إعادة كتابة تاريخ العنف البشري باستخدام بقايا الهياكل العظمية
نشرت بتاريخ 31 أكتوبر 2023
دراسة ترسم تاريخًا غير معروف للعنف في الشرق الأوسط.. وتفحص جماجم بشرية يعود تاريخها إلى 12 ألف عام
محمد منصور
يقول الفيلسوف الإنجليزي "توماس
هوبز": إن العنف فطري في الطبيعة البشرية، واصفًا الوجود بأنه "حرب
الجميع ضد الجميع".
مثل هذه العبارة القاتمة يمكن الجدال
حولها؛ فإذا كان الإنسان العاقل قد عاش على كوكب الأرض لأكثر من 200 ألف سنة،
فماذا يعرف الباحثون عن العنف في عصور ما قبل التاريخ؟
والآن، وفي دراسة أجراها فريق دولي من جامعات "توبنجن" و"برشلونة"
و"وارسو"، استخدم الباحثون 3539 مجموعةً من بقايا الهياكل العظمية من
الشرق الأوسط لإعادة بناء الأنماط المبكرة للعنف البشري.
ووجدت الدراسة أنه على الرغم من أن
العنف واسع النطاق كان متسقًا في تاريخ البشرية، إلا أنه لم يكن متسقًا في حدته، وتوفر
مثل هذه النتائج أدلةً حول الأسباب التي تدفع إلى حدوث أعمال عنف شرسة بين البشر،
وتثير تساؤلات حول بعض الافتراضات المستمرة.
وقد كشفت مجموعة البيانات المستقاة
من تلك الهياكل عن أنماط تتحدى فهمنا للتاريخ المبكر للصراع البشري.
يقول المؤلف المشارك في الدراسة
"جياكومو
بيناتي": إن الأدلة الأثرية تسد فجوةً حرجةً في فهمنا للمجموعات السكانية
المبكرة، خاصةً في المناطق التي تفتقر إلى بيانات مماثلة طويلة المدى وتحليلات
واسعة النطاق، كما أنها تدعو إلى التشكيك في الرواية السائدة التي تصور مجتمعات
الشرق الأوسط على أنها مناطق صراع دائم.
رؤية جديدة للعنف
فحص الباحثون بقايا بشرية من إيران
والعراق والأردن وسوريا ولبنان وفلسطين وتركيا؛ بحثًا عن إصابات عظام لا يمكن أن
تحدث إلا من خلال العنف.
واستخدم الفريق تلك البيانات لإعادة
بناء أنماط العنف البشري في الفترة ما بين 12000 قبل الميلاد إلى 400 قبل الميلاد،
وشهدت تلك الفترة فجر الزراعة والتخلي عن الحياة البدوية وإنشاء أقدم المدن
والولايات.
وفق الدراسة، تزامنت مستويات العنف
في المنطقة مع ظهور المدن الأولى، ومع ظهور الدول البدائية، شهدت المجتمعات زيادةً
في الكثافة السكانية، واتساع فجوة عدم المساواة الاجتماعية، والتنافس على الموارد،
ويشير المؤلفون إلى أن مثل هذه الضغوط أدت إلى صراعات منظمة متكررة.
ويبدو أن أنماط العنف بلغت ذروتها في
العصر النحاسي (حوالي 4500 قبل الميلاد إلى 3300 قبل الميلاد)، كما يتضح من
الجماجم المكسورة والجروح الناجمة عن الأسلحة، ثم تراجعت في أوائل/منتصف العصر
البرونزي (3300 قبل الميلاد إلى 1500 قبل الميلاد)، وفق الباحثين.
ويرى الباحثون أن ظهور الحكومات
المركزية وتطور الأنظمة القانونية أدى دورًا محوريًّا في الحد من الصراعات، وتشير
النتائج أيضًا إلى توسع شبكات التجارة باعتبارها بلسمًا للعنف في المنطقة.
كما يشير الباحثون إلى أن التعاون
الاقتصادي بين المدن والولايات كان من الممكن أن يعزز التفاعلات الثقافية ويمنح
حافزًا اقتصاديًّا للحفاظ على السلام.
ففي أواخر العصر البرونزي إلى العصر
الحديدي (1500 قبل الميلاد إلى 400 قبل الميلاد)، يشير المؤلفون إلى أن العنف
ارتفع مرةً أخرى، ثم بدا أنه يتأرجح بين فترات السلام النسبي والاضطرابات، لماذا
قد يكون هذا غير واضح، على الرغم من أن "بناتي" يشير إلى احتمالات مثل
أزمات المناخ، وعدم الاستقرار الداخلي، والغزوات الأجنبية.
يقول "بناتي": إن فهم مثل
هذه التقلبات يقدم لنا تقديرًا أفضل للدور الذي أداه العنف في التطور التاريخي
لمجتمعات الشرق الأوسط.
فمع ازدياد الكثافة السكانية في
المجتمعات واتساع فجوة التفاوت الاجتماعي، تنامت المنافسة على الموارد والسلطة، وهذا
بدوره كان من الممكن أن يؤدي إلى صراعات متكررة، مما ينتج عنه ارتفاع عدد الضحايا.
ولكن على عكس التوقعات، بدأ العنف في
التراجُع خلال العصر البرونزي المبكر والوسطي، والذي امتد حوالي 3300-1500 قبل
الميلاد، وشهدت هذه الفترة انخفاضًا مطردًا في وتيرة الإصابات المرتبطة بالعنف بين
الأشخاص.
آثار واسعة النطاق
وفي حين ركزت الدراسة على البقايا
التي تم جمعها في الشرق الأوسط، فإن النهج البحثي يمكن تطبيقه في أماكن أخرى.
يقول "بناتي": لا يملك
العصر الحديث سوى إمكانية الوصول إلى مصادر البيانات التقليدية، مثل سجلات القتل
أو سجلات وفيات المعارك، مما يترك فجوات كبيرة غير مستكشفة في تاريخ البشرية، ومثل
هذه الفجوات في البيانات تعوقنا عن تتبُّع اتجاهات العنف بدقة، خاصةً في المجتمعات
الأمية وغير الغربية، مما يؤكد الحاجة إلى أساليب مبتكرة مثل تلك المستخدمة في هذه
الدراسة لتقديم نظرة ثاقبة لأنماط العنف القديمة.
فعلى سبيل المثال، فإنه على الرغم من
أن هذه الدراسة لم تبحث العنف في مصر، إلا أن "بيانتي" أخبر "نيتشر
ميدل إيست" أنه بناءً على النتائج التي توصل إليها الفريق، فإنه يتوقع
مستويات أقل من العنف خلال فترات الحكم الفرعوني الأكثر مركزية.
لكنه أضاف قائلًا: مع ذلك، وخلال
الفترة الانتقالية من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي، ربما زاد العنف بسبب
الأزمات المناخية المعممة، وعدم الاستقرار الداخلي، والغزوات الأجنبية.
يقول بريان كودينج، عالِم الأنثروبولوجيا
من جامعة يوتا، والذي لم يشارك في البحث: إن الدراسة يمكن أن تحمل أيضًا دروسًا
للمجتمعات الحديثة.
يقول "كودينج": إن البحث
يعزز المعرفة بالدوافع التاريخية للصراع، والتي يمكن أن تساعد الآخرين على فهم
الحوافز المستقبلية وراء العنف، إن ضغوطًا مثل تغيُّر المناخ وندرة الموارد تنطبق
اليوم كما كانت منذ زمن بعيد، ومن خلال النظر إلى الماضي، قد يكون الجنس البشري
أكثر استعدادًا للمستقبل.
تواصل معنا: