اقتحم "حسين" عالم "الفيروسات
المدهشة".. وحوَّل قبو منزله إلى منارة لمواجهة الخرافات والمعلومات العلمية
المغلوطة
في كل مرة تقريبًا يسألني أحد عن مهنتي وأُجيب:
عالِم فيروسات! لا بد وأن يتبع ذلك سؤال آخر: إذًا،
أنت تحاول إيجاد علاجات للأمراض الفيروسية؟ وأجيب: لا، بل أحاول أن أفهم
البيولوجيا الأساسية للفيروسات، إجابة عادةً ما يواجهها الطرف الآخر بـ"صمت مَن
لا يهتم"، وأعتقد أنه من الآن فصاعدًا، يمكنني الإجابة بـ: نعم.. نحاول إيجاد
علاجات للأمراض الفيروسية! فقد بدأ فصل جديد في حياتي المهنية.
العبارة السابقة لم تكن سوى جزء بسيط من
"حديث الذات"، الذي اعتاد العالِم المصري إسلام حسين استخدامه، ملخصًا رحلته
مع عالم "الفيروسات المدهشة"، التي بدأت منذ حصوله على البكالوريوس من
كلية الطب البيطري في جامعة الزقازيق عام 1999، ثم درجة الماجستير من الجامعة
ذاتها عام 2003، وانتهت بعمله باحثًا رئيسيًّا بشركة "مايكروبيوتكس"
الأمريكية المختصة بأبحاث اكتشاف مضادات الميكروبات وتطويرها.
روح المغامرة
يستكمل "حسين" حديثه الذاتي قائلًا:
سوف أقود العديد من المشروعات التي تستهدف تحديد الأدوية المضادة للفيروسات، بما
في ذلك فيروسات الهربس والإنفلونزا وزيكا والإيبولا وأي فيروس آخر يأتي بشكل أساسي،
أنا متحمس جدًّا لأن عملي بشركة "مايكروبيوتكس" يُرضي نهمي للمعرفة
بالعديد من الفيروسات المدهشة، أنا مستعد تمامًا للمغامرة التالية!
والفيروسات هي كائنات دقيقة قادرة على مضاعفة
نفسها بملايين المرات داخل الخلايا المصابة، وتؤدي بعض أنواعها إلى الإصابة بأمراض
قاتلة، واكتشفها عالِم الأحياء الروسي ديمتري إيفانوفسكي في عام 1892، مُطلِقًا العنان
لما بات يُعرف بـ"علم الفيروسات".
عمل "حسين" معيدًا، ثم أستاذًا
مشاركًا لعلم الفيروسات في جامعة الزقازيق في الفترة ما بين عامي 2000 و2003، وحصل
على درجة الدكتوراة من جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة في عام 2007، وركزت
أطروحته على التطوير قبل السريري للأدوية المضادة للفيروسات، وأجرى تدريب ما بعد الدكتوراة
في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية والمركز الطبي بجامعة كانساس، ثم عمل عالِم
أبحاث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث درس تطور فيروسات إنفلونزا الطيور
وقابليتها للعدوى.
وكتب "حسين"
العديد من المقالات البحثية والمراجعات وفصولًا في الكتب العلمية، وعمل في لجنة
مؤشر المعرفة العربي في مقر الأمم المتحدة، وهو عضو في لجنة الاتصالات في الجمعية
الأمريكية لعلم الأحياء الدقيقة.
عشق الفيروسات
يقول "حسين" في تصريحات
لـ"نيتشر ميدل إيست": وقعت في غرام دراسة الفيروسات منذ كنت طالبًا في
الفرقة الثالثة بكلية الطب البيطري بجامعة الزقازيق، أبهرني في هذه المرحلة
المبكرة صفات تلك الكائنات الدقيقة التي تجمع بين البساطة المتناهية والتعقيد
الشديد، فعلى الرغم من حجم هذه الكائنات المتناهي في الصغر وبساطة تركيبها، إلا
أنها تستطيع بمجرد دخولها إلى خلية حية السيطرة عليها بشكل شبه كامل وتسخير
إمكانياتها لنسخ أعداد خيالية من الفيروسات الجديدة.
يضيف "حسين": بعد
تخرجي بتفوق من الكلية، اخترت العمل معيدًا بقسم الفيروسات بكلية الطب البيطري
بجامعة الزقازيق، حيث مارست مهماتي التدريسية وأجريت أبحاث الماجستير، وبدايتي
الحقيقية على طريق البحث العلمي في مجال الفيروسات كانت بعد حصولي على منحة لدراسة
الدكتوراة في جامعة كامبريدج العريقة، التي وفرت لي بيئةً خصبةً للتعلم والتدريب
على العديد من المهارات الأساسية في علم الفيروسات الجزيئية مكَّنتني بعد التخرج
من الالتحاق بأكبر الجامعات والمعاهد البحثية في الولايات المتحدة الأمريكية حيث
أعمل وأعيش حاليًّا.
استوديو متواضع
مع تنامي وسائل التواصل
الاجتماعي، أخذ "حسين" على عاتقه خوض معركة محاربة الشائعات، وعلى مدى
نحو سبع سنوات، أنشأ قناة VirolVlog
على منصة يوتيوب لبث فيديوهات قصيرة تستهدف زيادة وعي المتلقي العربي بالفيروسات
والأمراض التي تسببها.
يقول "حسين": مع
بداية جائحة كورونا -وما صاحبها من فيضان معلومات مضللة- كان من الطبيعي أن أستمر
فيما بدأت، وأحاول تكثيف مجهوداتي لكي تتناسب مع حجم الجائحة المعلوماتية وحاجة
الناس إلى معلومات صحيحة وسهلة الفهم، ولذلك اتجهت أيضًا إلى المحتوى الصوتي،
وبدأت تقديم بودكاست VirolCast عن
الفيروسات باللغة العربية.
ويتابع: أقوم بكل ذلك من خلال
استوديو متواضع أنشأته في قبو منزلي، وبمساعدة ابني "أدهم"، وعلى الرغم
من ولعي الشديد بهذه الهواية، إلا أنها تظل هوايةً لا أتكسب منها ما يكفي حتى
لتغطية ما أنفقه عليها.
التصدي للخرافات
يعتمد "حسين" في
معركته التي يمكن أن نطلق عليها "استعادة الوعي" على عدة محاور أساسية
لإقناع الآخرين بوجهة النظر الصحيحة تجاه ما يُنشر من معلومات علمية مغلوطة عبر
وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث يمكنها أن تقصِّر المسافة بينه وبين المتلقي، ويعتمد
على عرض الحقائق والأرقام والأشكال التوضيحية المبتكرة التي تسهِّل على المتلقي
استيعاب المفاهيم الصعبة في ثوانٍ معدودة، ويراعي الاقتراب من ثقافة المتلقي ولغته
اليومية لإزالة أي حواجز بينه وبين متابعيه، ما يجعلهم يشعرون بأنه صديق قديم
يتجاذب معهم أطراف الحديث على المقهى، إضافةً إلى بناء علاقة طويلة الأمد مع
المتلقي تستند إلى المصداقية.
يقول "حسين": أحاول
إبرام عقد غير مكتوب بيني وبين المتلقي، البند الأول فيه أنه لن يندم على الدقائق
التي يستثمرها معي؛ لأنه سيخرج منها رابحًا على طول الخط، لقد كان الدافع الأساسي لذلك
هو إحساسي بالغيرة الشديدة على مجال تخصصي من أي مدَّعٍ يحاول إيهام الناس بأكاذيب
مثل زعم بعضهم قدرته على اختراع جهاز لعلاج جميع الأمراض الفيروسية! شعرت بأن هناك
فراغًا شديدًا في فضاء الإنترنت والإعلام، إن لم يُملأ بمعلومات سليمة فسيستغله
آخرون لنشر الخرافات والمعلومات المغلوطة، ولكن هذه الخطوة لم تكن سهلة؛ لأن
الباحثين لا يتلقون عادةً أي تدريب على مهارات التواصل العلمي مع العامة وأدواته،
لذلك هناك ندرة شديدة في العلماء المتخصصين المهتمين بالتواصل العلمي، بدأت الطريق
من الصفر ولجأت إلى أساليب التعلم الذاتي حتى تمكنت من تأسيس ستوديو صغير في قبو
منزلي استطعت من خلاله تسجيل حلقات يوتيوب ومقاطع صوتية وإنتاجها.
أطياف متعددة
لم ينعم "حسين"
بصحبة والده الذي كان يعمل طبيبًا لفترة طويلة؛ إذ توفي والده حينما كان عمره عشر
سنوات، وتولت أمه الاعتناء به حتى استكمل تعليمه الجامعي، مضيفًا: لا أستطيع أن
أجزم بأن ظروف نشأتي كان لها علاقة مباشرة باختياري للتخصص في علم الفيروسات،
ولكنها بالتأكيد كانت دافعًا أساسيًّا وراء إصراري على التفوق في دراستي الجامعية،
ومن ثم التغلب على تحديات كثيرة، منها استكمال دراساتي العليا في الخارج، هناك
العديد من الشخصيات والمواقف التي ألهمتني وأسهمت في تشكيل شخصيتي الحالية، ولكن
ربما كان مصدر الإلهام الأكبر يأتيني من تجربة الحياة في المهجر والاحتكاك المباشر
مع أطياف متعددة من البشر بتجاربهم المختلفة.
يقول "حسين": الحياة
في المهجر كانت وما زالت أكثر التجارب التي مررت بها في حياتي ثراءً، هذبت كثيرًا من
شخصيتي وعلمتني تقبُّل الاختلاف، من خلالها أدركت -أيضًا- حبي الشديد لوطني الأم
وارتباطي الشديد به مهما طالت سنين الغربة، ساعدتني هذه التجربة القاسية أيضًا على
إعادة ترتيب أولوياتي في الحياة، وأصبح الهاجس المسيطر على تفكيري طوال الوقت هو
كيفية توظيف الخبرات التي اكتسبتها على مدار العشرين عامًا الماضية لخدمة بلدي
والوطن العربي بأكمله، لن أبالغ إذا وصفت غربتي بأنها بُعد بالجسد فقط، أما عقلي
وقلبي وتفكيري كله فلا يزال عالقًا بأرض الوطن.
ويتابع: لقد قادتني الصُّدَف للتعرف
على أمثلة مشرفة من شباب العلماء في الوطن العربي، ولمست لديهم حماسًا غير متناهٍ للبحث
العلمي، ولكن تظل العقبة الرئيسية التي تقف في طريقهم هي عدم توافُر بيئة حاضنة تمكِّنهم
من تحقيق أحلامهم، أعتقد أن العلم هو قرار سياسي في المقام الأول، ويجب أن تتوافر
رؤية واضحة تستهدف إنشاء نظام اقتصادي يعتمد على العلم والمعرفة في بلداننا
العربية.
تواصل معنا: