على
طريقة أفلام "هوليود".. ماكينة تصوير أوراق تتصدر مشهد حصول
"كاريكو" و"وايزمان" على جائزة نوبل في الطب
أحمد جمال سعد الدين
في عام
١٩٩٨، حظي "درو وايزمان" -عالِم المناعة الأمريكي الذي يحمل شهادة
دكتوراة في مجاله- بوظيفة في جامعة بنسلفانيا، وقتها كان السؤال الذي يحاول
الإجابة عنه هو: كيف يمكنه تطوير اللقاحات التي نملكها، أو تصنيع لقاح أنجح وأفضل
مما نملك؟ ولم يكن يعرف أن الرد على سؤاله هذا سينقذ العالم من وباء قاتل فتك
بملايين البشر!
كانت
البشرية وقتها قد قطعت بالفعل شوطًا واسعًا في مجال تطوير اللقاحات، وبإمكاننا أن
نرجع إلى عام 1796، حين قرر الطبيب الإنجليزي "إدوارد جينر" أن يعرّض طفلًا عمره ثمانية
أعوام لصديدٍ جمعه من إحدى المصابات بجدري الأبقار، وهو المرض الشبيه بالجدري الذي
يصيب البشر، ثم لاحظ أن هذا الإجراء -الذي أطلق عليه التحصين- حمى الطفل بالفعل من
الإصابة بالجدري، بل يمكننا العودة إلى ما قبل ذلك، ففي عصور ما قبل التاريخ، هناك
كثير من الأدلة التي تخبرنا عن ممارسات مشابهة في أيام المصريين القدماء مثلًا.
توالى
اكتشاف لقاحات جديدة منذ ذاك الوقت، مثل لقاحات ضد شلل الأطفال والحصبة والسعال
الديكي والنكاف والتيتانوس والتهاب الكبد، أنواع مختلفة، وطرق مختلفة للتعامل مع
أمراض قلَّت خطورتها على حياة البشر، وأصبح بإمكاننا الآن التعامل مع الأمراض على
نطاق واسع، لا المرض بحد ذاته فقط، بل المجتمعات والصحة العامة.
تحفيز رد
فعل مناعي
أغلب
تلك اللقاحات اعتمد في عمله على الحَقن بمادة غير فعّالة مُوهّنة من العامل
المُسبب للمرض (المُمْرض)، أو بأجزاء وشظايا منه، بهدف تحفيز رد فعل مناعي، يجعل
جهاز المناعة في حالة استعداد حين مقابلة الخطر الحقيقي، إستراتيجية ممتازة ورائعة
بطبيعة الحال، لكن مشكلتها الوحيدة هي الوقت؛ إذ تستغرق هذه العملية أعوامًا
للانتهاء منها، وهي فترة تعني تعرّض البشر لهذا التهديد دون حماية، خاصةً أولئك
الذين يعانون من ضعف في أجهزتهم المناعية، إما لمرض أو تقدم في السن.
في
أواخر تسعينيات القرن الماضي، كان "وايزمان" أحد العلماء القليلين الذين
أولوا اهتمامًا خاصًّا بالحمض النووي الريبي المرسال (اختصارًا يُعرف بالـmRNA)، الجزيء أحادي السلسلة، ذي
الدور المعروف في الخلية، فهو مرسال فعلًا؛ إذ يحمل رسائل إرشادية من الحمض النووي
الوراثي إلى الخلايا ليخبرها عن أنواع البروتينات التي يتوجب عليها أن تُنتجها،
لكي يستفيد الجسم منها.
السؤال
الذي طرحه وايزمان هنا: ماذا لو استطعنا تطويع هذه المراسيل والإرشادات وتسخيرها
لصالحنا؟ ألن يصبح بإمكاننا توجيهها لصنع مجموعة مختلفة تمامًا من اللقاحات،
قادرة على إحداث رد فعل مناعي دون أن نكون بحاجة إلى تقديم العامل المُمرض هذا،
مُوهنًا أو ميتًا، أو حتى أجزاء منه، للجسم؟
وهكذا..
بينما كان "وايزمان" واقفًا أمام ماكينة الطباعة العامة، منتظرًا أن
تنتهي من طباعة عدة مقالات من عدة دوريات علمية، التقى "كاتالاين كاريكو"،
زميلته في الجامعة وعالِمة الكيمياء الحيوية؛ إذ تبادلا حديثًا سريعًا، ولاحظا
سريعًا أنهما يتشاركان الاهتمام نفسه متمثلًا في "الحمض النووي الريبي
المرسال"، وهي المساحة عينها التي تعمل فيها "كاريكو".
ليست هذه قصة حب هوليوودية،
رغم أن هذا المشهد بالتأكيد ينتمي إلى هذا العالم.
المال يحدد المسار
"كاريكو"
هي مجرّية ابنة جزار، وُلدت عام ١٩٥٥ في قرية صغيرة بشرق المجر، وعاشت هناك حتى
العشرينيات من عمرها، ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عانت طويلًا حتى
تحصل على مكان في العالم الأكاديمي الأمريكي، ربما كان أحد أسباب ذلك اهتمامها
البحثي الذي انصبَّ بأكمله على الحمض النووي الريبي المرسال، لا شيء آخر.
منذ
بدايات تسعينيات القرن الماضي، وقتما كانت مساعدة أستاذ في جامعة بنسلفانيا، راحت
"كاريكو" تبحث عن إستراتيجية تتيح استخدام الحمض النووي الريبي المرسال
بطرق علاجية، لكنها واجهت كثيرًا من الصعوبات في إقناع الممولين بجدوى مشروعها
وإمكانية استخدامه في المستقبل، لم تكن هناك هيئة تمويلية مستعدة لدفع هذه الأموال
كلها في مسار بحثي غير معتاد كهذا.
إذًا،
هي القصة المكررة، فالمال يحدد المسار، لكن "كاريكو" لم تُبد أي استعداد
للانصياع، بدا الأمر أشبه بالهوس، وفق تعبير أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني
للحساسية والأمراض المعدية، والوجه الأبرز الذي عرفه العالم في أثناء جائحة "كوفيد-١٩"،
ورأي هذا الرجل مهم، فبفضل ما توصلت إليه "كاريكو"، ومعها "وايزمان"،
أصبح بإمكاننا تطوير لقاح مضاد لفيروس "سارس-كوف-٢"، في مدة لا تتجاوز
السنة منذ اندلاع الجائحة، وهو وقت قياسي بكل معيار ممكن، واليوم فاز
الاثنان، "كاريكو" و"وايزمان"، بجائزة نوبل في الطب لهذا
العام، ٢٠٢٣.
تعديلات
القواعد النيتروجينية
في عام
٢٠٠٥، نشر "وايزمان" و"كاريكو" ورقة بحثية وثّقا فيها
مجهودهما الذي استمر سنواتٍ طويلة، في دراسة الحمض النووي الريبي، وتحديدًا
المرسال، وتطرّق الباحثان في هذه الدراسة إلى ما أجرياه من تعديلات على القواعد
النيتروجينية، أتاحت لهما استخدام الحمض النووي الريبي المرسال دون إحداث رد فعل
من الجسم.
مثّل
رد الفعل الالتهابي المشكلة الأساسية التي واجهت استخدام الحمض النووي الريبي
المرسال في الأغراض العلاجية، فهو هشّ لدرجة أن الخلايا تدمره بمجرد أن يدخل إليها،
ويحدث ذلك لأن الجهاز المناعي يتعامل مع الحمض النووي الريبي المرسال بوصفه مادةً غازية؛
إذ تقول إحدى النظريات إن "الجهاز المناعي يراها مشابهةً للحمض النووي الريبي
الذي تفرزه البكتيريا، ومن هنا يأتي رد الفعل الالتهابي ذاك، الذي يتمثل على وجه
الخصوص في إفراز مادة السيتكوين".
والتعديلات
التي أجراها العالِمان على القواعد النيتروجينية تلك، هي بالتحديد التي سمحت لهم
بتقديم الحمض النووي الريبي المرسال للخلايا دون أن ينتهي ذلك بتدميره، فالعكس هو ما
حدث؛ إذ استقبلته الخلايا دون أي رد فعل، وهذا بالضبط هو ما حصلا بموجبه على جائزة
نوبل اليوم، بعد سنوات طويلة من نشر هذه الورقة البحثية.
لحظة
مهمة، لكن لم يتنبه لها أحد وقتها؛ فقد كان الإجماع العلمي في تلك اللحظات يرى هذا
الطريق مسدودًا، لا يوجد هنا ما يستحق الاستكشاف، ولا يبدو أن أمامنا طريقة جديدة
وسريعة لتطوير اللقاحات، طرقنا المعتادة تؤدي الغرض.
حاول
الباحثان نشر ورقتهما البحثية في دوريتي "نيتشر" و"ساينس"، وهما
اثنتان من أهم الدوريات العلمية على الإطلاق، من حيث التأثير والانتشار، ولم تُقبل
الورقة للنشر، فلجآ في النهاية إلى دورية متوسطة الشهرة، محدودة المقروئية، نشرا
فيها نتائجهما.
التمسك
بالحلم
بعد
نشر الورقة البحثية بعدة سنوات، وعناء طويل في البحث عن تمويل، قررت جامعة
بنسلفانيا فصل "كاريكو"، أو "إجبارها على الاستقالة" وفق تعبيرها،
على ما يبدو لأن أبحاثها لم تحقق أيًّا من معايير الجامعة في الإبقاء على
الأساتذة، لذا قررت "كاريكو" نقل حياتها إلى ألمانيا، وهناك انضمت في
عام ٢٠١٣ إلى شركة ناشئة غير معروفة اسمها "بيونتيك" BioNTech، التي كانت هي الأخرى
تبحث عن طريقة لاستكشاف المساحات الدوائية التي يمكن للحمض النووي الريبي المرسال
أن يقدمها.
هذه هي
الشركة نفسها التي ستبدأ شراكة، بعد سبع سنوات تقريبًا، مع عملاق الأدوية "فايزر"
Phizer،
عند اندلاع جائحة "كوفيد-19" لتصنيع لقاحٍ ضد فيروس كورونا، اعتمادًا
على تقنية الحمض النووي الريبي المرسال، الذي يحمل تعليمات بتصنيع الأشواك
البروتينية الشهيرة الموجودة على سطح الفيروس.
وبالتالي،
فعندما يتلقى الإنسان اللقاح، تبدأ خلاياه بإنتاج كميات من هذا البروتين، ما يستحث
بدوره الاستجابة المناعية المطلوبة، ويجعل الجسم في حالة استعداد لمواجهة الفيروس
حال الإصابة به، لكن ذلك كله من المستقبل، ما زلنا الآن في بدايات العقد الأول من
الألفية، حيث الاستخدامات الدوائية في هذه المساحة محدودةٌ للغاية.
تطوير اللقاح
قبل
اندلاع جائحة "كوفيد-١٩"، حاولت عدة شركات -وإن كان ذلك على نطاق ضيق- تطوير
لقاح يعمل بتقنية الحمض النووي الريبي المرسال، لمواجهة فيروسات مثل "زيكا"،
و"ميرس-كوف"، الذي يشبه في تركيبه فيروس "سارس-كوف-٢"، لكن
ذلك لم يُكلل بالنجاح، ولم يحصل أيٌّ منها على تصريح بالاستخدام.
لكن
التقنية كانت موجودةً بالفعل، لم نكن نعرف أننا سنستخدمها على هذا النطاق، وهو
ما يفسّر لنا السرعة الكبيرة التي استطعنا بها الخروج بلقاح بعد اندلاع
الجائحة، والتي كانت –للمفارقة- مساحةً خصبة للخروج بنظريات مؤامرة واسعة النطاق
عن اللقاحات.
فبعد
نشر الشفرة الجينية للفيروس وبروتينه الشوكي في عام ٢٠٢٠، أصبح بإمكان شركات
عملاقة -مثل "فايزر" و"موديرنا"- استخدام تقنية الحمض النووي
الريبي المرسال تلك في تطوير اللقاح بسرعة نسبية، ومن ثم الدخول بسرعة إلى مرحلة
التجارب الإكلينيكية لإثبات فاعليته وإمكانية استخدامه بسلامة، ومن ثم البدء في
طرح التطعيمات، وحماية الناس بجرعات منها في بداية عام ٢٠٢١، لم يكن لأيٍّ من هذا
أن يحدث بهذه السرعة والكفاءة لولا توافر الأداة المناسبة في أيدينا سلفًا، وهو
مشهد معتاد بالمناسبة في تاريخ العلم، نملك الآلة أو التقنية، ثم نعرف ما الذي
يمكننا أن نفعله بها.
إنقاذ ملايين
البشر
الفكرة
المثيرة للتأمل كذلك أن الطرق التقليدية التي نُصنّع بها اللقاحات كانت ستكلفنا
الكثير من الوقت، والأرواح بطبيعة الحال؛ فالأمر يستغرق عدة سنوات لتصنيع اللقاحات
بالطرق التي كنا نعرفها قبل ظهور لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال، ويتطلب
الأمر استخدام أشكال موُهنة أو ميتة من الفيروسات، وهو ما يتطلب أن نتمكن من
استنبات كميات كبيرة من الفيروسات في المختبر، قبل أن نتمكن في النهاية من إجراء
تجارب سلامة على اللقاح الناتج، ثم استخدامه على نطاق واسع.
أنقذت
لقاحات كورونا المعتمدة على الحمض النووي الريبي المرسال ملايين البشر، ورغم أن
نظريات المؤامرة لا تزال تشكك في نتائجه تلك بطرق مختلفة، إلا أن الحقيقة أمامنا
هي أن اللقاحات أثبتت -لمرة جديدة- نجاحها الواضح، سواء على مستوى الأفراد، من حيث
تخفيف أعراض الإصابة وشدتها، وبالتالي حمايتهم من الآثار طويلة الأمد للمرض، أو
الموت، أو على مستوى المجتمعات، من حيث حماية الأشخاص الأكثر تعرضًا للمضاعفات،
مثل كبار السن وذوي الأمراض المناعية.
لولا
هذه التقنية لأصبح الأمر أسوأ بكثير، كل الأرقام والتقديرات تقول لنا ذلك.
تواصل معنا: