زمن الأتوثانية: نوبل في الفيزياء تذهب إلى رواد رصد الإلكترونات
نشرت بتاريخ 3 أكتوبر 2023
تقنيات التصوير بـ"الأتوثانية".. خطوة على طريق طويلة بدأها العالِم المصري الدكتور أحمد زويل
أحمد جمال سعد الدين
في كتابه "الأبطال وعبادة البطل"، الصادر عام 1840، وصف المؤرخ والفيلسوف الإسكتلندي "توماس كارلايل" فكرة الزمن بأنها "معجزة تدوم للأبد، تجعلنا فاقدي النطق؛ لأننا لا نمتلك كلمات تعبّر عنها". تغيّر الحال كثيرًا منذ ذلك الوقت، وامتلكنا كثيرًا من الكلمات، ورغم ذلك لا يزال عجزنا عن التعبير قائمًا، وربما جعلتنا زيادة الكلمات هذه أكثر ترددًا في التعبير عمّا نراه.دعونا ننطلق من البداية؛ إذ تتكوّن المواد من جسيمات صغيرة اسمها الجزيئات، والجزيئات بدورها تجميع لجسيمات أصغر اسمها الذرات، تتكوّن هي الأخرى من جسيمات أصغر، منها الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات. في عالم الذرات متناهي الصِّغر، تحدث تغيّرات مثل حركة الإلكترونات، في فترة زمنية تساوي بضعة أعشار من الأتوثانية، أما الأتوثانية فهي شديدة القِصر، لدرجة أن ما تضمه الثانية الواحدة من أتوثوانٍ يساوي ما يضمه تاريخ العالم كله من ثوانٍ.
نبضات من الضوء
تجارب الحاصلين على نوبل لهذا العام في الفيزياء اعتمدت على إصدار نبضات من الضوء شديدة القِصر لدرجة أنها تقاس بـ"الأتوثانية"، وإثبات أن بإمكاننا استخدام هذه النبضات لتصوير العمليات التي تحدث على مستوى الإلكترونات.الفائزون ثلاثة هم: "بيير أجوستيني" من جامعة ولاية أوهايو في الولايات المتحدة الأمريكية، و"فيرينس كراوس" من معهد ماكس بلانك للبصريات الكميّة، و"آن لويلييه" من جامعة لوند السويدية.فالكون كله في حالة حركة لا تنتهي، ولكل شيء يتحرك سرعة، وينطبق هذا على البشر والقطط والكواكب والمجرّات والأجرام السماوية الهائلة، مثلما ينطبق على العالم الذري متناهي الصغر، وتصل سرعة الإلكترونات مثلًا إلى 70 كيلومترًا في الثانية الواحدة.
ولفترة طويلة من تاريخ العلم، كان من المستحيل دراسة هذا العالم -أو حتى أن نحلم بفعل ذلك- بسبب هذا الأمر؛ إذ كيف ندرس ما لا نقدر على رصد حركته، وهنا تأتي دلالة اكتشافات هذا العام، التي تُوج أصحابها الثلاثة بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2023.باختصار، أسهَم العلماء الثلاثة -كُلٌّ في مساحته- في تطوير تقنيات تجريبية جديدة، سمحت لنا باستخدام نبضات ضوء صغيرة، بل متناهية الصغر، تتيح لنا التقاط حركة الإلكترون في أثناء حركته، لا في وقت لاحق على ذلك.
رصد مرور الزمن
سنة. شهر. أسبوع. يوم. ساعة. ثانية. كلها أدواتنا التي نرصد بها مرور الزمن في العالم من حولنا، ولفهم سرعة حركتنا مثلًا، نفكّر أننا نقطع 50 كيلومترًا في الساعة الواحدة، ويعطينا هذا تصورًا عامًّا عن طبيعة ما نفعله، وينطبق ذلك بالضبط على العالم الذري، وإن كانت الأشياء تتحرّك بسرعة أكبر بطبيعة الحال.
لفترة طويلة من حياته، كان العالِم الفيزيائي الألماني "فيرنر هيزنبرج" -الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1932، وأحد أهم الأسماء المؤسسة لعالم ميكانيكا الكم- يرى استحالة قدرتنا على رصد الإلكترونات في أثناء حركتها حول النواة.
رأى "هيزنبرج" أن ذلك "غير قابل للرصد"، وفق تعبيره الشهير، وبطبيعة الحال كان ذلك صحيحًا، فالإلكترونات لا تدور حول النواة بالطريقة نفسها التي نتحرك بها نحن في هذا العالم، والاكتشافات التي نملكها الآن في أيدينا تتيح لنا استكشاف المزيد حول الطريقة التي تتصرّف بها الإلكترونات.
مستوى الذرات
الأمر يشبه مشاهدة فيلم على شاشة السينما مثلًا، هذا الفيلم الذي نراه أمامنا منسابًا، يتحرك بسلاسة من لحظة إلى أخرى، ليس كذلك في الحقيقة، فما نراه أمامنا هو وهم تخلقه أعيننا، بفضل تقنية تصوير أتاحت لنا تحريك عددٍ من الصور المتتالية أمام العين بسرعة معينة، لدرجة نظن معها أن يحدث هو حركة، لا صورة تلو الأخرى.ماذا لو أبطأنا السرعة التي يُعرض بها الفيلم، عندها سيكون بإمكاننا رؤية الفيلم لا بوصفه حركة، بل باعتباره صورًا منفصلة، هذا هو بالضبط ما فعله العلماء الثلاثة.يشبه هذا بالمناسبة ما حدث في أواخر القرن التاسع عشر، على مستوى أكثر بدائية، ولكنه متشابه إلى درجة تثير التأمل، في تلك الفترة ظهر سؤال حيّر عددًا معتبرًا من العلماء، منهم أسماء جادة بالمناسبة: هل يرفع الحصان قوائمه الأربع عن الأرض في أثناء ركضه؟ ساعدنا اكتشاف الكاميرا على حل هذا السؤال، فبتصوير الحصان، أمكننا إثبات أن هذا الكائن بالفعل في أثناء حركته على الأرض، وفي لحظة يرفع قوائمه الأربع، ما يحدث الآن يشابه ذلك، على مستوى الذرات.
لفهم الطريقة التي يتحرك بها الإلكترون وسرعته، استخدم العلماء نبضات ضوء تدوم لـ"أتوثانية"، وسلّطوها على الإلكترون، والأتوثانية هي واحد من كونتليون من الثانية، والكونتليون يماثل واحدًا أمامه 18 صفرًا. البيان الصادر عن الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم يشبِّه الأمر بالتالي: عدد الأتوثواني التي توجد في الثانية الواحدة يساوي عدد كل الثواني التي مرّت على الكون منذ لحظة نشوئه قبل 13 مليار سنة مضت، والثانية الواحدة هي ما يستغرقه الأمر لإكمال نبضة قلب تقريبًا.
تجاوز عتبة الفيمتو ثانية
إن توليد ذلك الضوء بنبضات متناهية القصر كتلك لم يكن أمرًا سهلًا على الإطلاق؛ فلفترة طويلة من الزمن، بمقاييسنا نحن بطبيعة الحال، لم يستطع العلماء تجاوز عتبة الفيمتوثانية، وهي التقنية التي استطاع العالِم المصري الراحل أحمد زويل -من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا- طرحها للعالم، ولفهم ذلك، لنقُل ببساطة إن الفيمتوثانية يساوي ألف أتوثانية، لقد طوّر "زويل" آليةً تُطلق نبضات من الليزر تستمر عدة فيمتوثوانٍ، وهي التي أهّلته هو ذاته للفوز بجائزة نوبل لعام 1999.
أتاح اكتشاف تقنية "الفيمتوثانية" لنا رؤية الطريقة التي تحدث بها الكيمياء للمرة الأولى في تاريخ البشر؛ إذ ساعدنا على أن نفهم التفاعلات الكيميائية التي كنا نظن أن سرعتها غير قابلة للرصد على الإطلاق، لكن سرعة الفيمتو ثانية لم تكن كافيةً قَطُّ لفهم ما يحدث في عالم الإلكترونات الأصغر، وجاء اكتشاف العلماء الثلاثة ليصل بها إلى هذه النقطة.
إنجازات لا تنتهي
في عام 1987، اكتشفت "آن لويلييه" أن تمرير ليزر أشعة تحت حمراء خلال غاز خامل -مثل الأرجون- أدى إلى إطلاق نمط معين من الأشعة، وجاء "أجوستيني" ليكمل هذا العمل في العقد الأول من الألفية الثانية، بابتكاره عدة نبضات ضوئية لا يزيد طولها عن 250 أتوثانية، أما "كراوس" الذي كان يعمل بشكل منفصل عن العالِمَين السابقين، فقد توصل إلى إنتاج نبضات طولها 650 أتوثانية.لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ إن إسهامات العلماء الثلاثة أتاحت للباحثين بعد ذلك إجراء عدة تعديلات على الأدوات التي يستخدمونها، لتصنيع آلات قادرة على إطلاق نبضات ضوء طولها أقل فأقل.
سمح لنا هذا الاكتشاف -أو الاكتشافات في واقع الأمر- بأن نسعى للإجابة عن مجموعة من الأسئلة المهمة التي واجهت العلوم لفترات طويلة، دون أن نحلم حتى بمحاولة اكتشافها، مثل الإطار الزمني الذي تحدث فيه ظاهرة الكهربية الضوئية، حين تنطلق عدة إلكترونات من مادةٍ ما عقب تصويب الضوء عليها، وبالمناسبة، فاز "ألبرت أينشتاين" بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 1921 بفضل اكتشافه لهذه الظاهرة، التي تمكنّا بعد ذلك بسنين من التعرّف عليها عن قرب.
مجالات متنوعة
تفتح هذه التقنية أمامنا أبوابًا واسعة في مجالات مثل تصميم الدوائر الكهربية المتقدمة، وتصميم الأدوية مثلًا بدرجة دقة أعلى وفاعلية أكبر، إضافةً إلى ما أدخلته من تقنيات على عالم صناعة البطاريات، والطاقة بشكل عام، بل يمكن للأمر أن يمتد إلى عالم الطب أيضًا، وتحديدًا إلى الفحوصات الطبية، فبدقةٍ كهذه سيكون بإمكاننا إطلاق نبضات ضوئية شديدة القِصَر لتحفيز الجزيئات في عينات الدم مثلًا، ومن ثم دراسة الأشعة تحت الحمراء التي تطلقها هذه الجسيمات، ورؤية التغيّرات متناهية الصغر التي تحدث في الدم، وفق "ماتس لارسون"، عضو الأكاديمية الملكية للعلوم، وبالتالي الوصول إلى تشخيص أسرع لأمراض في مراحل مبكرة جدًّا، ما سيعطي المرضى وقتًا ثمينًا في معالجة أمراضهم.
تلقّت "لويلييه" عدة مكالمات هاتفية في أثناء وجودها في قاعة المحاضرات؛ حيث كانت تُعطي محاضرة يومية روتينية، ولذلك لم ترد على أيٍّ من هذه الاتصالات.
القادم أكثر غرابة
في فترة استراحة خرجت إلى بهو الجامعة لتتلقى هذا الاتصال، الذي جاء من السويد ليخبرها بأنها الفائزة بالجائزة لهذا العام، عادت بعدها إلى قاعة المحاضرات لتستكمل المحاضرة، ودون أن تخبر أيًّا من طلابها، أكملت محاضرتها لمدة تزيد على نصف الساعة بصورة عادية. لا نعرف بالضبط ما الخطوة القادمة، لكن تتبُّع الخطوات السابقة، وفهمها في سياقها الأوسع، يخبرنا بأن الآتي سيكون أغرب فأغرب، وأن كل خطوة جديدة تخبرنا بالمزيد عن مفاهيم وأفكار لم نكن نجرؤ على الاقتراب منها إلا من ناحية فلسفية، وكأفكار لا تتجاوز التأملات في الفراغ، الآن تكتسي تأملاتنا بما نعرفه، مثلما كانت تأملات مَن سبقونا، ونعرف أكثر عن هذا العالم الذي رأوه وفهموه ووصفوه على قدر ما أتاحت لهم أدواتهم. فلتفكّر في ذلك يا مَن سترى ما رأيناه وفهمناه ووصفناه، على قدر ما أتاحت لنا أدواتنا.
تواصل معنا: