تنجم نوبات الصرع عن فرط الشُّحنات الكهربائية التي تُطلقها مجموعة من خلايا الدماغ على نحوٍ مفاجئ لا يمكن السيطرة عليه
محمد السيد علي
الصرع
اضطراب عصبي خطير يؤثر على 65 مليون شخص على مستوى العالم، وتتفاوت أعراض النوبات تفاوتًا
كبيرًا، بين التشويش المؤقت، والتحديق في الفراغ، وتيبُّس العضلات، وارتجافات
متكررة في الذراعين والساقين، وقد تصل إلى فقدان الوعي أو الإدراك.
ورغم
شيوع الصرع، يظل فهم الآليات الفسيولوجية التي تحدد إيقاع حدوث نوباته سؤالًا يحتاج
إلى إجابة.
وكشفت دراسة حديثة نشرتها دورية
"بلوس كمبيوتيشينال بيولوجي" (PLOS Computational
Biology) أن أنماط النوم وهرمونات التوتر يمكن أن تكون مفتاحًا لفهم كيف ومتى يُحتمل
أن يعاني الأشخاص المصابون بالصرع من النوبات.
تقول إيزابيلا ماريني، الباحثة
بمركز نمذجة النظم والطب الحيوي الكمي بجامعة برمنجهام البريطانية، وقائد فريق
البحث: "أفاد العديد من المصابين بالصرع بأن بعض المواقف أو المحفزات المحددة
يمكن أن تؤدي إلى حدوث النوبات، وكان الإجهاد والمواقف العصيبة، واضطراب النوم أو
الحرمان من النوم هي المسببات الأكثر شيوعًا".
وأضافت
في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": وجدنا أدلةً تدعم هذه الملحوظات التي
أبلغ عنها المرضى؛ إذ تبين أن أنماط النوم والتغيرات في تركيز هرمون التوتر
"الكورتيزول" هي الدوافع الفسيولوجية الكامنة وراء الإيقاعات الرئيسية
لنوبات الصرع".
ويعيش
أكثر من مليوني شخص مصاب بالصرع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفق دراسة نُشرت في
2020، في حين تشير تقديرات أخرى إلى ارتفاع العدد إلى 350 مليون نسمة.
عوامل
فسيولوجية
تنجم
نوبات الصرع -عادةً- عن فرط الشُّحنات الكهربائية التي تُطلقها مجموعة من خلايا
الدماغ، وهي شحنات قد تنطلق من أجزاء مختلفة من الدماغ على نحوٍ مفاجئ لا يمكن
السيطرة عليه.
ويمكن
أن تُحدث تلك الشُّحنات الكهربائية تغيُّرًا في وظائف المخ، ما يسبب نوبات من
السلوك والأحاسيس غير العادية، وفقدان الوعي في بعض الأحيان.
تقليديًّا،
يُفترض أن تحدث نوبات الصرع على نحوٍ عشوائي في صورة نوبات متكررة وعفوية، لكن أبحاثًا
حديثة كشفت أن النوبات يُمكن أن تحدث على فترات تتراوح بين ساعات وأيام إلى أشهر.
فسيولوجيًّا،
يتعرف العديد من المصابين بالصرع على مسببات نوباتهم الأكثر شيوعًا، والتي تشمل
التوتر والحرمان من النوم والإرهاق.
ولتحديد
تأثير تلك العوامل الفسيولوجية في حدوث نوبات الصرع، حلل الباحثون تسجيلات مخطط كهربية الدماغ (EEG) على مدار 24 ساعة لـ107
مصابين بالصرع.
ومخطط
كهربية الدماغ هو أحد الاختبارات الرئيسية لتشخيص الصرع، ويُسجِّلُ النشاط
الكهربائي للدماغ باستخدام أقطاب كهربائية متصلة بفروة الرأس، واكتشف الباحثون
مجموعتين فرعيتين لهما توزيعات متميزة لنوبات الصرع: إحداهما ذات أعلى نسبة حدوث في
أثناء النوم، والأخرى في أثناء النهار.
ووجدوا
أن النوم يمثل 90% من التبايُن بالمجموعة الأولى، في حين يمثل
"الكورتيزول" حوالي 60% بالمجموعة الأخرى، كما وجدوا أن فرط النشاط
الكهربائي المسبب لنوبات الصرع يتكرر في أثناء الليل، وفي الصباح الباكر، وفي
المواقف العصيبة لدى العديد من الأشخاص المصابين بالصرع.
النمذجة
الرياضية
استخدم
الباحثون النمذجة الرياضية لفهم تأثير العمليات الفسيولوجية المختلفة على حدوث
نوبات الصرع، بهدف رصد التحولات في نشاط الموجات المسببة للصرع بشبكات الدماغ.
ويحلل
النموذج الرياضي للباحثين نشاط مناطق الدماغ المتصلة، وكيف يمكن أن تتغير استثارة
هذه المناطق استجابةً لمحفزات مختلفة، إما بالتحولات بين مراحل النوم أو الاختلاف
في تركيز "الكورتيزول".
تقول
"ماريني": طورنا نموذجًا رياضيًّا مكَّننا من الجمع بين البيانات من
الدراسات السريرية المختلفة، واستخدمنا النموذج لاستكشاف العوامل التي يبدو أنها
مسؤولة عن التغيرات غير الطبيعية في نشاط الدماغ المرتبط بالنوبات التي تحدث على
مدار اليوم.
وأضافت:
تمكنَّا من تحديد عاملين رئيسيين يفسران هذا الاختلاف؛ إذ وجدنا مجموعةً كان النوم
(وخاصةً مراحل النوم المختلفة) عاملًا مهيمنًا في أنماطها، في حين كانت مجموعة
أخرى مدفوعةً بالهرمونات المرتبطة بالتوتر.
وتتابع:
يمكن تفسير ذلك من خلال حقيقة أن النوم العميق، المرتبط بزيادة حدوث فرط النشاط
الكهربائي بالدماغ، هو السائد خلال الثلث الأول من فترة النوم، لقد وجدنا زيادةً في
هذا النشاط قبل الاستيقاظ، وهو ما يشير إلى وجود تأثير مشترك للنوم والكورتيزول،
بالنظر إلى أن مستوى الكورتيزول من المعروف أنه يرتفع عند الاستيقاظ.
محاولة
للفهم
"رصدت
الدراسة العلاقة بين نوبات الصرع والتغيرات في أنماط النوم وتركيز
"الكورتيزول"، وهذه قد تكون خطوة جيدة يمكن البناء عليها لفهم آليات
حدوث نوبات الصرع"، وفق شريف الخميسي، أستاذ الطب الجيني، ورئيس قسم الأبحاث
بجامعة شيفيلد في المملكة المتحدة.
وأضاف
لـ"نيتشر ميدل إيست": أكد الباحثون بالدليل مجموعةً من الأعراض المُسببة
للصرع التي رُصدت من بعض المرضى عبر الملاحظة، لكن في الوقت ذاته، لم تحدد الدراسة
بعدُ سبب هذه العلاقة، وهذا يحتاج بطبيعة الحال إلى مزيد من الأبحاث، كما نحتاج
أيضًا إلى تطوير نماذج للتنبؤ بتوقيت حدوث النوبات وعدد مرات حدوثه لدى المرضى
الذين يعانون من تغيرات في أنماط النوم وتركيز "الكورتيزول".
من
جهتها، ترى سارة الفراش -أستاذ الفسيولوجيا الطبية المساعد بكلية الطب بجامعة المنصورة
المصرية- أن نتائج الدراسة مبشرة للغاية بوصفها محاولة لفهم العوامل المسببة للصرع
والنوبات، وتفتح الباب أمام مزيد من النقاط البحثية التي يمكن تنفيذها على نطاق
أوسع في النماذج الحيوانية التجريبية لتسريع فهمنا للفيسيولوجيا المرضية للصرع،
وتوفير خطة وعلاج أفضل في المستقبل القريب.
وتعلق "ماريني":
تمهد نتائج الدراسة لإمكانية التنبؤ بنوبات الصرع؛ لأن النموذج الرياضي الذي
طورناه يستخدم تسجيلات مخطط كهربية الدماغ للبحث عن علامات النوبات، في أي وقت من
اليوم.
وأضافت:
بمجرد تشخيص إصابة شخصٍ ما بالصرع، يُعطى الدواء، ومع ذلك، فإن الدواء في كثير من
الأحيان لا يعمل كما ينبغي، ولا يزال حوالي 1 من كل 3 أشخاص يعاني من النوبات،
وبالنسبة لهؤلاء الأشخاص، فإن توفير إشارة إلى مدى احتمال تعرُّضهم لنوبات في
الساعات القادمة قد يساعدهم على الحياة بشكل أفضل، ومن خلال تزويد نموذجنا
بتسجيلات مخطط كهربية الدماغ الخاصة بالفرد، فإننا نجعل هذه التوقعات أكثر دقة.
تواصل معنا: