مقالات

رسالة "كابيكي" لمرضى القلق.. "صيحوا بأعلى صوت ممكن"

نشرت بتاريخ 1 أكتوبر 2023

على هامش اجتماعات لينداو.. التقت نيتشر ميدل إيست العالِم "ماريو كابيكي" الحاصل على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا لعام 2007.. للحديث عن معاناته الشخصية وعلم الوراثة وموروثات القلق.

من لينداو:- معتصم البارودي

ماريو
كابيكي في حواره مع نيتشر ميدل إيست

ماريو كابيكي في حواره مع نيتشر ميدل إيست


Moatasem El Baroudy Enlarge image
واقفًا أمام صورة للوحة إدفارد مونش الأيقونية "الصرخة"، قدم "ماريو كابيكي" الحاصل على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا في عام 2007 أحدث أبحاثه حول موروثات القلق خلال اجتماعات لينداو الثانية والسبعين لحائزي جائزة نوبل، التي أقيمت أواخر شهر يونيو الماضي بمدينة لينداو البافارية بألمانيا.

 

عندما كان في الرابعة من عمره، شهدت حياة كابيكي انعطافًا مروعًا عندما فارق أمه التي سُجنت في معسكر اعتقال نازي، مثَّل ذاك بداية طفولة مضطربة قضاها "كابيكي" مشردًا في شوارع إيطاليا، ومتنقلًا بين دور الأيتام، ليعاني خلال ذلك من سوء التغذية الحاد، في صراعٍ للبقاء كاد أن يكلفه حياته.

 

خرج "كابيكي" من هذه الظروف الصعبة ليبدأ مسيرةً علميةً استثنائية، بدايتها كانت بدراسة الفيزياء والكيمياء، ومن ثم الانتقال والاستقرار بمجال علم الأحياء الجزيئي، لم تمض سنون طويلة حتى حاز عمله الرائد على اهتمام واسع تُوج بحصوله على جائزة نوبل؛ لإسهاماته فيما يخص تقنيات استهداف الجينات، بالأخص تقنية "الفئران معطلة الجين" (knockout mice)، التي سهلت من تطوير نماذج حيوانية للعديد من الأمراض البشرية.

في السنوات الأخيرة، قام "كابيكي" بدمج التقنية نفسها التي أسهم في تطويرها مع تقنيات وراثية حديثة؛ سعيًا منه لاستكشاف الجينات التي تحكم سلوك القلق.

 

وأسفر هذا المسعى عن نتائج مفاجئة تتحدى الافتراضات القائمة؛ فقد بينت أن الخلايا الدبقية الصغيرة -وهي خلايا مناعية موجودة في أدمغتنا- يمكنها أن تمارس تأثيرًا على السلوكيات المرتبطة بالقلق لدى الفئران، ويخالف هذا الاكتشاف الاعتقاد التقليدي بأن التحكم في السلوك هو أمرٌ حصري للخلايا العصبية.

 

 

 

 

قرأت سيرتك الذاتية المؤثرة المنشورة على موقع جائزة نوبل.. فهل من الممكن أن تشاركنا كيف كان شعورك حيال وضع كل هذه الذكريات على الورق؟

 

في الحقيقة كنت قد كتبتها أول مرة عام 1996 عند حصولي على جائزة كيوتو، لذا كان الأمر أسهل نسبيًّا عندما أضفت إليها لاحقًا عند حصولي على جائزة نوبل، قبل ذلك لم أكتب شيئًا قَط؛ لأن الطريقة المُثلى التي يتعامل بها الإنسان مع الماضي المؤلم -على الأقل بالنسبة لي- هي ببساطة أن يحجبه، أي ألا يفكر فيه أبدًا، لكن عندما يُطلب منك أن تضع تلك الذكريات على الورق، فإنك تضطر إلى استجرار الذكريات، لذا قمت بذلك مرتين حتى الآن (لجائزة كيوتو وجائزة نوبل)، ولكن أعتقد أن هناك أسئلة كثيرة لم أتطرق إليها بعد، وهذا أمرٌ مقبول بالنسبة لي في الوقت الحالي.

 

 

كيف تمكنت من تجاوز التحديات الشاقة التي واجهتك؟

أعتقد أنني تجاوزتها لأنني كنت طفلًا، إذ لو كنت بالغًا في ذلك الوقت، لكنت قد قلت إن ما أمرُّ به ليس عادلًا، الطفل لا يفعل ذلك، ببساطة، الطفل يرى الوضع كما هو عليه، ولا يفكر في سيناريوهات أخرى، لذا، أعتقد أن تجاوُز تلك الصعاب أسهل أحيانًا بالنسبة للأطفال مقارنةً بالبالغين.

 

على سبيل المثال، والدتي التي كانت شاعرة وكاتبة أُلقي القبض عليها واحتُجزت في معسكر اعتقال داخاو بالقرب من ميونخ، وعلى الرغم من أنها نجت من ذلك، واحتفظت بطبيعتها اللطيفة والمتعاطفة التي لطالما عرفتها، إلا أنها لم تتعافَ كليًّا، توقفت جميع أعمالها الإبداعية وأنشطتها السابقة؛ لأن كل ما كانت تفكر فيه كان مظلمًا.

 

من ناحية أخرى، كان قلقي الوحيد خلال تلك الفترة الصعبة هو البحث عن الطعام، لم أكن مضطرًا إلى القلق بشأن المأوى؛ لكثرة المنازل المهجورة نتيجة القصف، والتي كانت مأوى لي ولمَن هم في مثل حالتي، أما الطعام فقد كان سلعةً يصعب الحصول عليها، إذا كنت محظوظًا في الحصول عليه يومًا فهذا أمر رائع، وإذا لم تنجح، فإنك تنتظر وتأمل الحصول عليه في اليوم التالي.

 

كيف أثرت هذه التجارب على رؤيتك للحياة؟ وماذا كان تأثيرها على مسيرتك المهنية في مجال العلوم فيما بعد؟

 

عندما انتقلت لأول مرة إلى الولايات المتحدة، كنت دائمًا مبتسمًا؛ لأن العالم بدا لي وكأنه جنة، كان التحول هائلًا، فقد انتقلت من حالة "لا شيء متوافر" إلى حالة "كل شيء متوافر".

لذلك، أعتقد أن الصعوبات تجعلك أكثر امتنانًا وربما أكثر حذرًا وتأملًا، كما يمكنها أن تمنحك العديد من الصفات الحسنة.

ومع ذلك، من الصعب معرفة كيف أثرت على مسيرتي المهنية، بالتأكيد لم تُتح لي فرص للتعليم الرسمي في طفولتي، فلم أذهب إلى المدرسة حتى انتقلت إلى الولايات المتحدة، ولكنني كنت هناك في العالم الحقيقي، وأعتقد أني تعلمت أمورًا قيِّمة لمستقبلي مثل الفضول والصبر، لكنني ما زلت أظن أن أي شيء أفعله في معملي هو أمرٌ مكتفٍ بذاته، بدلًا من البحث عن الإلهام في أي مكان آخر، إذا احتجنا إلى شيء لتجاربنا فسنتعلم كيفية عمله.

- بالحديث عن أبحاثك الأخيرة المتعلقة بموضوع القلق، هل لك أن تخبرنا ما الذي دفعك للاهتمام بهذا الموضوع؟

 

في الحقيقة لقد دفعتنا الصدفة البحتة إلى البحث في هذا الموضوع؛ فقد كنا ندرس الجينات التي تتحكم في صنع خطة الجسم، والتي تُعرف بجينات هوكس Hox genes، إذ قمنا باستيلاد فئران فيها جين Hoxb8 معطوب، وبينما انتهى بنا الأمر إلى فئران طبيعية تمامًا من حيث الشكل، كان سلوكها خارجًا عن السيطرة تمامًا، فقد كانت الفئران تنظف أنفسها بشكل متكرر حتى تتمزق جلودها، لا يمكنك ألا تلاحظ ذلك.

في البداية، لم تكن لدينا أي فكرة عن الأسباب، ولم تكن لدينا أي فكرة عن أن الأمر يتعلق بتلك الخلايا الدماغية الصغيرة التي تُعرف بالخلايا الدبقية الصغيرة، لقد كان لدينا ببساطة نمط ظاهري مقزز، حاولنا فهم أسبابه، ومع كل تجربة نُجريها كنا نفاجأ بالنتائج، يعيش العلماء بانتظار الوقت الذي تكون فيه النتائج غير متوقعة، وهذا ما جذبنا إلى هذا المشروع بالتحديد، وأعتقد أنه لا يزال هناك الكثير من المفاجآت القادمة.

قدم

قدم "كابيكي" أحدث أبحاثه حول موروثات القلق خلال اجتماعات لينداو الأخيرة


Enlarge image

ما الذي تأمل تحقيقه من خلال هذا المشروع؟

 

بدايةً، علينا أن نعترف بأن القلق يمثل أزمةً كبيرة، يمكننا القول إنه يمثل أزمةً صحيةً عالمية، تؤثر نوبات القلق والآثار الجانبية المتعلقة بها على العديد من الشباب، وخاصةً النساء، وتشير بعض التقديرات إلى أن ما يصل إلى 40% من سكان العالم يعانون الآن من القلق إلى المستوى الذي يحتاجون فيه إلى المساعدة، ليس فقط أنهم قلقون بشكل مفرط، بل هم في مرحلة فقدوا فيها السيطرة بشكل كامل، هذه الأرقام لا شك أنها مخيفة، ناهيك بالآثار النفسية لجائحة كوفيد-19 على العديد من الأشخاص حول العالم، التي سنبدأ باكتشافها الفترة القادمة.

لذلك أعتقد أن هناك الكثير من سوء الفهم حول القلق، ونحن بحاجة إلى المزيد من الأبحاث لتكوين فهمٍ أفضل لآلياته البيولوجية، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى علاجاتٍ أفضل، وهذا هو ما أسعى إليه.

 

 

من وجهة نظرك، ما المدى الزمني الذي نحتاج إليه حتى نصل إلى علاجات فعالة للقلق؟

 

ما نفعله حاليًّا يبعد قرابة 20 عامًا عن المرحلة التي يمكننا فيها ترجمته إلى تطبيقات علاجية، وهو إطار زمني معقول جدًّا، ذلك لأنه لا يزال لدينا فهم محدود للآليات الجزيئية المتحكمة في سلوك القلق، على سبيل المثال، بدأت الحرب ضد السرطان في السبعينيات، استثمرت خلال تلك الحقبة مبالغ هائلة من المال في الكثير من الأبحاث، لكننا بدأنا للتو في حصد ثمار نتائجها.

نحن حاليًّا في المراحل الأولى من إجراء تجارب عقلانية على القلق لمعالجة الفجوات المعرفية الموجودة، ولكن بمجرد تكوين الفهم الأساسي للمرض، فإن الباقي سيكون مسألة وقت لا أكثر.

يجب أن أشير إلى أن معظم شركات الأدوية لا تولي الاضطرابات العصبية والنفسية اهتمامًا كافيًا؛ لأنها غير متأكدة من موعد حدوث الاختراق العلمي القادم، لكنهم على كل حال يترقبون فرصة اكتشاف أهداف علاجية واعدة، أعتقد أن ما نفعله سيقدم مجموعةً جديدةً تمامًا من الاحتمالات العلاجية، وسنواصل بذل المزيد من الجهد لتحقيق ذلك في السنوات القادمة.

 

فيما يتعلق باتجاه بحوثك المستقبلي، ما هي الأسئلة الرئيسية التي تهدف إلى الإجابة عنها؟

 

أعتقد أننا الآن متأكدون من أن للخلايا الدبقية الصغيرة دورًا في سلوك القلق، لذا، السؤال الرئيسي التالي هو: "كيف تنتقل من الخلايا الدبقية الصغيرة إلى السلوك؟"، الإجابة الوحيدة التي يمكنني تصورها هي أنها تتحدث مع بعض الخلايا العصبية وتوجه السلوك من خلالها.

الأمر الثاني هو أننا اكتشفنا أنه إذا قمت بتنشيط الخلايا الدبقية الصغيرة في هذا الجزء المحدد من الدماغ فستحصل على القلق، أما إذا قمت بذلك في جزء آخر من الدماغ، فستحصل على سلوك تنظيف الذات، وإذا قمت بذلك في جزء ثالث فستحصل على الاثنين معًا، لذا نحن نتساءل لماذا يؤدي تنشيط الخلايا الدبقية في هذا الموقع المحدد في الدماغ إلى القلق وإلى تنظيف الذات في الآخر، هل الرسالة التي تطلقها الخلايا الدبقية الصغيرة مختلفة في كل حالة؟ أم أنها تتحدث مع خلايا عصبية مختلفة في هذه المواقع المختلفة؟

 

 

إذا سمحت لي بطرح هذا السؤال، هل عانيت من القلق خلال مسيرتك المهنية نتيجة ضغوط الحياة الأكاديمية؟

 

الحياة الأكاديمية؟ لا أعتقد ذلك، أنا أتقاضى المال مقابل حل الألغاز، لا أعدُّ ذاك عملًا مرهقًا، بل سبيلًا للتسلية.

أما بالنسبة للجزء البيروقراطي من الحياة الأكاديمية فأنا لا آخذه على محمل الجد، طالما لم يزعجوني به كثيرًا فسأبقى سعيدًا.

بشكل عام، أعتقد أنني ماهر جدًّا في التعامل مع القلق، في الحقيقة، عندما جئت لأول مرة إلى الولايات المتحدة كان لقبي "تشييريو"-المبتهج، كانوا يجدون صعوبةً في نطق "ماريو"، لذا سموني "تشييريو"، لكن السبب الرئيسي لذلك هو أنني كنت دائمًا مبتسمًا.

 

 

ما هي الرسالة التي تود توجيهها إلى الأشخاص الذين يعانون من القلق في جميع أنحاء العالم؟

 

أعتقد أن ما يجب عليهم فعله هو الصياح بأعلى صوت ممكن، أنا جاد بشأن هذا الأمر، أنتم بحاجة إلى رفع أصواتكم حتى يتمكن العالم من الاعتراف بقضيتكم، ويبدأ في تكريس الجهود لمعالجتها.

doi:10.1038/nmiddleeast.2023.188