الحوت "توت".. اكتشاف أقدم حوت "مائي" عاش في أفريقيا
نشرت بتاريخ 10 أغسطس 2023
مات "فرعون الحيتان" صغيرًا
قبل 41 مليون سنة.. وأسنانه اللبنية تكشف أنه كان حوتًا "مصريًّا"
بامتياز
محمد منصور
في وادٍ صخري غير ذي زرع بجنوب مصر،
تعالت ضربات معاول العمال المهرة بحثًا عن كنز يفتش عنه العالم الإنجليزي المتخصص
في الآثار المصرية "هوارد كارتر"، الذي ظل مؤمنًا بحتمية عثوره على
مقبرة الملك الشاب "توت عنخ آمون" طيلة سنوات.
تكللت جهود "كارتر" بالنجاح
في نوفمبر عام 1922، حين وجد بالقرب من مقبرة "رمسيس السادس" قبوًا قاده
إلى ضالته.. فقد عثر على مقبرة الملك الصغير "توت عنخ آمون"، التي حفظها
القدر من يد ناهبي القبور.
وعلى الفور، جابت أخبار الاكتشاف العالمَ
أجمع، فالمقبرة كاملة لم تمسسها يد البشر، ومحتوياتها ظلت سليمة بعد ألوف السنوات،
واحتل اسم "الملك توت" عناوين الصحف، وأصبح مرادفًا للحضارة الفرعونية.
بعد
حوالي 90 عامًا من اكتشاف
المقبرة، كان محمد سامح -خبير إدارة التراث في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم
والثقافة- يبحث عن كنز من نوع آخر، تمثل في حفريات لكائنات عاشت ثم بادت قبل
ملايين السنين في صحراء الفيوم القاحلة التي كانت في يومٍ من الأيام محيطًا يحتل
الشمال الأفريقي.
استعان "سامح" بعينيه
وبغطاء للرأس يقيه حرارة الشمس، وبعد بحثٍ مُضنٍ، وجد "سامح" من صخور
عصر الأيوسين بمتكون "وادي الريان" الجيولوجي حفريةً عرف على الفور أنها
قد تُمثل أهمية، وبعد 5 سنوات من استخراج الحفرية في عام 2012 بواسطة فريق يرأسه
"سامح"، استقر "الكنز" في مركز الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة.
أصغر حوت مائي
يقول هشام سلام -أستاذ الحفريات بالجامعة
الأمريكية، ورئيس المركز وقائد الفريق البحثي- في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست":
وقعت في غرام الحفرية على الفور، وقررت دراستها مع فريقي لمعرفة ماهيتها، كان لديَّ
حدس أخبرني أن تلك الحفرية لكائنٍ ذي شأن قد يغلق فجوةً جديدةً في فهمنا لطبيعة
المنطقة قبل 41 مليون سنة.
ومنذ عام 2017، ظل الفريق العلمي
يعمل بدأب ليتوصل مؤخرًا إلى اكتشاف رائد لنوع جديد من الحيتان المنقرضة التي سكنت
البحر القديم، الذي كان يُغطي منطقة الفيوم منذ حوالي 41 مليون سنة.
يقول "سلام": وجد الفريق
البحثي تشابهًا بين الحوت "توت" والملك "توت"، فكلاهما مات في
عمر صغير كما تكشف الأسنان اللبنية التي عُثر عليها في الحفرية، وكلاهما يندرج تحت
بند "الاكتشافات الكبيرة"، كما أن كلاهما "مصري بامتياز".
الجد الأكبر
لكن ما أهمية اكتشاف ذلك الحوت؟ يُعد
تطور الحيتان رحلةً رائعةً تمتد لملايين السنين وترتبط ارتباطًا وثيقًا بأسلافها الأرضية،
تنتمي الحيتان والدلافين وخنازير البحر إلى مجموعة من الثدييات المعروفة باسم
الحيتانيات، ويُعد انتقالها من اليابسة إلى الماء أحد أبرز الأمثلة على التكيف
التطوري في مملكة الحيوان.
كانت أسلاف الحيتان الحديثة من
الثدييات الأرضية التي عاشت على اليابسة بالكامل منذ أكثر من حوالي 50 مليون سنة باعتبارها
كائنات صغيرة ذات أربع أرجل تعيش بالقرب من الماء، ومن المحتمل أنها كانت تبحث عن
الطعام في البيئات المائية.
ومع مرور الوقت، بدأت بعض هذه
الثدييات الأرضية في استكشاف الموائل المائية على نطاق أوسع، والتكيُّف مع الحياة
بالقرب من حافة الماء، تتميز هذه المرحلة الانتقالية بتطور ميزات مثل الأجسام
الانسيابية وطرق أكثر كفاءةً للسباحة والصيد في الماء.
كانت إحدى اللحظات الأكثر حسمًا في
تطور الحيتان هي الانتقال من نمط الحياة شبه المائي إلى نمط الحياة المائي بالكامل،
من ضمن الكائنات التي نجحت في تخطِّي تلك اللحظة، احتل ""توتسيتس
ريانيسس" المُقدمة.
يقول "سلام" في تصريحاته
لـ"نيتشر ميدل إيست": إن "توتسيتس ريانيسس هو الجد الأكبر لكل
الحيتان المائية التي تعيش في بحار أفريقيا ومحيطاتها الآن".
كما أن الحوت -بطوله الذي لا يزيد عن
2.5 متر ووزنه المقارب لـ187 كيلوجرامًا- يُعد هو الحوت الأصغر المكتشَف على
الإطلاق، "نحاول تسجيله في موسوعة جينيس للأرقام القياسية بتلك الصفة"،
وفق "سلام".
رؤى غير مسبوقة
على الرغم من صغر حجمه، فقد قدم
" توتسيتس" رؤىً غير مسبوقة في تاريخ الحياة والتطور، والجغرافيا
القديمة للحيتان المبكرة؛ إذ تمثل الباسيلوصورات -وهي مجموعة من الحيتان المائية
المنقرضة بالكامل- مرحلةً حاسمةً في تطور الحيتان؛ فقد انتقلت من اليابسة إلى
البحر وطورت خصائص تشبه الأسماك، مثل الجسم الانسيابي، والذيل القوي، والزعانف،
وزعنفة الذيل، وكان لديها آخر أطراف خلفية مرئية بدرجة كافية ليتم التعرُّف عليها
على أنها "أرجل"، والتي لم تُستخدم للمشي، ولكن ربما استُخدمت للتزاوج.
وإذا نظرنا إلى الأحجام الحالية
للحيتان، فسنجد أن أصغرها -حوت العنبر
القزم- يزيد وزنه عن وزن الحوت "توت" بنحو 70 كيلوجرامًا، أما أكبرها -الحوت الأزرق- فيصل وزنه إلى نحو 200 طن، وهو نحو ألف ضِعف وزن
الحوت المنقرض.
يقول "سلام": إن الحوت
"توت" عاش في عصر احتباس حراري وصلت فيه درجات الحرارة إلى مستويات
قياسية، وربما يكون حجمه الصغير وسيلةً من وسائل تكيُّفه مع تلك الدرجات.
وتتألف حفرية الحوت التي عثر عليها
"سامح" من جمجمة وفك علوي وآخر سُفلي، علاوةً على مجموعة من الأسنان
وبعض الفقرات العنقية وعظام من قاعدة اللسان، ويقول الباحثون إن دراسة تلك الأجزاء
مكنتهم من فهم الكيفية التي عاش بها الحوت قبل ملايين السنين.
يقول "سلام": إن الأسنان
ذات القمة المتعرجة مع سطح أملس تؤكد أن ذلك الحوت كان يتغذى على اللحوم ذات
النسيج الناعم، وربما كانت وجبته الأساسية هي الأخطبوطات أو الأسماك غير العظمية؛
إذ ترجح الصفات التشريحية أن الحوت "توت" كان يغوص على أعماق مختلفة مثل
دلافين العصر الحالي.
كما تؤكد الدراسة
المنشورة في دورية "كومينيكيشن بيولوجي" أيضًا أن هناك
نموًّا سريعًا نسبيًّا للأسنان، يقول "سلام" إنهم عثروا على أسنان لبنية
مع ضروس عقل مكتملة، وهو الأمر الذي يشير إلى نمط حياة متطور وسريع نسبيًّا لذلك
الحوت.
القدرة على التكيُّف
يرى "سلام" أن تلك الحيتان
كان تتناسل بمعدل جنين واحد سنويًّا، وأنها كانت قادرةً على التكيُّف بسهولة مع
التغيرات في البيئات المائية، مضيفًا: في ذلك الوقت كانت منطقة الفيوم تقع بالقرب
من خط الاستواء، وتتمتع بمناخ المنطقة الدافئ الذي جذب الحيتان إليها، وكانت مصر قبلةً
تحج إليها تلك الكائنات من مختلِف بقاع الأرض، لكن الحج كان غرضه الأساسي الافتراس
والتناسل.
تُعد دراسة أحافير الحيتان ذات أهمية
كبيرة لعدة أسباب؛ إذ توفر رؤىً قيمة في كلٍّ من التاريخ التطوري للحيتان والسياق
الأوسع للنظم البيئية للأرض.
يقول "سلام": إن أحافير
الحيتان تقدم سجلًّا رائعًا للانتقال من أسلاف ساكنين على الأرض إلى الثدييات
البحرية التي نراها اليوم، ومن خلال دراسة هذه الحفريات، يمكننا تتبُّع التغيرات
التطورية في السمات التشريحية والسلوك والبيئة التي حدثت عندما تكيفت الحيتان مع الحياة
في الماء، ما يساعدنا على فهم كيفية تشكيل الانتقاء الطبيعي والضغوط البيئية لهذه
التكيفات المذهلة.
كما تساعد الأدلة الأحفورية للأشكال
الانتقالية على سد الفجوة بين المراحل المختلفة لتطور الحيتان؛ إذ توفر الحفريات -مثل
حفرية الحوت "توت"- نظرة ثاقبة إلى المراحل الوسيطة لتطور الحيتان، وهو
الأمر الذي من شأنه توضيح التحولات التدريجية من أنماط الحياة البرية إلى أنماط
الحياة المائية بالكامل.
ومن خلال فحص أحافير الحيتان جنبًا
إلى جنب مع الكائنات البحرية الأخرى، يمكن للباحثين إعادة بناء شبكات غذاء ما قبل
التاريخ، والعلاقات بين المفترس والفريسة، كما يمكن أن توفر أحافير الحيتان أيضًا أدلةً
حول التغيرات المناخية والبيئية السابقة؛ "فمن خلال تحليل النظائر والمؤشرات
الجيوكيميائية الأخرى في الحفريات، يمكن استنتاج تفاصيل حول درجات حرارة المحيطات
وأنماط الهجرة والتحوُّلات في النظم البيئية البحرية بمرور الوقت".
يقول سلام: إن دراسة أحافير الحيتان
تُثير خيال الجمهور وتعزز تقديرًا أعمق لتاريخ الأرض وتنوع الحياة الذي كان
موجودًا على مدى ملايين السنين، كما توفر فرصًا للمشاركة في التوعية التعليمية
وزيادة الوعي حول أهمية حماية البيئات البحرية، يقول "سلام": "في
مركز الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة، يتوافد يوميًّا مجموعات كبيرة من طلبة
المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية المهتمين بدراسة الحفريات.. أستطيع تقديم
جيل جديد من المهتمين بالعلم وتعزيز قدرة المجتمع على التفكير بشكل علمي من خلال
تنشيط الخيال والحث على الإبداع ورواية حكايات البحث عن كائنات عاشت في الماضي
السحيق.. كائنات سادت ثم بادت".
تواصل معنا: