دورية Nature تحاور خبراء حول الآليات التي غيرت بها لقاحات الحمض النووي الريبي
المرسال (mRNA) وجه عالم الطب.
إيلي دولجين وهايدي ليدفورد
في غضون ثلاثة
أعوام فحسب، أنقذت لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال ملايين الأرواح، وأُشيد بها
على نطاق واسع، واعتبارًا من هذا الأسبوع أصبحت مرشحة للفوز بجوائز نوبل. رغم ذلك، لا يبدو من قريب ولا من
بعيد أن سرعة خطى هذه التقنية قد أخذت تتوانى.
ففي أعقاب نجاح
التقنية المذهل في تخليق لقاحات ضد مرض «كوفيد-19»، ما أسفر سريعًا عن تغيير مسار
الجائحة، ضخت جهات استثمار مليارات الدولارات نحو توسعة قدرات العلاجات القائمة على الحمض
النووي الريبي المرسال.
ويبشر هذا
الفيض الهائل من الاستثمارات بدعم الأبحاث والبنى التحتية اللازمة لنشر الأدوية
القائمة على الحمض النووي الريبي المرسال، بسبل يمكن أن تفجر ثورة تطلق تغييرات
جذريًة في مجال الصحة العامة، عبر التصدي للأمراض المستعصية وللأورام السرطانية
والاضطرابات الجينية النادرة.
في هذا السياق،
يقول ماتياس ستيفن، اختصاصي علم المناعة من مركز فريد هتشِنسون لعلاج الأورام
السرطانية في مدينة سياتل بولاية واشنطن الأمريكية: "الإمكانات لا حصر لها،
فقد يغدو هناك دواء قائم على الحمض النووي الريبي المرسال لكل قصور يُراد تصحيحه
أو علاجه. وهنا مبعث التشويق في المسألة".
بناءً على هذه
الأسباب، توجهت دورية Nature بأسئلة لباحثين حول آفاق أدوية الحمض النووي
الريبي المرسال المرتقبة في المستقبل المنظور.
كبح الفاشيات:
حينما تكون السرعة هي الحكم الفصل
لم تتأت شهرة
اللقاحات القائمة على الحمض النووي الريبي المرسال من سلامتها وفاعليتها فحسب، بل
أيضًا من سرعة تطويرها وطرحها خلال جائحة «كوفيد-19».
فعلى حد قول
بارني جراهام، الذي ساعد في تطوير أحد لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال المضادة
لـ«كوفيد-19» خلال عمله لدى هيئة معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، تسمح التقنية
التي تقف وراء هذه اللقاحات للباحثين "بالخروج بلقاح شديد الفاعلية والكفاءة
في غضون بضعة أسابيع". (يعمل جراهام حاليًا كاستشاري أول في شؤون العدالة
الصحية العالمية لدى كلية مورهاوس للطب في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا
الأمريكية).
ويقوم مفعول هذه
اللقاحات على إمداد الجسم بحمض نووي ريبي مرسال يوجِّه الخلايا إلى صنع نسخ من
بروتين فيروسي، وهي نسخ تُعرف بالمستضدات. وتحفز هذه العملية الجسم على إنتاج
أجسام مضادة وقائية وخلايا مناعية محاربة للفيروس.
ونظرًا إلى أن الحمض
النووي الريبي المرسال يمكن تصميمه وتخليقه في غضون أيام، تسمح هذه التقنية بتغيير
تركيبة اللقاحات القائمة عليه سريعًا سنويًا لمواجهة طبيعة الفيروسات المتطورة
باستمرار، مثل فيروسات «سارس-كوف-2» والإنفلونزا، أو يمكن استخدام هذه التقنية
كوسيلة للتصدي سريعًا للأمراض المُعدية الناشئة. على سبيل المثال، أجرت شركة «موديرنا»
Moderna،
وهي شركة تقنيات حيوية في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية تجارب
تستخدم لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال في مواجهة فيروسات مثل فيروسات «جدري
القرود»، و«زيكا» Zika و«نيباه»Nipah .
وعن الفرص التي
تتيحها التقنية، نوربرت باردي، العالم المتخصص في علم اللقاحات من جامعة بنسلفانيا
(UPenn)
في ولاية فيلادلفيا الأمريكية، والذي عمل عن كثب مع الحائزَين على جائزة نوبل في
الفسيولوجيا أو الطب لهذا العام - وهما درو وايزمان الذي يعمل بالجامعة نفسها
واختصاصية الكيمياء الحيوية كاتالين كاريكو من جامعة زجيد في المجر- يقول:
"يمكننا حتمًا اغتنام مرونة إنتاج لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال
وبساطتها". وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلا الحائزين على جائزة نوبل قد نجحا في
العقد الأول من القرن الحالي في ابتكار تقنية تأسيسية استُخدمت في إنتاج لقاحات
الحمض النووي الريبي المرسال.
عدو مراوغ وعنيد
بدأت شركات
بالفعل تدفع عبر سلاسل الإمداد الخاصة بها بلقاحات حمض نووي ريبي مرسال تستهدف مُمرِضات
معروفة. على سبيل المثال، أنتجت شركة «موديرنا» لقاحًا يُعطى عن طريق الحقن من هذه
اللقاحات، للوقاية من الفيروس المخلوي التنفسي (RSV) الذي يسبب أعراضًا شبيهة بنزلات البرد لدى
غالبية الأفراد، لكنه قد يكون مهددًا للحياة بين الأطفال وكبار السن، وهو في الوقت
الحالي قيد معاينة هيئة الغذاء والدواء الأمريكية. غير أن آثاره على صعيد الصحة
العامة قد تكون محدودة، إذ تتفوق عليه اللقاحات القائمة على بروتينين في
الحصول على الاعتماد بوتيرة أسرع.
غير أن تقنية لقاحات الحمض النووي الريبي
المرسال قد تصنع فارقًا ملموسًا في حال المُمرضات التي مثلت لغزًا مستعصيًا لشركات
الأدوية. ومن أمثلتها الفيروس المُضخم للخلايا (CMV)، وهو فيروس مراوغ لم ينفك عن إثارة حيرة مطوري
اللقاحات لأكثر من 50 عامًا، ويتسبب في عيوب خلقية في الأطفال الرضع، فضلًا عن تسببه
في حالات عدوى قد تفتك بمن يعانون قصورًا مناعيًا. تعقيبًا على ذلك، تقول سالي
بيرمار، الباحثة المتخصصة في أمراض الأطفال المعدية من جامعة ويل كورنيل للطب في
مدينة نيويورك: "هنا نجحت لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال في تغيير قواعد
اللعبة".
إذ يستخدم
الفيروس المضخم للخلايا مجموعة من خمسة بروتينات للنفاذ إلى داخل الخلايا البشرية
ومنها، وهي تركيبة مستضدية يتعذر على اللقاحات القائمة على بروتينين محاكاتها. أما
باستخدام الحمض النووي الريبي المرسال للفيروس، فيمكن للباحثين الاكتفاء بتزويد
الخلايا بالتعليمات الجينية التي تحتاجها لإنتاج البروتينات الخمسة. وبعدئذ، تنهض
الخلية بالمهمة الثقيلة المتمثلة في تجميع هذه الوحدات الفرعية جيدًا لتشكيل مركب
مستضد واحد، كما يحدث في العدوى التي تنشأ بصورة طبيعية.
وتشير أولى النتائج1
إلى أن لقاح شركة «موديرنا» المضاد للفيروس المضخم للخلايا، والذي يخضع اليوم
لتجارب من المرحلة الثالثة، يحفز في بعض الأنسجة استجابة مناعية أقوى من تلك التي
تحفزها العدوى الطبيعية. من هنا، تقول سالي بيرمار، التي جمعها تعاوُن بحثي مع
شركة «موديرنا» لدراسة قدرة لقاح الشركة على توليد الاستجابات المناعية: "
إنه لمن المشوق أن نشهد في الوقت الحالي القضاء على السبب الأكثر شيوعًا لإعاقات
أحد الأمراض المعدية".
الجبهة
التالية: الأورام السرطانية
لا تمتد آفاق تطبيقات
تقنية لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال لتقتصر على مواجهة الأمراض المعدية. في
هذا الصدد، يُفيد ديريك روسي، الرئيس التنفيذي المؤقت لـ«مؤسسة نيويورك للخلايا
الجذعية»New York Stem Cell Foundation في مدينة نيويورك، والمؤسس المشارك لشركة «موديرنا»:
"الخطوة التالية هي بلا شك التصدي للأورام السرطانية".
وتجدر الإشارة
هنا إلى أن الباحثين في مجال السرطان لطالما سعوا إلى تطوير لقاح يمكن استخدامه
لتدريب الجهاز المناعي على محاربة الأورام، غير أنهم اصطدموا بفشل اللقاحات
الواعدة لذلك في التجارب الإكلينيكية. وظلت الأورام السرطانية عصية على العلاج
بسبب تطفر الخلايا السرطانية الخبيثة سريعًا على نحو يضعف فاعلية العلاجات المضادة
للأورام.
أما باستخدام تقنية
الحمض النووي الريبي المرسال، فيمكن للباحثين ابتكار لقاحات مضادة للسرطان تستهدف
عشرات المستضدات على الخلايا الورمية في آن واحد. وبإصابة عدة أهداف معًا قد يصعِّب
تطور الخلايا الورمية على نحو يتيح لها الإفلات من الاستجابات المناعية التي
يحفزها اللقاح. من هنا، تجري حاليًا عدة تجارب لفئة جديدة من اللقاحات
المضادة للسرطان المُواءمة حسب حالة المريض؛ وتستخدم هذه اللقاحات حمض نووي ريبي مرسال تستهدف
تعليماته إنتاج بروتينات طافرة توجد في الورم السرطاني للمريض.
غير أن تقنية
الحمض النووي الريبي المرسال لعلاج السرطان قد تكون لها تطبيقات أوسع نطاقًا، بحسب
ما يفيد إيلاد شارون، المتخصص في علم الأورام من معهد دان-فاربر لأبحاث السرطان في
مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية، والذي أضاف: "الآفاق لا تقتصر على
اللقاحات".
ففي الوقت
الحالي، تختبر شركة «موديرنا» فاعلية علاجات تمد الجسم بتعليمات حمض نووي ريبي
مرسال لإنتاج جزيئات مُحفزة للاستجابات مناعية مثل السيتوكينات في الخلايا، وذلك بهدف
معرفة ما إذا كان بإمكان هذه الجزيئات تعزيز تأثيرات العلاجات المناعية المستخدمة
بالفعل المضادة للسرطان2. أما شركة «بيونتِك» BioNTech وهي شركة تقنيات حيوية
كائنة في مدينة ماينتز الألمانية، فتعمل على تطوير علاجات مماثلة قائمة على الحمض
النووي الريبي المرسال تحفز الخلايا على إنتاج أجسام مضادة قادرة على شن استجابات
مناعية.
آلية إمداد
محسنة
عندما بدأ
الباحثون محاولة استخدام جزيئات الحمض النووي الريبي المرسال كجزيئات علاجية، تعذر
ذلك بسبب احتمال تحلل هذه الجزيئات سريعًا.
من هنا، قد
تساعد طرق استحداث جزيئات حمض نووي ريبي مرسال
أطول بقاءً في حل
المشكلة، لكن تجدر الإشارة إلى أنه في بعض الأحيان، تخدم طبيعة هذا الحمض سريعة
الزوال كمزية. فمع أدوات التحرير الجيني مثل «كريسبر-كاس9»، ينشد الباحثون عدم
بقاء الإنزيمات القاطعة في الخلايا لوقت طويل خشية وقوع تحرير جيني غير مرغوب فيه.
وجزيئات الحمض النووي الريبي المرسال تُعد آلية لنقل تعليمات توجه إلى إنتاج
إنزيمات في الخلايا، تختفي بعد أدائها لمهمتها.
وهنا، روسي،
الذي شارك في تأسيس شركة باسم «إنتِليا ثيرابيوتكس»Intellia
Therapeutics في مدينة كامبريدج بولايات ماساتشوستس الأمريكية،
وهي شركة تستخدم الحمض النووي الريبي المرسال لإمداد الجسم بأدوات التحرير الجيني
اللازمة لتصحيح أمراض وراثية نادرة، يقول تعقيبًا على ذلك: "إنه استخدام رائع
للحمض النووي الريبي المرسال. فالمطلوب أن يبقى الحمض في الجسم لمدة قصيرة، وأن
يؤدي مهمته، ليزول بعدها".
وقد أخذت شركات
أخرى، من بينها شركة شارك في تأسيسها وايزمان باسم «كابستان ثيرابيوتكس» Capstan Therapeutics في استخدام الحمض النووي الريبي لإكساب الخلايا المناعية وظائف دفاعية
معزَّزة ومقاوِمة للأمراض. وفي هذه التطبيقات، تكون كمية البروتينات التي يحفز الحمض
النووي الريبي المرسال الجسم على إنتاجها كافية بالقدر الذي يسمح بالتحرير الجيني
أو البرمجة الجينية بكفاءة لكن دون إنتاج آثار غير مرغوبة.
ومع ابتكار
الباحثين لأساليب جديدة لتوجيه الحمض النووي الريبي المرسال إلى مناطق محددة من
الجسم، يُتوقع أن يتسع نطاق تطبيقاته الممكنة في مجال التجرير الجيني، بحسب ما
أفاد ليور زانجي، الذي يدرس الخصائص العلاجية للحمض النووي الريبي المرسال في مجال
تجديد خلايا القلب بكلية إيكان للطب في ماونت سيناي بمدينة نيويورك الأمريكية. وهو
يضيف: "ثمة إمكانية حقيقية لأن تؤدي هذه التقنية للعديد من العقاقير الجديدة
لعديد من الأمراض المختلفة. ولا شك أنها ستشكل المستقبل".
تواصل معنا: