مقالات

ثمن اللغة الأم

نشرت بتاريخ 26 يوليو 2023

يعاني الباحثون غير الناطقين باللغة الإنجليزية من صعوبات كبيرة ويواجهون تحديات ضخمة في البحث العلمي.. فكيف يُمكن أن يتغير ذلك الوضع؟

محمد منصور

"البعض يستخدمون البطاقات التي تحتوي على رموز صوتية للمساعدة في تعلم اللغة الإنجليزية


Peng Song/Getty Enlarge image
قبل سنوات، سافر "إسلام موسى" إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإكمال دراسته العلمية، وقتها كان الشاب الذي تخرج في كلية العلوم بجامعة طنطا المصرية ممتلئًا بالحماسة وهو يُخطط لمستقبله العلمي بشغفٍ واضح، إلا أنه واجه صدمةً في بداية الطريق.

فلغته الإنجليزية وقتها مثلت عائقًا، حتى إنه كان يجلس في المحاضرات خائفًا،

كانت محاولات فهمه للمواد العلمية تحديًا، وعندما أخبر مشرفه بذلك أكد له أن الأمر عادي؛ لأن الإنجليزية ليست لغته الأم.

"كان الاستماع والحديث تحديًا أكبر من القراءة والكتابة"، يقول "موسى" في تصريحاته لـ"نيتشر ميدل إيست" متذكرًا موقفًا لن ينساه أبد الدهر: "أول أبحاثي رُفضت بسبب اللغة، وكان تعليق المحرر أن اللغة سيئة، ونصحني بأن ألجأ إلى الزملاء أصحاب اللسان الإنجليزي لكتابة البحث".. وعلى الرغم من صدمته، واصل "موسى" السعي.

حاليًّا، يعمل "موسى" باحثًا رئيسيًّا في جامعة "كونيكتيكت" الأمريكية، كما أنه مراجع ومحرر للأبحاث العلمية في كبريات الدوريات، يقول "موسى": تفهمت -بعد كل تلك الفترة- تعليق المراجع وأسباب رفضه لبحثي الأول، أعلم الآن أن جزءًا من جودة البحث يتعلق باللغة.. أنا الآن مراجع أبحاث وأعلم أن هناك سؤالًا رئيسيًّا على اللغة يجب أن يجيب عنه المراجع.

 وسيلة اتصال مشتركة

 تُعد اللغة الإنجليزية بلا شك اللغة السائدة في مجال العلوم؛ إذ تعمل كوسيلة مشتركة للاتصال بين الباحثين في جميع أنحاء العالم، فانتشار الإنجليزية في المؤلفات العلمية والمؤتمرات ومجالات التعاون الدولي جعل منها لغة الخطاب العلمي، ومع ذلك، فإن الهيمنة المتزايدة للغة الإنجليزية في العلوم تثير أسئلةً مهمةً حول الوصول والإنصاف والقيود المحتملة التي تفرضها على غير الناطقين بها.

وتقول دراسة جديدة نشرتها دورية "بلوس بيولوجي": إن الباحثين غير الناطقين بالإنجليزية يواجهون عقباتٍ وكلفةً إضافية؛ لكون الإنجليزية ليست لغتهم الأم.

 في تلك الدراسة قام الباحثون بمسح 908 من علماء البيئة من ثماني دول ذات خلفيات لغوية واقتصادية مختلفة، وقارنوا مقدار الجهد المطلوب من قِبل الباحثين الأفراد لإجراء مجموعة متنوعة من الأنشطة العلمية باللغة الإنجليزية، وكشف الاستطلاع عن عيوب واضحة وكبيرة لغير الناطقين باللغة الإنجليزية؛ فبالمقارنة مع الناطقين باللغة الإنجليزية، يحتاج المتحدثون غير الناطقين باللغة الإنجليزية إلى ما يصل إلى ضِعف الوقت لقراءة الأوراق وكتابتها وإعداد العروض التقديمية باللغة الإنجليزية.

 كما أن الأوراق العلمية المكتوبة من قِبل غير الناطقين باللغة الإنجليزية هي أكثر تعرضًا بمقدار مرتين ونصف للرفض و12.5 ضِعفًا لتلقِّي طلب المراجعة، ببساطة بسبب جودة اللغة الإنجليزية المكتوبة.

 يقول "موسى" إنه اختبر نتائج تلك الدراسة بصورة شخصية بالفعل، مضيفًا: "زميلي الأمريكي يقرأ الأبحاث أسرع مني، في بداية مشواري كنت أحتاج إلى يومين كاملين لقراءة ورقة واحدة.. وزميلي الأمريكي أو الإنجليزي أو الأسترالي يقرأ ٥ أبحاث في ساعة واحدة.

وتقول الدراسة أيضًا إن الكثير من غير الناطقين باللغة الإنجليزية كلغة أم يتخلون عن حضور المؤتمرات الدولية وتقديمها؛ لأنهم لا يثقون بإمكانية التواصل باللغة الإنجليزية.

عوامل تاريخية واجتماعية وسياسية

يمكن أن يُعزى بروز اللغة الإنجليزية كلغة مشتركة للعلوم إلى عوامل تاريخية واجتماعية وسياسية؛ إذ دفعت الثورة العلمية في أوروبا -إلى جانب التأثير العالمي للبلدان الناطقة باللغة الإنجليزية- تلك اللغة إلى طليعة التواصل العلمي، وفي الوقت الحاضر، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 90٪ من الأوراق العلمية منشورة باللغة الإنجليزية، بغض النظر عن اللغة الأم للباحثين.

وأدى اعتماد اللغة الإنجليزية على نطاق واسع في العلوم إلى تسهيل نشر المعرفة والتعاون عبر الحدود،، كما أتاح للباحثين من مختلِف البلدان وصول بعضهم إلى أعمال بعضٍ والبناء عليها، وتعزيز تقدم المعرفة العلمية على نطاق عالمي، علاوةً على ذلك، أصبح إتقان اللغة الإنجليزية مهارةً مطلوبةً للعلماء الباحثين عن فرص وظيفية واعتراف دولي.

ومع ذلك، فإن هيمنة اللغة الإنجليزية تطرح أيضًا تحدياتٍ وعيوبًا محتملة؛ فغالبًا ما يواجه العلماء غير الناطقين باللغة الإنجليزية حواجز لغوية كبيرة يمكن أن تعرقل حياتهم المهنية؛ إذ يُعد أحد شروط النشر أن تكون المواد مكتوبةً باللغة الإنجليزية، كما أن أمورًا مثل الحضور والتواصل في المؤتمرات باللغة الإنجليزية، والمشاركة في المناقشات العلمية باللغة الإنجليزية من شأنها أن تخلق عقباتٍ إضافيةً للباحثين الذين لا يجيدون اللغة.

 ويمثل حاجز اللغة تحدياتٍ خاصةً للعلماء من البلدان النامية أو المناطق التي لا تتحدث الإنجليزية بشكل شائع، كما يمكن أن يحد من قدرتهم على المساهمة في الخطاب العلمي، ونشر نتائج أبحاثهم، والوصول إلى فرص التمويل، وبالتالي، قد يفتقد المجتمع العلمي وجهات نظر قيمة ومنهجيات متنوعة ومعرفة محلية يمكن أن تسهم في فهم أكثر شمولًا للعالم.

 لغة العلم

 من جهته، يقول الدكتور "ماهر القاضي" وهو مصري الأصل ويعمل باحثًا في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس: إن اللغة الإنجليزية هي لغة العلم، وبالتالي يواجه الأشخاص غير الناطقين بها صعوبةً في قراءة المقالات العلمية وفهمها.

يحكي "القاضي" تجربته الشخصية لـ"نيتشر ميدل إيست" قائلًا: أنا من قرية صغيرة في محافظة الجيزة، تعلمت في مدارس حكومية لا تهتم بتدريس اللغة الإنجليزية، وحين حصلت على منحة لدراسة الدكتوراة واجهتني مشكلات عدة.

لم تكن مشكلة "القاضي" في اللغة فحسب، بل في اختلافات أساليب البحث في الثقافات المختلفة، مضيفًا: الباحثون الصينيون لا يواجهون تحديًا لغويًّا فحسب، بل يواجهون تحديًا ثقافيًّا أيضًا؛ فالسياق العلمي في مجال التخصص -والذي يعتمد جزئيًّا على اللغة- مختلف تمامًا؛ ففي أوقات يكتب الباحث الصيني بلغة إنجليزية سليمة لكن لا يُمكن فهم مغزى ما يقول.

لحل تلك المشكلة، تقدم بعض المجلات والمؤتمرات العلمية خدمات الترجمة أو تقبل المنشورات بلغات أخرى غير الإنجليزية، بالإضافة إلى ذلك، تهدف المبادرات المختلفة إلى توفير التدريب اللغوي والدعم من العلماء الناطقين باللغة الإنجليزية لنظرائهم من غير الناطقين باللغة الإنجليزية، مع الاعتراف بالحاجة إلى تكافؤ الفرص وتعزيز الشمولية في التواصل العلمي.

يقول "القاضي": إن وكالات التمويل والمؤسسات البحثية يجب أن تقدم للباحثين دعمًا لبرامج تعلُّم اللغة الإنجليزية قبل سفرهم إلى الخارج، أنا شخصيًّا استفدت من منحة لتعليم اللغة الإنجليزية في المجلس البريطاني قبل سفري إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأحدثت تلك الخطوة فرقًا كبيرًا في حياتي الأكاديمية.

 ويتابع: إن قضية إتقان اللغة تتقاطع مع تعزيز الشمولية في العلوم، أنا أدير مجموعةً بحثيةً في الجامعة، وأحد أفراد تلك المجموعة غير قادر على الترقي بسبب عدم إتقانه للغة الإنجليزية؛ إذ يعمل عدم إتقان اللغة كحاجز كبير للتنوع والعدالة؛ لأنه شرط أساسي للترقي في الجامعات الأمريكية.

 التعددية اللغوية

 هناك اعتراف متزايد بأن التقدم العلمي لا ينبغي أن يقتصر على المنشورات باللغة الإنجليزية فقط، اكتسبت الدعوات إلى التعددية اللغوية في العلوم قوة جذب؛ إذ دعت إلى إدراج اللغات الإقليمية لتعزيز التنوع والمشاركة المتساوية، فالتعددية اللغوية لها القدرة على تعزيز العلم من خلال السماح للباحثين بالتواصل بلغاتهم الأصلية مع الاستمرار في تعزيز التعاون وتبادُل المعرفة.

ويقول "القاضي": إنه من الأهمية بمكان تحقيق توازن بين فوائد لغة علمية عالمية والحاجة إلى الشمولية، بينما أدت اللغة الإنجليزية دورًا محوريًّا في تطوير المعرفة العلمية، يجب بذل الجهود لضمان عدم حرمان غير الناطقين باللغة الإنجليزية، ويجب على الجامعات والمؤسسات البحثية ووكالات التمويل الاستثمار في برامج دعم اللغة والموارد التي تمكِّن العلماء غير الناطقين باللغة الإنجليزية من التغلب على حواجز اللغة والمساهمة بشكل كامل في المجتمع العلمي.

بدوره، يرى الباحث في الوكالة الأمريكية لحماية البيئة "محمد عطية" أن تأثير متطلبات إتقان اللغة على التطور الأكاديمي والمهني للناطقين بغير الإنجليزية في المجالات العلمية يعتمد على مكان إقامة الباحث؛ "ففي بلاد مثل ألمانيا والصين واليابان وكوريا وفرنسا يُمكن أن تجد فرصة التحصيل العلمي والتطور الأكاديمي من دون إتقان اللغة الإنجليزية؛ إذ يستطيع الباحث إيجاد مصادر بلغته الأم تجعله قادرًا على تحصيل العلم".

لكن في البلدان اللي لا تتوافر فيها هذه الإمكانيات، "وخصوصًا في حالة عدم وجود منتجات بحثية حديثة أو ذات قيمة بلغة البلد وجهود الترجمة فيه ضعيفة، سيكون المصدر الإنجليزي هو الملاذ العام الوحيد المتاح، وبناءً عليه يصبح إتقان اللغة الإنجليزية شرطًا أساسيًّا لتحصيل المعلومات، سواء في شكل محاضرات أو مقالات أو غيرها، وفق ما يقوله "عطية" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست".

فجوة واضحة

ويتفق "عطية" تمامًا مع ما جاء في الدراسة، قائلًا: بحكم شراكاتي البحثية مع دول عديدة، أجد فرقًا واضحًا وفجوةً في جودة كتابة المقالات إذا كانت مكتوبةً بواسطة باحث لغته الإنجليزية هي اللغة الأم أو على الأقل تلقى تدريبًا علميًّا في تلك الدول أو كانت أبحاثًا مكتوبة بواسطة باحثين من دول شرق آسيا أو الشرق الأوسط.

وبالنسق نفسه يقول "عطية": ستجد صعوبةً كبيرةً لفهم محتوى العروض البحثية في المؤتمرات إذا لم يكن الباحث متقنًا للغة الإنجليزية، حتى لو كان المنتج البحثي والمحتوى العلمي قويًّا.

من جهته، يؤكد "تاتسو أمانو" -الباحث في مركز التنوع البيولوجي وعلوم الحفظ بجامعة كوينز لاند الأسترالية، والمؤلف الرئيسي للدراسة- في بيان صحفي تلقت "نيتشر ميدل إيست" نسخة منه أن "المشكلة الأكبر هي أننا لم نفعل شيئًا تقريبًا كمجتمع، وبدلًا من ذلك اعتمدنا على جهود الأفراد لمعالجة هذه المشكلة".

يقول "أمانو": يُعد إتقان اللغة الإنجليزية بمنزلة تذكرة لدخول عالم الأوساط الأكاديمية، ويجب التخلي عن هذا النظام القديم بحيث يكون أي شخص في أي جزء من العالم قادرًا على المشاركة في العلوم والمساهمة في تجميع المعرفة البشرية.

 عملت اللغة الإنجليزية بلا شك كمحفز للتعاون العلمي العالمي، مما مكن الباحثين من الاتصال ومشاركة عملهم عبر الحدود، ومع ذلك "من الضروري معالجة الحواجز المحتملة التي تفرضها هيمنة اللغة الإنجليزية لضمان بقاء العلم شاملًا ومنصفًا وممثلًا للمجتمع العلمي المتنوع في العالم"، وفق "القاضي"، الذي يرى أن قضية تعزيز التعددية اللغوية وتقديم الدعم لغير الناطقين باللغة الإنجليزية يجب أن تبقى دائمًا في الأذهان.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.112


https://www.nature.com/articles/d41586-023-02320-2