع استئناف النشاط الطبيعي، ومع حالة وبائية مسيطَر عليها -إلى حدٍّ ما- رغم تسجيل عدد كبير من الإصابات.
وتقوم الإستراتيجية الثالثة على الجمع بين سابقتيها، حيث التخفيف التدريجي لقيود التباعد الاجتماعي بالتزامن مع التوسع في إجراء الاختبارات. تبقى هذه الإستراتيجية هي المفضلة؛ لأنها تؤدي إلى حالة وبائية محكومة جيدًا، وقدرة جيدة لنظام الرعاية الصحية على إدارة عبء المرض.
تشدد "ممتاز" على ضرورة عدم الاتجاه إلى الرفع المفاجئ لقيود التباعد الاجتماعي؛ لتجنُّب حدوث ذروة جديدة. وتقترح تخفيف القيود بعد الوصول إلى ذروة الوباء، على أن يكون التخفيف على مدار شهرين بطريقة منظمة مع مراقبة قوية للعدوى، بالتزامن مع تكثيف للاختبارات. وتلفت الباحثة إلى أن بعض الأبحاث يشير إلى احتمالية أن يكون لارتفاع درجة الحرارة دورٌ مساعد في الإبطاء من موجة انتشار الفيروس، لكن موجة انتشار أخرى قد تكون متوقعة الحدوث في الخريف، وهذا يعتمد على عوامل عدة، أهمها فاعلية ومدة المناعة المكونة عند التعرُّض لكوفيد-19.
ولتحديد ذروة الانتشار، على الدول إجراء نماذج رياضية وفقًا للمنحنى الوبائي لكل بلد، ومن ثم يمكن توقُّع متى تكون الذروة.
تواصل معنا: