"سليمان"
هو الباحث العربي الوحيد بوكالة ناسا وجامعة "كالتك" ضمن فريق "بايسيب
كيك" الذي يُعد أكبر الفرق البحثية في مجال الفيزياء الفلكية التي تستهدف كشف
أسرار اللحظات الأولى من عمر الكون
هاني زايد
بحصوله
على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999، مثَّل العالِم المصري الراحل الدكتور أحمد
زويل نموذجًا حيًّا يمكن للباحثين المصريين والعرب الاقتداء به.
لكن
تجربة العالم المصري أحمد سليمان -الباحث في مختبر الدفع الصاروخي بوكالة الفضاء الأمريكية
ناسا ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا "كالتك"- مع الدكتور
"زويل" كانت مختلفةً إلى حدٍّ كبير عن تجارب باقي الباحثين العرب.
تخرج
"سليمان" في كلية الهندسة في جامعة بنها بشمال العاصمة المصرية
"القاهرة"، وحصل على الماجستير من كلية الهندسة بجامعة عين شمس، وعمل
كمساعد باحث لدى مدينة زويل، في عام 2015، تم قبوله كباحث دكتوراة في
"كالتك"، ويعمل "سليمان" حاليًّا ضمن الفريق التعاوني المعروف
عالميًّا باسم "بايسيب كيك"، وهو تعاون علمي بين جامعة "كالتك"
ووكالة ناسا وجامعتي "ستانفورد" و"هارفارد" الأمريكيتين لبناء
تلسكوب يستهدف رصد الخصائص الفيزيائية لـ"موجات الجاذبية البدائية"
المتوقع تولُّدها في أثناء التوسُّع السريع والمبكر للكون.
يقول
"سليمان" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": من المتوقع وجود
موجات الجاذبية البدائية -أو التضخمية- على الخلفية الإشعاعية للكون، وتُعتبر هذه
الموجات أول ضوء تولَّد في الكون، ويُعد رصده من أهم معضلات الفيزياء الأساسية؛ لأنه
يساعدنا على فهم اللحظات الأولى لنشأة الكون، وخاصةً لحظات تضخم الكون وانفجاره،
ويعطينا إجابات لأسئلة كثيرة عن لحظة الانفجار العظيم من 14 مليار سنة، الذي نتجت
عنه كل أنواع الذرات والجزيئات التي كوَّنت كل شيء في الكون حتى أجسامنا.
ويتابع:
تدخل هذه النقطة البحثية ضمن أولويات التمويل القومي البحثي الأمريكي في تقرير "أسترو
ديكيدال سيرفاي" بقيمة تعدت المليار دولار؛ نظرًا لأهميتها في علم الكون
والفضاء، ودوري كان تصميم وتطوير الكواشف والتلسكوب مع فريقي البحثي لمحاولة رصد
هذه الموجات ووضع خواصها الفيزيائية التي تساعدنا في فهم سيناريوهات حدوث هذا
الانفجار الكوني المسمى "كوزميك إنفليشن" (Cosmic
inflation).
نشأة
الكون
"كيف
بدأ الكون؟ أحد أهم الأسئلة الأبدية والتاريخية التي سألها الإنسان لنفسه حين أدرك
الكون من حوله، مدفوعًا بفضول البحث عن أصل الأشياء"، هكذا يتحدث
"سليمان" عن التجارب التي تجريها محطة أبحاث القطب الجنوبي بدعم من المؤسسة
الأمريكية الوطنية للعلوم وتحت إشراف قوات الدفاع الجوي الأمريكي في القطب
الجنوبي، وهي تجارب تُجرى في بيئة قاسية يسودها الغموض وسط درجات متجمدة ومساحة
شاسعة تبلغ 14 مليونًا و200 ألف كيلومتر مربع.
يقول
"سليمان": بعد تصميم التلسكوب وإجراء الاختبارات اللازمة، ننقله إلى القطب
الجنوبي لرصد موجات الجاذبية البدائية من سماء القطب؛ لأنها أفضل مكان على كوكب الأرض
لرصد هذه الموجات بدقة عالية، فالمنطقة شديدة البرودة والجفاف، وتسمح طبقات الغلاف
الجوي هناك بمرور الموجات بنسبة كبيرة عند ترددات محددة دون امتصاصها مقارنةً بأي
مكان آخر على الأرض، وبالتالي يسهل رصدها بدقةٍ أكبر، وهذه الموجات موجودة حولنا،
وهناك تجارب تحاول رصدها من تشيلي ومن الفضاء، ولكن قياساتنا المنشورة هي الأكثر دقةً
والأكثر عمقًا في تحديد خواصها الفيزيائية حتى الآن.
ويتابع:
ستقدم الأبحاث التي نُجريها في القطب الجنوبي إجابات لأسئلة اعتاد الإنسان طرحها
منذ بدء الخليقة حول كيفية تكوُّن أول ذرة، وهل هناك أكوان أخرى موازية لا نعلم
عنها شيئًا؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ستجعلنا قادرين على تفسير ظواهر فيزيائية عديدة
في الكون، إن رصد موجات الجاذبية البدائية صعب جدًّا، ويُعد رصدها إنجازًا كبيرًا في
الفيزياء الأساسية، وربما قادت فريقنا البحثي للحصول على جائزة نوبل، مثلها مثل
موجات الجاذبية الناتجة من تحرك الثقوب السوداء التي تم رصدها بواسطة فريق الليجو في
2016 وحصل فريقها على جائزة نوبل بعد عمل دام أكثر من 30 عامًا، وعندما تحدثت مع العالِم
الكبير كيب ثورن قبل حصوله على جائزة نوبل سنة 2017 حكى لي قصة التحديات الضخمة
التي واجهتهم لرصد مثل هذه الموجات الدقيقة، حتى إنه تشكك -في فترةٍ ما- في وجودها
أصلًا.
موجات
الجاذبية البدائية
يشير
"سليمان" في مقال له نشرته
دورية "ساينتفك أمريكان" إلى أن "موجات الجاذبية البدائية أو
التضخمية" أدت إلى انحناء نسيج الزمان والمكان، وكان من المفترض أن تترك هذه
التموجات بصمةً ذات طبيعة فيزيائية خاصة مطبوعة على الخلفية الإشعاعية للكون.
ويضيف:
تعتبر هذه الموجات لغزًا كبيرًا في علم الفيزياء؛ إذ ألهمت أجيالًا من علماء
الكونيات لتأليف الكتب وإنفاق ملايين الدولارات لبناء تجارب لقياسها وكتابة
المقالات ووضع النظريات العلمية حول الطرق المتنوعة والسيناريوهات التي كان يمكن
أن يؤدي بها هذا الانفجار البدائي، وتحديد الخواص المتوقعة لهذه الموجات، ومن المفترض
أن تمنحنا حال اكتشافها وتحليلها دليلًا واضحًا على نظرية التضخم الكوني، التي
ستؤدي دورًا مهمًّا في تفسير الأجزاء المفقودة في نظرية الانفجار العظيم لنشأة
الكون، وتوفير معلومات كثيرة عن لحظة وقوع هذا الانفجار، ومحاولة فهم الحاضر
وظواهره من خلال فهم البدايات وكيف تكونت العناصر الأساسية البدائية التي تدخل في
تكوين كل شيء حولنا، كما ستساعدنا على التنبؤ بمستقبل الكون، وما إذا كانت هناك
أكوان موازية ولا نعلم عنها شيئًا، فمن المتوقع أن يفتح قياس هذه الموجات أبوابًا
جديدةً في علوم الفيزياء.
يقول
"سليمان" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": نؤدي حاليًّا بعض
المهمات العلمية لتطوير التكنولوجيا المستخدمة لدراسة جوانب وتحديات مختلفة من
علوم الكون، وأشارك في مهمات علمية خاصة بتلسكوب "نانسي رومان" الذي
سيساعدنا على رؤية الكون بشكل مختلف لدراسة الطاقة والمادة المظلمة التي تمثل حوالي
96٪ تقريبًا من الكون، وأعتقد أننا سنشاهد خلال سنوات من الآن مليارات المجرات وقليلًا
من الطاقة المظلمة في صورة واحدة، سيكون ذلك شيئًا مبهرًا جدًّا، كما أن هذا
التلسكوب سيستخدم تكنولوجيا متطورة بدقة غير مسبوقة اسمها "كروناجراف"
لاكتشاف الحياة على كواكب شبيهة بكوكب الأرض في مجرة أخرى خارج مجموعتنا الشمسية، وأساهم
حاليًّا مع فريقي في هذه التكنولوجيا قبل تسليمها للانطلاق خلال سنوات، إنه شيء
ممتع سيعطينا فرصة رؤية ما إذا كانت هناك حياة في واحدة من مئات المليارات من
المجرات التي حولنا.
صحبة
العلماء
ليس كل
مَن جالس العلماء بات عالِمًا، لكن الأمر يختلف كثيرًا بالنسبة
لـ"سليمان"، الذي قادته رحلته العلمية من مدرسة "بهتيم"
الثانوية (الحكومية) إلى الحصول على الدكتوراة من داخل إحدى قاعات مبنى الفيزياء
الفلكية وبحضور لجنة تحكيم من "كالتك" ومختبر الدفع الصاروخي بوكالة
ناسا و"باري باريش" عالِم الفيزياء التجريبية الأمريكي أحد الحاصلين على
جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2017 لدوره في رصد موجات الجاذبية من خلال مرصد
الموجات التداخلية والليزر والجاذبية المعروف اختصارًا باسم "ليجو".
انضم "سليمان"
إلى فريق عمل كبير في "كالتك" ومعمل الدفع النفاث بناسا المكون من أكثر من
70 أستاذًا وباحثًا وعالِمًا على مستوى العالم، وهناك التقى العالِم رودولف ماركوس
الحاصل على نوبل الكيمياء لعام 1992، الذي تعلم منه أن "السن مجرد رقم، وأهم شيء
أن يستمتع بما يفعله"، كما التقى علماء بحجم "كيب ثورن" و"ديفيد
بالتيمور" و"ديفيد بولتيزار" و"جون ماثر"، وغيرهم من الحاصلين
على نوبل، مما طور شخصيته وساعده على رسم أهدافه العلمية وكيفية تحقيقها.
لكن
اللقاء الأهم بالنسبة لـ"سليمان" هو لقاؤه بالراحل أحمد زويل، يتذكر:
عندما جاءني خبر قبولي بكالتك، أرسلت رسالة إلكترونية إلى الدكتور أحمد زويل قلت
فيها: "أحلم بأن أضيف شيئًا إلى العلم، وأن أحصل على نوبل في الفيزياء أسوةً
بحصولك عليها في الكيمياء"، كنت ساعتها صغيرًا في السن ولا أعرف لماذا قلت له
ذلك!
يقول "سليمان":
عندما وصلت إلى "كالتك" في عام 2015، كان الدكتور زويل ينتظرني في
مكتبه، وأخبرني بأنه سعيد جدًّا لأن طالبًا مصريًّا انضم إلى "كالتك" من
مصر مباشرة، كنت أواجه مشكلاتٍ عدةً في البداية، واعتدت أن يوجهني دكتور زويل إلى
طريق الحل حتى رحيله عام 2016.
ويضيف:
هناك العديد من الشخصيات العربية التي ألهمتني مثل الدكتور مصطفى السيد في علمه
العظيم والدكتور مصطفى محمود في تأملاته الفكرية والدينية ونجيب محفوظ في كتاباته الروائية
وغيرهم كثيرون، إضافةً إلى شخصيات ألهمتني خلال دراستي وعملي في معهد بحوث الإلكترونيات
وهندسة عين شمس وهندسة شبرا وجامعة زويل والجامعة الأمريكية.
قصة
ملهمة
تناول
"سليمان" في أطروحة الدكتوراة "تصميم وتطوير التكنولوجيا المستخدمة
في تلسكوب "كالتك" ووكالة ناسا ونقله إلى القطب الجنوبي لرصد ودراسة
فيزياء بداية الكون خلال وضع خواص فيزيائية دقيقة لقياسات موجات الجاذبية التضخمية
أو البدائية" المتوقع تولدها من الانفجار الكوني المسمى "كوزميك إنفليشن"
من بداية الكون.
لم
يتوقف "سليمان" عند هذا الحد، بل واصل تطوير مهاراته وانضم إلى مختبر
الدفع النفاث التابع لناسا كعالِم مشارك وباحث ما بعد الدكتوراة، وحصل على ميدالية
من مركز البحوث الأمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية تقديرًا لأبحاثه واكتشافاته
العلمية من القطب الجنوبي والمنشور جزء كبير منها مؤخرًا في مجلات علمية مرموقة
مثل "فيزيكال رفيو ليتر" و"أستروفيزيكس جورنال"، وفاز بجائزة
"قيادة خريجي الدكتوراة" من "كالتك" في عام 2023، وكان أول
مصري يزور منزل المستكشف البريطاني روبرت فالكون سكوت، وهو أول منزل بُني في
القارة القطبية الجنوبية عام 1902.
يقول
"سليمان" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": مررت بتجربة
استثنائية، وأمضيت شهورًا وسط الباحثين والعلماء في عالم أنتاركتيكا والقطب الجنوبي،
كنت سعيدًا جدًّا وأنا أشاهد مقتنيات منزل "سكوت" مثل الطعام الذي كانوا
يتناولونه والذي ما زال يحتفظ بحالته لنحو 120 عامًا نتيجة البرودة الشديدة، ودونت
اسمي في سجل الزيارات، أنا سعيد لأنني عشت شهورًا في مكان يدوم فيه النهار 24 ساعة
والبرودة تبلغ 65 درجة تحت الصفر، ولا أنسى تلك اللحظة التي رفعت فيها علم مصر فوق
خيمة إقامتي بالقطب الجنوبي وقت كسوف الشمس، ولا تلك اللحظة التي رفعت فيها علم
فلسطين بجانب علم مصر.
نشاط
مجتمعي
"سليمان"،
الذي ما زال يحن إلى جلساته العائلية وسط والده ووالدته في مدينة
"بهتيم" الواقعة على أطراف القاهرة وهم يشاهدون برنامج العلم والإيمان
للدكتور مصطفى محمود، يؤدي أنشطة اجتماعية كثيرة في مصر محاولًا من خلالها فتح أبواب
العلم أمام الشباب الطموح الذي يواجه تحديات تعوق تحقيق أحلامه، بحيث يعرض عليهم
كيفية مواجهة التحديات.
يقول
أحمد سليمان: كنت فخورًا جدًّا بالأنشطة التي عرضتها خلال وجودي في القطب الجنوبي
لطلاب المدارس في مصر وفلسطين والأردن لتشجيعهم على العلم.
ويتابع:
لدينا عقول مصرية عظيمة ينقصها تمويل أفكارها العلمية، إن توفير ميزانية أكبر للبحث
العلمي سيساعد على شراء أحدث الأجهزة العلمية وتوفير المناخ المناسب للبحث والإبداع،
وسيدفع مصر نحو بلوغ مكانة بارزة بين الكبار في المجالات العلمية المختلفة.
تواصل معنا: