يختلف سكان صحراء "ناميب" الأنجولية عن غيرهم من الأفارقة.. إذ يحملون آثارًا جينيةً لمجموعات بشرية منقرضة
محمد منصور
لطالما فتنت صحراء "ناميب"
الممتدة على طول الساحل الجنوبي الغربي لأفريقيا -بمناظرها الطبيعية الخلابة
وظروفها البيئية القاسية- العلماء والمغامرين على حدٍّ سواء.
لكن وراء الكثبان الرملية الخلابة
والتضاريس القاحلة، تختبئ أسرار عن النسيج الغني للتاريخ البشري وأنماط الهجرة.
فقد كشفت دراسة جينومية حديثة عن رؤى
رائعة حول الأصول الفريدة للأشخاص الذين يعيشون في صحراء "ناميب" الأنجولية،
ما يوفر لمحةً عن الماضي البعيد للمنطقة؛ فباستخدام تحليل الأسلاف،
كشف فريق بحث دولي من جامعة "برن" السويسرية، وجامعة "بورتو"
البرتغالية، و"معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية" في ألمانيا، عن
أصل متباين للغاية بين السكان المختلطين من صحراء "ناميب" الأنجولية.
وتوضح الدراسة، التي نشرتها دورية "ساينس أدفانسس" (Science
Advances)، أن "التراث الجيني الفريد يجعل
الباحثين أقرب إلى فهم توزيع التنوع الجيني في المنطقة الأوسع للجنوب الأفريقي قبل
انتشار إنتاج الغذاء".
وكشفت الدراسة أن "سكان صحراء
ناميب الأنجولية يتميزون وراثيًّا عن غيرهم من السكان المعاصرين، ويُظهرون تنوعًا وراثيًّا
داخليًّا كبيرًا، كما لاحظ الباحثون أن معظم التنوع على مستوى الجينوم تأثر بالوضع
الاجتماعي والاقتصادي".
شجرة العائلة
أفريقيا هي ثانية أكبر قارات العالم،
ولديها تنوع بيولوجي مذهل، ونسيج غني من الثقافات، ومع ذلك، فإلى جانب مناظرها
الطبيعية الخلابة ومجتمعاتها النابضة بالحياة، تحمل أفريقيا أهميةً أعمق للإنسانية
ككل؛ فهي مسقط رأس الإنسان الحديث ضمن الحقائق التي يتردد صداها عبر سجلات التاريخ
والعلوم، فالقارة السمراء تسلط الضوء على أسلافنا المشتركة والرحلة التي أوصلتنا
إلى ما نحن عليه اليوم، وبالنسبة للعلماء والباحثين، فإن الأدلة واضحة للغاية على
أن أفريقيا هي مهد الإنسانية، مشيرين إلى أن "قصة أصولنا بدأت
في السافانا الشاسعة في أفريقيا،
والغابات الكثيفة، ووديان الأنهار الخصبة".
إن الدراسات الجينية حول الأصول الأفريقية
للإنسان الحديث، وتحليل الحمض النووي لمجموعات سكانية متنوعة في جميع أنحاء العالم،
تشير إلى أفريقيا باعتبارها مصدر تنوعنا الجيني، ومن خلال التنوع الجيني الأفريقي
نجد الجذور العميقة لشجرة العائلة البشرية.
كما أدى الوادي المتصدع العظيم -وهو
أعجوبة جيولوجية تمتد عبر شرق أفريقيا- دورًا محوريًّا في هذه الرواية؛ إذ توفر
حفريات أشباه البشر الأوائل -بما في ذلك اكتشافات حفرية لوسي الشهيرة
(أوسترالوبيثيكوس أفارينسيس) في إثيوبيا وعينات الإنسان الماهر والإنسان المنتصب
في كينيا وتنزانيا- رؤى لا تقدر بثمن حول رحلتنا التطورية.
ولا تتوقف أهمية أفريقيا في دراسة
التطور البشري عند ظهور الإنسان العاقل؛ إذ كانت القارة كنزًا دفينًا من اكتشافات
علم الإنسان القديم بعد أن قدمت لمحات عن المجموعة المتنوعة من أسلاف البشر الذين
جابوا هذه الأراضي ذات يوم.
مجموعة فريدة
تقول "ساندرا أوليفيرا"، الباحثة
بقسم علم الوراثة التطورية بمعهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية، والمؤلفة
المشاركة في الدراسة: "إن الحفريات ذات السمات التشريحية الحديثة ظهرت في
أفريقيا قبل ظهورها في أجزاء أخرى من العالم".
تضيف "أوليفيرا" في
تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": علاوةً على ذلك، أظهرت الأبحاث الجينية أن
التنوع الموجود خارج أفريقيا ليس سوى مجموعة فرعية من التنوع الموجود داخل أفريقيا،
وأن الإنسان الحديث توسع من أفريقيا إلى أجزاء أخرى من العالم.
وتتابع: إذا أردنا إعادة بناء
التاريخ الديموغرافي البشري، وفهم الأصول البشرية، والأساس الجيني للتكيف أو
القابلية للإصابة بالأمراض، فإنه يتعين علينا أن ندرج أكبر قدر ممكن من التنوع في
البحوث الجينية، وبما أن أعلى مستوى من التنوع الجيني موجود في أفريقيا، فمن المهم
للغاية سد فجوات العينات وتحديد خصائص التنوع الوراثي الأفريقي.
لغة النقر
أجرى الباحثون دراسة جينية على مجموعة
رعوية تعيش في صحراء "ناميب" الأنجولية تٌعرف بـ"الكويبي"، وتتحدث
تلك المجموعة لغة الـ"كوادي"، وهي لغة النقر التي تشترك في سلف مشترك مع
لغات "الخوي" التي يتحدث بها الباحثون عن الطعام والرعاة في جميع أنحاء
الجنوب الإفريقي.
كان العلماء يعتقدون أن تلك اللغة
انقرضت في عام 1960 تقريبًا، ولم يكن هناك سوى خمسين كواديًّا في الخمسينيات من
القرن الماضي، منهم 4-5 فقط من المتحدثين الأكفاء باللغة، وكان هناك ثلاثة متحدثين
جزئيين معروفين في عام 1965، ولكن في عام 1981 لم يُعثر على متحدثين، إلا أن
الدراسة الجديدة دحضت ذلك الاعتقاد بعد أن عثر الباحثون على متحدثتين بتلك اللغة.
وعلى الرغم من أن لغة "كوادي"
غير موثقة بشكل جيد، فإن هناك بيانات كافية تُظهر أنها عضو مختلف في عائلة لغات "الخوي"،
أو ربما مشابهة للغات "الخوي" في عائلة "خوي-كوادي"، وهي
عائلة تتكون من لغات "خوي" في جنوب أفريقيا ولغة "كوادي"
المنقرضة غير الموثقة في أنجولا.
وتتميز لغات النقر عن معظم اللغات
الأخرى باستخدامها للحروف الساكنة غير الرئوية التي تُنتَج عن طريق إنشاء صوت شفط،
أو فرقعة باللسان، أو الشفاه أو أجزاء أخرى من الفم.
بالإضافة إلى ذلك، تواصل الباحثون مع
المجموعات الناطقة بلغة "البانتو"، التي تمثل جزءًا من التقاليد الرعوية
السائدة في جنوب غرب إفريقيا، بالإضافة إلى المجموعات المهمشة التي ارتبطت أصولها
بتقاليد البحث عن الطعام.
آثار جينية
تقول "أوليفيرا": إن
المسوحات الأنثروبولوجية التي أُجريت خلال النصف الأول من القرن العشرين تؤكد أن
المجموعة التي تتحدث لغة "كوادي" لها أصل مشترك مع المجموعات التي اختفت
من المنطقة وكانت تتحدث لغة شبيهة، وبالتالي افترضنا إمكانية العثور على آثار
للتراث الجيني للمجموعات البشرية المنقرضة في الشعوب الحديثة التي تعيش في المنطقة
في الوقت الحالي.
وتتابع: تمكنَّا من الاتصال بمجموعة
"الكويبي" الرعوية بفضل التعاون مع مؤسسة محلية تسمى "مركز دراسات
الصحراء في كوروكا"، بالقرب من مدينة تومبوا الأنجولية، أقامت بالفعل علاقات
جيدة مع "الكويبيين"، وفي هذا المجتمع بالذات، لا يزال عدد من "الكويبيين"
يبلغ أكثر من مئة فرد يتبعون أسلوب حياة شبه بدوية في صحراء ناميب حتى يومنا هذا.
خلال بحثهم، أقام الباحثون علاقات
وثيقة مع زعيم مجموعة الكويبي "أنطونيو مبيبي"، الذي ساعدهم في التعرف
على امرأتين كبيرتين في السن من المجموعة كانتا بمنزلة كنز لأنهما لا تزالان
تستطيعان التحدث بلغة كوادي.
تاريخ معقد
جمع الباحثون عينات من اللعاب لأنها
تحتوي على كميات كافية من الحمض النووي، وبعد ذلك استخدموا تقنيات تحليل الأسلاف،
وهي طرق حسابية تُستخدم في علم الوراثة وعلم
الوراثة السكانية لتقدير نسبة الأصل الجيني للفرد،
التي يمكن أن تُعزى إلى مجموعات أسلاف مختلفة أو مجموعات سكانية فرعية.
وتعتبر هذه التقنيات ذات قيمة خاصة
عند دراسة المجموعات السكانية ذات الخلفيات الجينية المتنوعة؛ لأنها يمكن أن تساعد
في كشف التاريخ المعقد للهجرة البشرية والاختلاط.
يبدأ تحليل الأسلاف بالبيانات
الوراثية، عادةً في شكل النمط الجيني للشخص، الذي يتضمن معلومات حول وجود أو عدم
وجود متغيرات جينية محددة عبر جينوم الفرد، ولتقدير نسب السلالة، يستخدم الباحثون
مجموعات سكانية مرجعية ذات خلفيات وراثية محددة جيدًا، ويمكن أن تمثل هذه
المجموعات السكانية المرجعية مجموعاتٍ عرقيةً أو مناطق أو مجموعات سكانية تاريخية
مختلفة.
بعد ذلك، استخدم الباحثون خوارزميات
إحصائية مختلفة لمقارنة بيانات النمط الجيني للفرد بالمجموعات السكانية المرجعية، وتحسب
هذه الخوارزميات احتمالية أن يأتي جزء معين من جينوم الفرد من كل مجموعة مرجعية.
وقد أظهرت الدراسة أن "سكان
ناميب الأنجولية يختلفون تمامًا عن السكان المعاصرين الآخرين؛ إذ إنهم يحتفظون
بسلالة ما قبل البانتو الفريدة التي لا توجد إلا في السكان من صحراء ناميب".
ويشير مصطلح "سلالة ما قبل
البانتو" إلى التراث الجيني والثقافي للسكان في أفريقيا، الذي كان موجودًا
قبل هجرات البانتو واسعة النطاق التي بدأت منذ حوالي 2000 إلى 3000 عام.
وكانت هجرات البانتو عبارة عن سلسلة
من التحركات السكانية والتوسعات للأشخاص الناطقين بلغة البانتو عبر جزء كبير من
أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ويُعد فهم أصول ما قبل البانتو أمرًا ضروريًّا لفهم
مدى تعقيد التاريخ البشري في القارة الأفريقية.
وقبل هجرات البانتو، كانت أفريقيا
موطنًا لمجموعة واسعة من المجموعات العرقية والثقافات واللغات المتنوعة، وتباينت
مجموعات سكان ما قبل البانتو في أنماط معيشتهم، وهياكلهم الاجتماعية، وتوزيعهم
الجغرافي؛ إذ شملت أفريقيا ما قبل البانتو مجتمعات الصيد وجمع الثمار والمجتمعات
الزراعية المبكرة، واعتمدت بعض المجموعات على البحث عن الطعام، بينما مارست
مجموعات أخرى زراعة المحاصيل مثل الذرة الرفيعة والبطاطا.
تنوع جيني
وكشفت الدراسات الوراثية للسكان
الأفارقة عن تنوع جيني غني يعكس التاريخ الطويل للسكن البشري في القارة؛ إذ تتمتع
مناطق مختلفة من أفريقيا ببصمات وراثية متميزة، شكلتها الحركات السكانية القديمة،
والهجرات، والتفاعلات.
كما كان لهجرة البانتو تأثيرٌ عميق
على المشهد الديموغرافي واللغوي في أفريقيا، ومع توسع المجموعات الناطقة بلغة
البانتو، تفاعلت مع سكان ما قبل البانتو، وفي بعض الأحيان استوعبتهم أو شردتهم، ما
أدى إلى انتشار لغات البانتو واندماج الثقافات.
وكانت الأبحاث الجينية السابقة قد
كشفت بالفعل عن الموقع الفريد للباحثين عن الطعام من صحراء كالاهاري في المشهد
الوراثي البشري.
والباحثون عن الطعام في كالاهاري،
المعروفون أيضًا باسم شعب "بوشمن" أو شعب "سان"، هم مجتمعات
من السكان الأصليين الذين يعيشون على الصيد وجمع الثمار ويسكنون تقليديًّا صحراء
كالاهاري، وهي منطقة شاسعة شبه قاحلة في جنوب إفريقيا تمتد على أجزاء من بوتسوانا
وناميبيا وجنوب إفريقيا وأنجولا وزامبيا وزيمبابوي.
وتشتهر هذه المجتمعات الباحثة عن
الطعام بأسلوب حياتها الفريد الذي يدور حول صيد الطرائد البرية وجمع النباتات
الصالحة للأكل في البيئة الصحراوية القاسية.
ووجد العلماء أن هؤلاء الباحثين عن
الطعام من نسل مجموعة أسلاف كانت أول مَن انفصل عن جميع البشر الآخرين الموجودين،
ويسلط إرثهم الجيني الضوء على الأصول القديمة لمجتمعات السكان الأصليين هذه
وارتباطاتها العميقة بالأرض، وقد اعتمدت الدراسة الأخيرة على هذا الأساس من خلال
تحديد أصل متميز مرتبط بسكان صحراء ناميب يختلف اختلافًا كبيرًا عن جميع السلالات
الأخرى في جنوب إفريقيا.
ويؤكد الاكتشاف الجديد مدى تعقيد
التاريخ الوراثي البشري في المنطقة، ويُعد أحد الجوانب الأكثر إلحاحًا في هذا
البحث قدرته على إعادة بناء تواريخ الاتصال الدقيقة الناشئة عن هجرة الرعاة
الناطقين بلغة "خوي-كوادي" والمزارعين الناطقين بلغة البانتو إلى الجنوب
الأفريقي.
وقد أدت هذه الهجرات دورًا حاسمًا في
تشكيل التنوع اللغوي والثقافي في المنطقة، فمن خلال تتبُّع البصمات الجينية لهؤلاء
السكان، تلقي الدراسة الضوء على التفاعلات والاختلاطات والتكيُّفات التي حدثت على
مر القرون.
تمتد أهمية هذه الدراسة إلى ما هو
أبعد من الاكتشافات الجينية ذاتها، وفق الباحثة في التاريخ البشري الجيني بجامعة
أوبسالا السويدية "كارينا شليبوس"، التي لم تشارك في الدراسة.
تقول "شليبوس": إن
الاكتشاف يسلط الضوء على قوة أبحاث الحمض النووي الحديثة، وخاصةً في المناطق ذات
التنوع العرقي اللغوي العالي؛ ففي حين أن دراسات الحمض النووي القديمة قدمت إسهامات
لا تقدر بثمن في فهمنا للتاريخ البشري، فإنها غالبًا ما تواجه قيودًا بسبب ندرة
العينات القديمة والحفاظ عليها، ويمكن لأبحاث الحمض النووي الحديثة -كما هو موضح
في هذه الدراسة- أن تكمل هذه الجهود من خلال فحص البنية الجينية العميقة للقارة
الأفريقية.
تواصل معنا: