نظرة جديدة على تأثير موجات الحر البحرية على الأسماك
نشرت بتاريخ 10 أكتوبر 2023
دراسة لبيانات
مجموعات الأسماك البحرية في أوروبا وأمريكا الشمالية تفجر مفاجأة، من شأنها أن تغير
منهجيات تناولنا للتبعات الإيكولوجية لموجات الحر
البحرية، الآخذة معدلاتها في التنامي.
مارك آر. باين
سبق أن نوّه
عالم الأحياء البريطاني توماس هاكسلي إلى أن مأساة العلوم تكمن في أن الحقائق
المُرة قد تطعن وتصيب في مقتل الفرضيات المنمقة.1 غير أن هذه الحقائق المزعجة لا
غنى عنها لتقدم المعارف، وهي تدفعنا دفعًا إلى إعادة النظر والتفكير في المسلمات. وسيرًا
على هذا المبدأ، في مقال بحثي نُشر مؤخرًا في دورية Nature، تورد الباحثة أليكسا فريدستون وفريقها
البحثي2 نتائج بحثية قد تغير منظورنا لآليات تأثير موجات الحر البحرية وفترات الاحترار
الخارقة للعادة في مجتمعات الأسماك بالمحيطات3. فخلافًا لتوقعات الفريق البحثي وما
دلت عليه أبحاث قائمة، لم يتمكن الفريق من رصد أي أثر إيكولوجي لهذه الأحداث
المناخية خلال أرصاده. وغياب هذا الأثر بما يمثله من مفاجأة من شأنه أن يقلب رأسًا
على عقب مفاهيمنا عن آليات تأثير موجات الحر في النظم الإيكولوجية البحرية ويثير
كثيرًا من التساؤلات.
يُذكر أنه في
الوقت الذي تملك فيه غالبية الأشخاص فكرة عن ماهية التأثير البري لموجات الحر، لا
يتطرق كثيرون إلى التفكير في أثر هذه الأحداث المناخية على المحيطات، وهي على غرار
نظائرها من موجات الحر على البر، تتمثل في فترات منفصلة من نوبات الحر الشديد3.
وتعرفها فريدستون وفريقها البحثي بأنها فترات من خمسة أيام فأكثر ترتفع فيها درجات
الحرارة لتصل إلى مستويات من بين أعلى 5% لها على مدار التاريخ.
وفيما يخص كائنات
المحيطات، يمكن لموجات الحر البحرية أن تسبب اضطرابات، تضاهيها على البر الأعاصير
أو الزلازل أو الفيضانات. على سبيل المثال، شهدت الفترة بين عامي 2014 و2016، موجات
حر بحرية شهيرة ُتُعرف باسم موجات "الفقاعة" The
Blob،
صاحبها ارتفاع شديد في درجات الحرارة على امتداد الكثير من مناطق شمال شرق المحيط
الهادئ، وتسببت في نزوح أنواع إلى نطاقات تبعد مئات بل آلاف الكيلومترات عن
موائلها الطبيعية، فضلًا عن تفشي وازدهار أعداد أنواع من الطحالب الضارة، ووقوع أحداث
نفوق لأعداد هائلة من الطيور البحرية، وعجز العديد من الثدييات البحرية عن التكاثر4.
وفي بقاع أخرى، أدت موجات الحر البحرية إلى نفوق طحالب الشعاب المرجانية (وهو ما أسفر
عن ما يُسمى بابيضاض الشعاب المرجانية)5، ومعها غابات أعشاب بحرية مائية6. كذلك
وُثقت آثار اجتماعية واقتصادية سلبية للعديد من موجات الحر البحرية7.
وبالأخذ في الاعتبار،
القائمة الممتدة والمتنامية لتبعات موجات الحر البحرية، ربما يصبح من البديهي أن نفترض
أن هذه الموجات هي أحد أهم محركات التغييرات التي تطرأ على الأنظمة الإيكولوجية
البحرية. وقد سعت فريدستون وفريقها البحثي إلى التحقق بصورة منهجية من صحة هذه
الفرضية، من خلال تحليل نتائج مجمعة لمسوح علمية رامية إلى رصد مجتمعات أسماك
القاع البحرية التي تسكن أعماقًا سحيقة من المحيطات في أرجاء شتى من أوروبا
وأمريكا الشمالية. وتحقيقًا لتلك الغاية، عمد الفريق البحثي واضع الدراسة إلى مقارنة
الكتلة الحيوية ووفرة الأنواع وتنوعها الحيوي في فترات موجات الحر، بها في غياب
هذه الموجات كل عام، سعيًا إلى الوقوف على أثر مشترك عبر النظم الإيكولوجية نتيجة
لهذه الأحداث المناخية في جميع الأعوام. بيد أن الفريق البحثي لم يرصد أثرًا يتكرر
بانتظام بين موجات الحر في أي من فحوص البيانات التي أجراها (انظر الشكل 1)، ما
جاء مثيرًا للدهشة.
وللوصول إلى
السياق الذي أسفر عن هذه النتائج، أجرى الفريق البحثي تحليلًا للقوة
الإحصائية" لعينات الدراسة، وهو ما مكنه من تقييم مدى أرجحية اكتشاف تأثير
موجات الحر، إن وجد بالأساس، بالاعتماد على مجموعات بيانات الدراسة والمنهجيات
المتاحة. وبحسب تقديرات الفريق البحثي، كانت البيانات التي توفرت لديه كافية لرصد
تأثيرات موجات الحر البحرية على الكتلة الحيوية للنظم الإيكولوجية إن جاوز حجم
التغيير الذي يطرأ على الكتلة الحيوية نسبة ما بين 8 و9% فأكثر. ومن هنا، أشارت
نتائج الفريق البحثي ضمنًا إلى أن أثر موجات الحر البحرية ضئيل نسبيًا، ويقل بلا
شك عن إجمالي حجم التغيير الذي يطرأ على الكتلة الحيوية في الظروف الطبيعية، كما
يقل عن متوسط حجم التغيير الذي ينشأ باختلاف عينات الدراسة.
تجدر هنا
الإشارة إلى أنه بتأمل نتائج الفريق البحثي بمعزل عن غيرها من الدراسات، يرجح أن
ننقاد إلى الاعتقاد في نهاية المطاف بأن الورقة تنفي أهمية موجات الحر البحرية
كظاهرة إيكولوجية. غير أنه اعتقاد يجانب الصواب. إذ إن الدراسة لا تدحض أو تنفي نتائج
مئات الدراسات التي وثقت الآثار الإيكولوجية لهذه الموجات. فكيف يمكن التوفيق بين
نتائج الدراسة ونتائج كل ما نُشر تقريبًا في هذا الإطار.
الدراسات السابقة حول آثار موجات الحر البحرية
سلطت الضوء بالدرجة الأولى على التبعات الأبرز لهذه الموجات. فالكائنات التي تظهر فجأة
على مبعدة آلاف الكيلومترات من موائلها الطبيعية، وأحداث نفوق أعداد هائلة من
الأسماك والطيور البحرية لافتة، وتسترعي اهتمامًا كبيرًا من العلماء والرأي العام.
من ثم، قد تنحاز الأبحاث العلمية إلى دراسة موجات حر شديدة بعينها، لا تعبر عن آليات
أعم. بيد أن دراسة فريدستون وفريقها البحثي تتحايل على هذه المشكلة بتقصي
التأثيرات التي تدل عليها مجموعة بيانات إيكولوجية تشتمل على العديد من موجات
الحر. ومن هنا، تتكون لدى الفريق البحثي زاوية منظورة جديدة.
من جانب آخر، قد
توجه انتقادات للدراسة تتهمها بأنها تنتهج تعميمًا فضفاضًا. على سبيل المثال، قد
لا يصح الافتراض الذي تتبناه الدراسة بوجود آثار مشتركة لموجات الحر بين شتى النظم
الإيكولوجية (وهو بلا شك افتراض لا تدعمه الأدلة المتاحة). فالآلية التي يتأثر بها
نظام إيكولوجي معين بموجات الحر تكون انعكاسًا لمجموعات الأنواع القائمة التي
يتميز بها هذا النظام الإيكولوجي ولقدرتها على تحمل درجات الحرارة الشديدة.
والأنظمة الإيكولوجية التي تشمل أنواعًا مختلفة قد تختلف استجاباتها للظروف
المناخية التي تصاحب موجة الحر ذاتها.
وقد عمد فريق
الدراسة إلى فحص البيانات لاكتشاف تأثيرات موجات الحر على مستوى كل نظام إيكولوجي
مفرد (وبذلك خفف من صرامة معاييره التي تفترض وجود تأثير مشترك لهذه الأحداث
المناخية عبر النظم الإيكولوجية المختلفة)، إلا أنه لم يكتشف أية تأثيرات ذات
دلالة إحصائية. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن كم البيانات المتاحة لفحصها هنا يُعد
ضئيلًا إلى حد كبير إذا ما قورن به في الدراسات التي تناولت العديد من النظم
الإيكولوجية. من ثم، كانت القوة الإحصائية لهذا التحليل أضعف، فالمؤشرات القوية
على وجود تأثيرات إيكولوجية قد تخفيها "ضوضاء البيانات" أو التشويش الكبير
الذي يشوب بيانات النظم الإيكولوجية المفردة ويعترض بالتبعية تفسيرها.
بالإضافة إلى
ذلك، اقتصر تركيز هذا العمل البحثي على الأنواع السمكية التي رصدت عند الجروف
القارية أو بالقرب من قيعانها (في مواقع تقع بالقرب من البر ويقل عمقها عن 500
متر)، في حين أن تأثيرات الموجات البحرية أُفيد بأنها طالت العديد من أنواع
الكائنات الأخرى، مثل الشعاب المرجانية، وغابات الأعشاب البحرية، والأسماك التي تستوطن
الطبقات السطحية من مياه البحر المفتوح، والثدييات البحرية، والطيور البحرية، وبعض
الأنواع التي تستوطن قيعان البحار (الكائنات القاعية)6. ودرجة تأثر كل مجموعة من
هذه الأنواع بموجات الحر البحرية قد تختلف عنها بين الأسماك التي تستوطن قيعان
البحار، ليتجلى تبايُن في قدرات هذه الأنواع على احتمال الحرارة الشديدة (وربما
التأقلم أيضًا مع هذه الحرارة).
إن دراسة
فريدستون وفريقها البحثي تُغير مفهومنا عن تأثير موجات الحر البحرية على النظم
الإيكولوجية البحرية. فرغم أن موجات الحر البحرية تخلِّف بلا شك تأثيرًا قويًا في بعض
الحالات المفردة، لم يجد الفريق البحثي ما يدل على أثر مطرد كبير لها على مستوى
المجتمعات السمكية التي تستوطن مياه الأعماق. وثمة حاجة إلى إجراء بحوث مستقبلًا
للتصدي لدراسة العمليات التي تقف وراء التأثيرات القوية التي تطال بعض الأنواع دون
غيرها، لا سيما بالأخذ في الحسبان تزايُد تواتر وشيوع موجات الحر البحرية في ظل
التغير المناخي8. فكما هو الحال دائمًا في العلوم، سقوط فرضية يثير معه العديد والمزيد
من الأسئلة التي تحتاج إلى التفتيش عن إجابة لها.
تواصل معنا: