نظرية الوعي التي أثارت لغطًا بين العلماء.. ووُصفت بالعلم الزائف
نشرت بتاريخ 12 نوفمبر 2023
جماعة من
الباحثين يجهرون بمعارضة نظريةٍ يقولون إنها لا تقوم على سَنَدٍ علمي سليم.. إلا
أن هذا الموقف لا يحظى بالاهتمام الذي يستحق.
ماريانا لنهارو
نُشر خطاب في
الآونة الأخيرة على شبكة الإنترنت، مشفوعًا بتوقيعات 124 باحثًا، وكان له صدًى
واسع في صفوف الباحثين المتخصصين في دراسات الوعي. دعا الخطاب إلى اعتبار نظرية
شهيرة، تصف العنصر الذي إنْ توفَّر في شخصٍ أو شيءٍ أصبح واعيًا، ويُطلَق عليها
«نظرية المعلومات المتكاملة» (IIT)، منافيةً للعلم، أو مما يدخل في باب العلم
الزائف (pseudoscience). ومنذ ظهر الخطاب على موقع المسوَّدات
البحثية «ساي أركايف» PsyArXiv1 في الخامس عشر من سبتمبر الماضي،
ثارت عاصفة من الجدل بين الباحثين حول ما إذا كان من الحق إطلاق هذا الوصف على
النظرية، فيما يخشى آخرون أن يُفضي هذا الجدل المستعر إلى تعميق حالة الاستقطاب في
هذا الحقل العلمي، الذي طالما حامت حوله تساؤلات تتصل بالمصداقية.
أنيل سيث، مدير
مركز علوم الوعي بجامعة ساسكس، الواقعة بالقرب من مدينة برايتون البريطانية، يعترض
على إلصاق هذا الوصف بالنظرية. يقول: "أعتقد أنه من الضار أن تُوسَم نظرية
المعلومات المتكاملة بوسم العلم الزائف". ويوافقه الرأيَ كريستوف كوخ، الباحث
بمعهد آلن لعلوم الدماغ في مدينة سياتل بولاية واشنطن الأمريكية، وهو من دعاة هذه
النظرية ومناصريها، إذ يقول: "نظرية المعلومات المتكاملة نظرية، وكأي نظرية،
بطبيعة الحال، يجوز إثبات خطئها تجريبيًا". غير أنه يستدرك بالقول إن
الافتراضات التي تقوم عليها النظرية جليَّةٌ جلاءً لا لبس فيه؛ ومن ذلك أنَّ للوعي
أساسًا ماديًّا ملموسًا وقابلًا للقياس بالوسائل الرياضية.
هناك العشرات
من النظريات التي تسعى إلى فهم الوعي (ويُقصد به مجموع التجارب التي يمرُّ بها الإنسان
– وغيره من الكائنات – بما في ذلك كلُّ ما يُحس به أو
يراه أو يسمعه)، فضلًا عن محاولة الوقوف على الأسس العصبية التي يقوم عليها الوعي.
وطالما اعتُبرت نظرية المعلومات المتكاملة واحدةً من أهم هذه النظريات، إلى جانب
نظريات أخرى، منها «نظرية مساحة العمل العصبية الشاملة» (GNW)، و«نظرية التفكير الأعلى»، و«نظرية
المعالجة المتكررة». فإذا قصرنا النظر على نظرية المعلومات المتكاملة، سنجد أنها
تطرح فكرةً مفادها أن الوعي إنما ينبثق من طريقة معالجة المعلومات داخل «منظومة»
ما (ولتكن، على سبيل المثال، شبكة من الخلايا العصبية أو الدوائر الحاسوبية)، وأن
المنظومات الأوثق اتصالًا، أو الأكثر تكاملًا، هي التي تتَّسم بمستوياتٍ أعلى من
الوعي.
شكوك متصاعدة
يقول هكوان
لاو، الباحث المتخصص في علم الأعصاب بمركز رايكن لعلوم الدماغ في مدينة واكو
اليابانية، وأحد المشاركين في صياغة الخطاب، إن قسمًا من الباحثين في ميدان دراسات
الوعي ساورتهم الشكوك حول ما يرونه تفاوُتًا بين محدودية الموثوقية العلمية لنظرية
المعلومات المتكاملة من ناحية، وما تحظى به النظرية من اهتمام كبير في وسائل
الإعلام الكبرى، من ناحيةٍ أخرى؛ وهو اهتمام مردُّه إلى الترويج الدائم لهذه
النظرية من قِبل أنصارها. ويتساءل لاو: "هل أصبحت نظرية المعلومات المتكاملة
رائدةً لما حظيَتْ به من قَبول في الدوائر الأكاديمية أولًا، أم أن الضجَّة التي
أثيرت حولها هي ما أرغمت الأكاديميين، بشكلٍ أو آخر، على الاعتراف بها؟"
تصاعدت المشاعر
السلبية حيال هذه النظرية إثر تصدُّرها عناوين الصُّحُف في يونيو الماضي. وكانت
منصَّات إعلامية عدَّة، من بينها دورية Nature، قد تداولت النتائج التي خلُصَت إليها دراسة
"خلافية"، تنتصر لنظرية المعلومات المتكاملة على حساب نظرية مساحة العمل
العصبية الشاملة. التجارب التي أجراها الباحثون2، ومنها الصور الإشعاعية للدماغ، لا تثبت أيًّا
من النظريتين، ومنها ما يدحضهما كلتيهما تمامًا. وعلى ذلك، فقد وجد بعض الباحثين
إشكالًا في أن تُصدَّر نظرية المعلومات المتكاملة بوصفها نظرية رائدة من نظريات
الوعي، ما دفع لاو والمشاركين معه إلى كتابة خطابهم آنف الذكر.
لكن لماذا
تُدرَج نظرية المعلومات المتكاملة في خانة العلم الزائف؟ لا يضع الخطاب تعريفًا
واضحًا للعلم الزائف، إلا أن لاو يقول إن التعريف "الأقرب إلى المنطق"
هو أنه "شيء لا يقوم على أساسٍ علميٍّ متين، غير أنه يرتدي قناعًا يوحي بأنه
مُثبت علميًّا ثبوتًا لا مراء فيه". ونظرية المعلومات المتكاملة، بهذا
المعنى، ينطبق عليها هذا الوصف.
هل هي قابلة
للاختبار؟
يُضاف إلى ذلك
أن الأسس الجوهرية التي تتكئ عليها نظرية المعلومات المتكاملة لا يمكن اختبار
صحتها، حسبما نَقَل لاو عن بعض رفاقه المشاركين في صياغة الخطاب؛ وهو الأمر الذي
يرون أنه يسهم في دمغ النظرية بالعلم الزائف.
لا يتفق مع هذا
الطرح أنيل سيث، غير المحسوب على نظرية المعلومات المتكاملة، ولو أنه سبق له العمل
على أفكارٍ ذات صلة. يقول: "المقولات الأساسية للنظرية أقلُّ قابليةً للاختبار
من نظريات أخرى؛ وما ذلك إلا لأن هذه النظرية أعلى طموحًا من نظيراتها". ومع
ذلك، فإنه يستدرك بالقول إن بعضًا من الأفكار التي تنبثق من هذه النظرية (ومنها،
على سبيل المثال لا الحصر، تلك المتعلقة بالنشاط العصبي المتصل بظاهرة الوعي) هي
أفكار يمكن إخضاعها للاختبار. وقد رصدت دراسة تحليلية، نُشرت في عام 2022، 101
دراسة تجريبية تناولت نظرية المعلومات المتكاملة3.
وثمة مَن
تشاركه الدفاع عن قابلية نظرية المعلومات المتكاملة للاختبار على المستوى العصبي،
هي لياد مودريك، أستاذة علم الأعصاب بجامعة تل أبيب، في إسرائيل، التي شاركت في
قيادة العمل على الدراسة الخلافية التي تمحورت حول المقارنة بين هذه النظرية
ونظرية مساحة العمل العصبية الشاملة. تقول: "لم نضعها موضع الاختبار فحسب، بل
وتمكنَّا من دحض أحد توقعاتها النظرية كذلك. كلُّ ما هنالك أن الكثيرين لا يحبُّون
نظرية المعلومات المتكاملة، ولا بأس في ذلك مطلقًا. لكني لا أستطيع أن أرى بوضوح
الأساس الذي يستندون إليه في إخراج النظرية من عِداد النظريات الرائدة".
أما إريك هُويل،
وهو باحث وكاتب متخصص في علم الأعصاب يقيم في مدينة كيب كود بولاية ماساتشوستس،
فيرى أن الانتقاد نفسه – أي الافتقار إلى الاختبارات التجريبية المعتبَرة – يمكن
أن يوجَّه إلى سائر نظريات الوعي الأخرى. هُويل، الذي تتلمذ على يد جيليو تونوني،
عالم الأعصاب بجامعة ويسكنسن-ماديسون وأحد دعاة نظرية المعلومات المتكاملة، يقول:
"على كل مَن يعمل في هذا المجال الاعتراف بأننا لا نملك صورًا مسحية مثالية
للدماغ. ومع ذلك، تجد أن الخطاب قد خصَّ بالذِّكر نظرية المعلومات المتكاملة، كما
لو كانت هذه المشكلة منحصرةً في هذه النظرية دون غيرها".
تأثير مدمِّر
يقول لاو إنه
لا ينتظر أن ينعقد إجماعٌ حول هذه المسألة، مضيفًا: "ولكن أعتقد أنه إذا عُرف
أن منَّا مجموعةً – ولتكُن أقلية معتبَرة – راغبة في [التوقيع] على أننا نُصنِّف
هذه النظرية على أنها علمٌ زائف، مع علمنا بأن هناك مَن قد لا يوافقنا الرأي،
فيبقى أن هذه رسالة جيدة في حد ذاتها". وهو إذ يقول ذلك، يحدوه الأمل في أن
يصل الخطاب إلى شباب الباحثين، وصناع السياسات، ومحرِّري الدوريات العلمية، وجهات
التمويل. يقول: "هؤلاء جميعًا ينساقون الآن بسهولة وراء السردية التي تروِّج
لها وسائل الإعلام".
أما مودريك،
التي تشدد على احترامها العميق للموقِّعين على الخطاب، ومنهم الزملاء والأصدقاء
المقرَّبون، فتخشى من تأثير هذا الخطاب في طريقة النظر إلى حقل دراسات الوعي على
جملته. تقول: "مجال دراسات الوعي قُوبل منذ البداية بالشك والارتياب، وخاض
جهادًا مريرًا في سبيل إثبات أنه حقل علمي شرعي. وما أرى إلا أن الطريق القويم
لمجابهة هذا التشكُّك إنما يتأتَّى بإنجاز أبحاث علمية رصينة، وعالية
القيمة"، لا المجاهرة بانتقاد بعض الأشخاص أو الأفكار.
ومن جهته،
يتخوَّف هُويل من أن يقود هذا الخطاب إلى إثناء الراغبين في وضع نظريات طموحةٍ
أخرى. يقول: "أكثرُ ما يشغلني في هذا الصدد هو ألا نُضطر إلى وضع فرضيات محدودة
القيمة، ومستهلَكة، خشيةَ أن تُلصَق بنا تهمة العلم الزائف".
تواصل معنا: