الاستدامة الأكاديمية في المنطقة العربية تبدأ بأبنائها
نشرت بتاريخ 17 مايو 2022
رأس المال البشري والتعاون والابتكار هي المفاتيح الرئيسية للاستدامة في مؤسسات التعليم العالي بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
كيرا ووكر
تواجه الاستدامة الأكاديمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحدياتٍ عديدة، وتدرك دول المنطقة أنَّها بحاجة إلى زيادة ما تخصصه من موارد، كي تظل قادرةً على المنافسة مع بقية العالم.
ولمناقشة تنوع الخبرات الإقليمية في المنطقة المتحدثة بالعربية من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وللتحاور حول استدامة مؤسسات التعليم العالي في تلك المنطقة ومستقبلها، شاركت مجموعةٌ من الخبراء مؤخرًا في ندوةٍ إلكترونية، استضافتها منصة "نيتشر ميدل إيست" Nature Middle East، وأدارتها رئيسة تحريرها نادية العوضي.
طريقٌ محفوفة بالتحديات نحو تحقيق الاستدامة
تقول سمو الأميرة سُمية بنت الحسن، رئيسة الجمعية العلمية الملكية في الأردن: إنَّ عالمنا المُعقَّد المُعَولَم الحالي بعيدٌ كل البُعد عن عالَم القرن الماضي، الذي كان يعزِّز أهمية دور الحكومات في المجتمع، والذي أُسِّسَت فيه معظم البنية التحتية الأكاديمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو ما أوجد نظامًا هرميًّا، علَّم أعدادًا كبيرةً من الطلاب ودرَّبها على خدمة أجنداتٍ هدفها بناء الدول، وتابعت الأميرة موضحةً أنَّ "أفضل ما يمكن أن يوصَف به هذا النهج في يومنا هذا هو أنَّه لا يخدم المجتمع بما يكفي، وأسوأ ما قد يوصَف به هو أنَّه يدمر آمالنا في بناء مجتمعاتٍ أفضل، وأكثر استجابةً واستدامة، علينا أن نثق بمواهبنا، ونطلق لها العنان، ونوفر لها الفرص المناسبة".
يواجه الأردن العديد من المشكلات العالمية المتفاقمة التي تتطلب حلولًا مستدامة، مثل الطاقة والبيئة والأمن الغذائي والتوسع الحضري، وعن ذلك تقول الأميرة سُمية: "تتطلب المشكلات المعقدة والعامة إسهاماتٍ من تخصصاتٍ مختلفة"، وأضافت الأميرة أنَّ غالبية الجامعات بالأردن وفي أنحاء المنطقة ما زالت لديها تلك الأقسام الأكاديمية التقليدية أحادية التخصص المعزول بعضها عن بعض، والتي كانت تفي باحتياجات واقعٍ وَلَّى وانقضى.
إضافةً إلى هذا، فالجهود المبذولة لتحقيق الاستدامة الاقتصادية في مؤسسات التعليم العالي بمعظم أنحاء المنطقة تواجه تحدياتٍ تمويليةً ضخمة، ذلك أنَّ المصدر الأساسي للتمويل غير الحكومي الذي تتلقاه الجامعات الحكومية هو رسوم الدراسة، وهو ما أدى إلى التركيز على زيادة أعداد المقبولين بهذه الجامعات من أجل تغطية التكاليف التعليمية والتشغيلية، وترى الأميرة سُمية أنَّ هذا جاء على حساب جودة التعليم، وتسبَّب في ابتعاد أعضاء هيئات التدريس عن البحث العلمي، وهو ما يهدد استدامة نماذج العمل الخاصة بالجامعات، وقدرتها على إنتاج ما يفيد المجتمعات.
ومن أجل زيادة الاستدامة الاقتصادية، يُمكن للجامعات أن تبحث عن مصادر جديدة للتمويل، مثل الصناديق التنافسية، والأوقاف الجامعية، والكراسي البحثية، ومن القطاعين الاقتصادي والصناعي، وينبغي أن تنبني جهود التمويل على إستراتيجيةٍ طويلة المدى، تشمل خططًا استثمارية، ومبادراتٍ لتوفير مزيدٍ من الموارد.
الاستقلالية الأكاديمية
تعزيز اللامركزية بهدف تحقيق المزيد من الاستقلالية والحرية الأكاديمية هو أمرٌ ضروري لتصبح مؤسسات التعليم العالي العربية أكثر استجابةً وتكيُّفًا واستدامة، وحول هذه النقطة تقول د. دليلة لودي، أستاذ الهندسة البيئية والمائية بكلية العلوم والتكنولوجيا في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء: "تحتاج الجامعات إلى الاستقلالية كي تستطيع التكيف والاستجابة سريعًا للبيئة الاقتصادية والاجتماعية المستمرة في التغير، وكي تواجه العالم المتزايد في انفتاحه وتنافسيته".
وفي المغرب، بدأ تقسيم البلاد إلى مناطق إدارية في عام 2015، وبموجب هذه العملية حظيت المجالس المُنتخَبَة في تلك المناطق بسلطة اتخاذ القرار في كل القطاعات، ومن ضمنها قطاع التعليم العالي، وتقول د. دليلة: إنَّ مؤسسات التعليم العالي مهمةٌ للنمو الاقتصادي الإقليمي ولتحسُّن الظروف المعيشية في المنطقة، وإنَّ اللامركزية جعلت الجامعات المغربية أكثر استقلاليةً على المستويين المالي والإداري، ومع ذلك فهناك حاجة إلى تحسين كفاءة اتخاذ القرار.
وفي أنحاء المنطقة، ما زالت هناك صعوبة في تحقيق الاستقلالية المؤسسية؛ لأنَّ الجامعات العامة والخاصة مرتبطةٌ أكثر مما ينبغي بالأجهزة الحكومية، وتعتمد على مبادئ هرمية عفا عليها الزمن، وفق ما قالت الأميرة سُمية، التي أضافت: "سواءٌ على المستوى الإداري، أو المالي، أو الأكاديمي، تفتقر هذه الجامعات إلى الاستقلالية الضرورية من أجل الابتكار، كما أنَّها تتصف بالجمود، في الوقت الذي تحتاج فيه جهود تحقيق الاستدامة إلى حرية الفكر والفعل".
شفافية البيانات ومشاركتها
إيجاد الحلول يتطلب التحلِّي بالشفافية، ويحتاج إلى بياناتٍ مجموعة ومُنسَّقة بعناية، غير أنَّ ثقافة المشاركة المحدودة للمعلومات تقوض ذلك، كما أوضح فرانسيسكو مارموليخو، رئيس شؤون التعليم العالي في مؤسسة قطر، وعن هذا يقول مارموليخو: "نحتاج إلى غرس ثقافةٍ تدرك أنَّ جمع الأدلة الكافية سبيلنا المُثلى لتحسين العمل الذي نؤديه في قطاع التعليم العالي".
وأضاف مارموليخو أنَّه من الضروري بناء منظوماتٍ تعليمية ملائمة عبر إستراتيجياتٍ مبتكرة، حتى نُحوِّل اقتصاداتنا ومجتمعاتنا إلى اقتصاداتٍ ومجتمعات قائمة على المعرفة، ومن الأمثلة الجيدة على ذلك "المدينة التعليمية" في قطر، وهي منظومة فريدة تضم ثماني جامعاتٍ عالمية رائدة، تقدم 70 برنامجًا للدراسات الجامعية والعُليا في حَرَمٍ واحد، وتابع مارموليخو موضحًا أنَّ هذه المدينة تُثبت "كيف يمكن لنا أن نغير نظم التعليم العالي إلى نظمٍ أكثر استقلالًا وتنسيقًا، وأفضل من ناحية الأداء، وخاضعة للمساءلة في الوقت ذاته، وهذا النوع من النظم نحتاج إليه بشدة في المنطقة".
الاهتمام بتغيُّر المناخ
تؤدي مؤسسات التعليم العالي دورًا أساسيًّا في تزويد الطلاب بالمعارف والمهارات المطلوبة للتعامل مع القضايا الأكثر إلحاحًا في وقتنا الحالي، ومن أهمها قضية تغيُّر المناخ.
ويوضح د. مصطفى بدوي -الأستاذ المشارك ومدير وادي العلوم والتكنولوجيا بمؤسسة مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا في مصر- أنَّ المؤسسة تُهَيِّئ طلابها لمواجهة هذه التحديات عن طريق اتباع نهجٍ متعدد التخصصات، يركز على أهمية التعاون بين الطلاب، وعلى الأبحاث القائمة على المشروعات، ويتضمن في كل مراحله قضايا عالمنا الحالية، مثل الحد من آثار تغيُّر المناخ، ويركز أيضًا على الخبرات العملية خارج الفصول الدراسية، وعلى التواصل مع صُناع القرار، وأضاف قائلًا: "نحتاج إلى إشراك الطلاب في كل ما يتعلق بتلك المسألة؛ لأنَّ تغيُّر المناخ وكيفية تعاملنا معه ينبغي أن يكونا الشغل الشاغل لنا جميعًا".
جديرٌ بالذكر أنَّ الدورة السابعة والعشرين من مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP27)، التي ستُعقد في مصر خلال العام الحالي 2022، والدورة الثامنة والعشرين (COP28) التي ستُعقَد بالإمارات العربية المتحدة في العام القادم، كلتاهما ستوفر فرصًا لدعم المشاركة الأكاديمية المحلية على مستوياتٍ عدة، وفي هذا الصدد تقول الأميرة سمية: "إنَّ مؤسسات التعليم العالي لديها مسؤوليةٌ عظيمة للمساعدة في تنظيم مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ"، تتضمن تلك المسؤولية أنشطةً مثل وضع أجندات المؤتمر وتحليلها ونشرها، وإشراك الطلاب في المناقشات الدائرة حول مؤتمرات المناخ، وحتى الاضطلاع بدور قنوات الاتصال مع المجتمع، وتقديم المشورة العلمية للحكومات.
هاتان الدورتان ستوفران أيضًا فرصةً لدعم التعاون الإقليمي وبرامج التبادل الأكاديمي في المنطقة، وعن ذلك يقول د. مصطفى بدوي: ”عادةً ما نبحث عن فرص التعاون مع دول الشمال العالمي أولًا، ثم دول الجنوب بعدها، لكنَّني أرى أنَّ منطقتنا حاليًّا لديها خبرةٌ كبيرة… ولا بُد من التعاون والتشارُك بين دول المنطقة؛ فعلينا ألَّا نكرر أخطاء الماضي، ويمكن أن يحاول بعضنا التعلم من بعض".
ويتفق مارموليخو مع ذلك، قائلًا: إنَّه في غالبية أنحاء العالم، تكون الأولوية في المشروعات التعاونية الدولية لدول المنطقة ذاتها، وتابع: "المنطقة الوحيدة التي لا يحدث فيها ذلك هي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأعتقد أنَّ بمقدورنا إصلاح ذلك إذا بذلنا الجهد لمعرفة بعضنا لبعض، ولتواصل بعضنا مع بعض، ولبناء شيءٍ ما معًا؛ طريقةٍ جديدة للتعليم العالي في المنطقة".
ولا بُد أن تبدأ أي جهودٍ لتحقيق الاستدامة برأس المال البشري الذي يجعل تحقيقها ممكنًا، وتُعلِّق الأميرة سُمية على ذلك قائلةً: "المورد الأعظم لأي دولةٍ هو شعبها، وتحقيق الرخاء والاستدامة في المستقبل يعتمد على تحرير القدرة الإبداعية على الاكتشاف، والاستكشاف، والابتكار، ونحن نعلم أنَّ الروح الإبداعية الحقيقية كانت في وقتٍ ما السمة المميزة لعالمنا العربي، علينا أن نبعث تلك الروح من جديد، ومؤسساتنا التعليمية لا بد أن تكون هي القوى المحركة لهذه العملية".
واختتم المشاركون في الندوة مشاركاتهم بتقديم مجموعةٍ من التوصيات، تتعلق بالإجراءات الواجب اتخاذها في المستقبل:
• تأسيس شبكة لمؤسسات التعليم العالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بهدف بناء منظومةٍ أقوى للتعليم العالي فيها.
• البحث عن موارد جديدة ومبتكرة للتمويل من أجل تحقيق الاستدامة الاقتصادية.
• غرس ثقافةٍ داخل مؤسسات التعليم العالي لا تركز فقط على مراقبة وضمان الجودة، بل تركز أيضًا على تحسين الجودة، وذلك لزيادة فاعلية تلك المؤسسات.
• بناء منظوماتٍ تعليمية ملائمة، للمساعدة في تحول اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومجتمعاتها إلى اقتصاداتٍ ومجتمعات مستدامة قائمة على المعرفة.
• زيادة التعاون والتشارُك فيما بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، للتزوُّد من ثروة المعارف والخبرات في المنطقة.
تواصل معنا: