ثمة نُظمٌ تقليدية لتجميع المياه يمكن أن تستعين بها المجتمعات المحلية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لمواجهة مشكلة ندرة المياه التي تزداد تفاقمًا والمناخ المتجه إلى الجفاف.. إذا ما جرت صيانتها.
كيرا ووكَر
تُقلِّل التأثيرات الناجمة عن التغير المناخي من إمكانية التنبؤ بمدى توافر المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي ضوء ما يتركه انعدام الأمن المائي من آثارٍ آخذةٍ في الاتساع على الصحة، والغذاء، والمجتمع، والاقتصاد، تتأكد الضرورة الملحَّة لاستكشاف سُبُلٍ مستدامةٍ يمكن من خلالها توفير إمدادات المياه.
وبينما يلوح في الأفق مستقبلٌ أشد احترارًا وجفافًا، ينقِّب بعض الباحثين في الماضي؛ علَّهم يجدون حلولًا.
فعلى مدار قرون، تمكنت مجتمعات الأراضي الجافة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من اجتياز تحدي ندرة المياه عن طريق اتباع نُظُمٍ تقليدية في إدارة هذا المورد الحيوي، ما أثمر عن توفير مصادر مائية يمكن الاعتماد عليها في تدبير احتياجات المجتمعات المحلية من المياه إضافةً إلى استخدامها في أغراض الري.
والآن يدرك العلماء أنَّ هذه النُّظُم التقليدية يمكن أن تُسِهم بدورٍ مهم في تمكين المنطقة من التخفيف من آثار الإجهاد المائي الذي يزداد تفاقُمًا.
يقول ديل لايتفوت، الأستاذ الفخري للجغرافيا في جامعة ولاية أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأمريكية: "يمكن أن تستعين الدول بهذه [النُّظُم التقليدية] كي تتأقلم مع ندرة المياه، وذلك من خلال تعزيز بعض المصادر الأخرى المتاحة، ولا تزال هذه البنية التحتية قائمةً في العديد من الأماكن، وهي مفيدة فيها طالما أن الناس يحرصون على صيانتها واستمرارية تدفُّقها".
القنوات المتدفقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تُعَد القنوات من أهم الطرق التقليدية لإدارة المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي نظام لتجميع المياه ونقلها يُعتَقد أنه نشأ قبل أكثر من 3000 عام في بلاد فارس.
على مدار القرن الماضي، تَراجع الاعتماد على هذه القنوات نتيجة ظهور البنية التحتية الحديثة للمياه وهجرة السكان من الريف إلى المدن، ما أسفر عن تعطُّل بعض تلك القنوات أو جفافه، وبرغم ذلك، لا تزال تُمثِّل مصدرًا أساسيًّا للمياه في العديد من أرجاء المنطقة، وإن اختلفت مُسمياتها، إذ تُعرف في المملكة المغربية باسم «الخطارة»، وفي الجزائر باسم «الفُقّارة»، وفي عُمان باسم «الأفلاج»، وفي إقليم كردستان بالعراق باسم «كاريز».
ويتألف نظام القنوات من شبكة ممرات ذات انحدارٍ خفيف تسير تحت الأرض وتستخدم الجاذبية في جلب الماء من طبقات المياه الجوفية إلى سطح الأرض، وهي تمتد في الغالب إلى عدة كيلومترات، ومن هناك تُنقَل المياه عبر ممر مفتوح من أجل توزيعها لأغراض الزراعة والاستخدام المنزلي، ونظرًا إلى أن معدل تدفق المياه في القناة محكومٌ بمستوى سطح الماء الجوفي، فمن المستبعد أن يتسبب في انخفاض مخزون المياه الجوفية بدرجةٍ كبيرة، ومن ثم تُعد هذه طريقةً مستدامة لتجميع المياه.
تحدياتٌ حديثة تعترض حلول الماضي
صارت الحاجة إلى المياه التي توفرها القنوات أكبر بكثيرٍ مما كانت عليه في أي وقت مضى، ورغم ذلك، ثمة مجموعةٌ من التحديات تهدد استمرار تدفق المياه في هذه القنوات.
ففي عُمان، على سبيل المثال، توفر الأفلاج ما يزيد على ثلث حاجة البلاد من مياه الري، ولا يزال نحو 2000 من تلك الأفلاج يتدفق بالمياه، لكن خسارة الأراضي الزراعية لصالح التمدن، والتنافس بين المناطق الحضرية وقطاع الصناعة على المياه الجوفية، والتلوث الناجم عن المبيدات الحشرية والنفط، كلها عوامل تهدد نظام الأفلاج، وفق ما يوضح عبد الله سيف الغافري، أستاذ كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج في جامعة نزوى في عُمان.
يُشير الغافري إلى أن رفع مستوى الوعي لدى الناس بفوائد الأفلاج لقطاعاتٍ مثل المياه، والغذاء، والسياحة البيئية، أمرٌ ضروري للحفاظ عليها؛ إذ يقول: "كانت الأفلاج هي مصدر الحياة في عُمان، وقد اعتاد الناس الاهتمام بها عندما لم تكن أمامهم بدائل أخرى تمكِّنهم من البقاء على قيد الحياة، أما الآن فقد صارت أقل أهميةً ما أدى إلى تدهورها، لذا نحن بحاجةٍ إلى زيادة الوعي بأهميتها من خلال التثقيف؛ فهذه النُّظُم متناغمةٌ مع الطبيعة".
وفي الجزائر، حيث لا تزال المياه تتدفق في نحو 700 مجرىً مائي قديم، تُمثِّل البنية التحتية الحديثة للمياه تهديدًا لقدرة الفُقّارة على الاستمرار في توفير مياه الشرب والري لواحات الصحراء الكبرى، والسبب في ذلك أنَّ حفر آبار التنقيب العميقة بالقرب من الفُقّارات يؤدي إلى انخفاض مناسيب المياه الجوفية، مما يُسبِّب تضاؤلًا في تدفق المياه أو جفافها تمامًا، وفق قول بوعلام رميني، أستاذ الهندسة الهيدروليكية في جامعة البليدة بالجزائر، يضيف رميني على ذلك أنَّ ضمان بقاء الفُقّارة يتطلب مزيدًا من الاهتمام من جانب المسؤولين المحليين والسكان على حدٍّ سواء.
ضمان استمرارية القنوات
يوضح لايتفوت أنَّ استمرارية نظام القنوات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتوقف على عاملين أساسيين: أولهما ضرورة توفير دعم مالي مستمر من الحكومات الوطنية أو المنظمات والهيئات العالمية؛ وذلك لتغطية نفقات ما يلزمها من عمالة وصيانة مستمرة، وثانيهما ضرورة تعزيز الاهتمام المجتمعي بها، إذ من دونه ستُهمَل القنوات، يقول لايتفوت: "حينما يتوافر المال، والاهتمام المجتمعي، والقوة العاملة من الشباب، تستمر القنوات في التدفق، لكن حينما يصير المال غير كافٍ، وتغيب القوة العاملة المحلية، ويتضاءل حجم البلدة، تندثر القنوات".
يُضاف إلى ذلك أن القيمة التي يعزوها الخبراء المحليون والدوليون إلى النُّظُم التقليدية تؤثر هي الأخرى في مستقبل تلك القنوات، إذ يعتقد رميني أن قيمة المعرفة الإيكولوجية التقليدية لدى المجتمعات المحلية لا تحظى حتى الآن بالتقدير الملائم، وهو ما ينعكس جزئيًّا في قلة عدد العلماء الذين يكرِّسون أنفسهم لدراسة النُّظُم المائية التقليدية، يقول رميني: "إننا لم ننتفع من هذا الإرث مثلما ينبغي لنا".
من جانبه، يوضح لايتفوت أنَّ عددًا متزايدًا من الخبراء قد بدأ يدرك الآن قيمة هذه النُّظُم الموروثة، وهو ما يتضح في تضمينهم المعرفة الإيكولوجية التقليدية في عملهم ودمجها مع النُّهُج العلمية الحديثة، يقول لايتفوت: "لا يزال العلماء والأكاديميون والمهندسون بحاجةٍ إلى تعلُّم الكثير؛ لأنَّ الطرق التقليدية للحياة لديها أيضًا ما تُعلمنا إياه، صحيحٌ أن النُّظُم التقليدية ليست ترياقًا لكل شيء، لكنها تتمتع ببعض المزايا، وإذا استطعنا -على الأقل- فهم هذه الحقيقة وتضمين تلك المزايا في حلولٍ أكثر حداثة، فستكون النتيجة أفضل في بعض الأحيان".
تواصل معنا: