رأينا في القرن العشرين كيف يمكن للتجريد المنطقي أن يخلق عوالم جديدة.
دافيديه كاستلفيكي
طريق المُسَلَّمات: الفكر الرياضي والحداثة العليا
ألما شتاينجارت
دار نشر جامعة شيكاجو (2022)
لا تزال أعمال علماء الرياضيات القدماء، الذين عاشوا قبل مئات أو حتى آلاف السنين، تتجاوب مع آخر ما توصَّل إليه أقرانهم المُحدَثُون في عصرنا الحاضر بطريقة يقف أمامها المنتمون للمجالات الأخرى مشدوهين. فمُبرهَنة إقليدس، التي أثبت فها أن سلسلة الأعداد الأولية غير نهائية، لا تزال معدودةً حتى الآن برهانًا واضحًا وأنيقًا، تمامًا كحاله حين خرج إلى حيّز الوجود في عام 300 قبل الميلاد، في كتابه الذي حمل عنوان: Elements، ويُترجَم إلى «العناصر» أو «الأصول».
ومع ذلك، شهدت الرياضيات تغيرات هائلة، وبخاصة في القرن العشرين، حين تعمَّقَتْ في عالم التجريد أكثر فأكثر. وقد شكَّلت هذه التغيرات ثورة عارمة، حتى أنها أعادت تعريف ماهية التعريف نفسه، وهذا ما تخبرنا عنه ألما شتاينجارت في كتابها «طريقُ المُسَلَّمات» Axiomatics.
وترى شتاينجارت، وهي مؤرخة للعلوم، أن هذه الثورة جاءت في خضمّ الحركة الحداثية التي ألقت بظلالها على الفنون والعلوم الاجتماعية في أواسط القرن العشرين، وبخاصةٍ في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد كانت جهود الرياضيين الرامية نحو التجريد كانت منعكسةً في اتجاهات موازية في الاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والعلوم السياسية، بل إن هذه الجهود هي ما أفضَتْ إلى ظهور هذه الاتجاهات في غير قليلٍ من الأحيان. وتورد الكاتبة اقتباسات لعدد من العلماء الذي ذهبوا إلى أن تحررهم من الانكفاء على شرح العالم الطبيعي وتفسيره يناظر تَحرر الرسامين من قيود الواقع بفضل المدرسة التعبيرية التجريدية.
الرياضيات التي ضمَّها بين دفَّتيه كتابُ «الأصول»، لإقليدس، اتَّخذت من بعض الحقائق الأوَّلية، التي تُدعى مُسَلَّمات، نقطة انطلاق لها، ثم بنت عليها مقولاتٍ مختلفة، بالاستناد إلى استنتاجات منطقية. وكان إقليدس يرى أن المُسَلَّمات – من قبيل أنه "يمكن مد أي قطعة مستقيمة لتصبح خطًا مستقيمًا لانهائيًّا" – هذه المُسَلَّمات لا تحتاج إلى براهين عليها، لأن لها جذورها الراسخة في الواقع الملموس.
ظل كتاب «الأصول» يحظى في أوساط الثقافة الغربية بالتبجيل قرونًا عدّة، بوصفه آية للعمل الفكري شديد التدقيق. وقد وصَفه في القرن السابع عشر الفيلسوف الإنجليزي المشهور بنظرياته السياسية توماس هوبز بأنه "نموذج لبنية مجتمع مستقر"، كما أخذ ببنيته القائمة على المُسَلَّمات والاستنتاجات الفيلسوف باروخ اسبينوزا، حين وضع أطروحاته عن الأخلاقيات. أما الكنيسة الكاثوليكية، فقد جعلت أعمال إقليدس عقيدة راسخًة، تشبَّثَتْ بها وسط ما اعتبرته «فوضى» أتى بها الإصلاح البروتستانتي (وأيضًا حتى تتقي بها التهديد الثوري الذي مثلته الأعداد متناهية الصغر، التي جاء بها التفاضل والتكامل، كما يشرح أمير ألكسندر في كتابه الشيق «متناهي الصغر» Infinitesimal، الصادر عام 2014).
عوالم متباعدة
قَلَبت الرياضيات الحديثة مبدأ إقليدس، القائم على البناء على مُسَلَّمات مستمَدة من الواقع الملموس، رأسًا على عقب. فصار من الوارد أن يندفع الرياضي وراء فكرة إبداعية ليضع ما يريده من المُسَلَّمات، فيبتكر، مثلًا، هياكل هندسية غير إقليدية، يمكن للخطوط المتوازية فيها أن تتقارب أو تتباعد.
ووفق هذا التصور، يكون وضع نظرية رياضية أشبه بوضع القواعد للعبة مثل الشطرنج، تكون فيها أسماء القطع وأشكالها وأدوارها خاضعةً لما تعارف عليه الناس. ومثلما يمكن للاعب شطرنج أن يأخذ قواعد اللعبة ومواضع القطع في مباراة ما فيتوقع منها إمكانية الفوز بالمباراة بعد خمس نقلات، فيمكن للرياضي أن ينطلق من المُسَلَّمات ليتمكن، عبر خطوات منطقية متتابعة، أن يثبت صحة مبرهَنة ما، دون أن يشغل ذهنه بشكل الواقع الذي تمثله تلك النظرية.
وهكذا، لا يكون التجريد بالنسبة إلى واضعي النظريات الرياضية وجهة، بل هو الرحلة نفسها، أو كما تقول شتاينجارت: وصفُ الشيء بأنه تجريديٌّ هنا لا يهم؛ المهم هو الفعل: أنْ تُجَرِّد (abstract). وفي ثلاثينيات القرن الماضي، أخذ الرياضيون يضعون أنظمة قائمة على المُسَلَّمات تميل أكثر وأكثر نحو التجريد والتعميم، وذلك راجعٌ في جانبٍ منه كبير إلى تأثير عالمة الرياضيات الألمانية إيمي نويتر. وكشف ذلك عن أن العديد من الأشياء المألوفة، مثل الأعداد والطرق المختلفة لخلط أوراق اللعب والتماثلات الهندسية، هي حالات خاصة من الفكرة ذاتها.
هندسة إقليدس، كما صوَّرها في كتابه «الأصول»، كانت ضاربةً بجذورها في الواقع، أما الرياضيات الحديثة فهي أقل تقيُّدًا به.
عادة ما يُنظر إلى هذا الاتجاه نحو التجريد والتعميم على أنه مرتبط بمدرسة معيَّنة من الرياضيات، ازدهرت في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الكاتبة تبيِّن كيف أن جذور هذا الاتجاه ترجع إلى ثلاثينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة، وأن هذه المدرسة قد نَمَتْ لتشكل ثقافة الرياضيات في البلاد بحلول منتصف القرن الماضي. وتسُوق الكاتبة مثالًا على هذا بقصة كتاب «أسس الطوبولوجيا الجبرية» Foundations of Algebraic Topology، الذي وضعه الرياضيَّان الأمريكيَّان صامويل إلينبيرج ونورمان ستينرود، وصدر في عام 1952. تناول الكتاب عدة أساليب حسابية للتمييز بين الأشكال الهندسية المختلفة، إلا أن المؤلفَين تناولا الموضوع بطريقة معكوسة، فقالا إنَّ على الطلبة في البداية أن يكونوا مُلِمِّين إلمامًا وافيًا ببعض الطرق الجبرية المعقدة والمتخصصة، ولهم بعد ذلك أن يعرفوا العلاقة بين تلك الطرق والأشكال، أو الأسباب التي وُضعت من أجلها هذه الطرق في الأساس.
ومن بين الأفكار المحورية في الكتاب، ما ذهبَتْ إليه المؤلفة من أن الرياضيين في الولايات المتحدة لم ينظروا إلى عملية التجريد والتعميم على أنها تَسير عكس العالم الواقعي، بل على أنها أمر ضروري يخص الطريقة التي يمكن بها تطبيق الرياضيات – أو التفكير الرياضي – لتناول مسائل عملية. فأن تكون المسألة «مسألةً رياضية» لم يكن يعني في مفهومهم أن يقيسوا ويحسبوا، وإنما أن يعملوا على تحقيق كشف ما للمسألة من هيكل خفي من العلاقات الفكرية، أي أن يصُوغوا فكرتها الأساسية بلغة رياضية تجريدية.
كثيرًا ما كان ذلك يعني أن عليهم أن يبتكروا أفكارًا رياضية جديدة، عوضًا عن تطبيق الأفكار القائمة. ومن الأمثلة على ذلك، الكتاب واسع التأثير «نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي» Theory of Games and Economic Behavior، الصادر عام 1944، وهو الكتاب الذي أسس لـ«نظرية الألعاب» الحديثة، وإن كانت بعض نتائج أفكاره أبعد ما تكون عن «اللعب» فهي تخص استراتيجيات الدفاع النووي. وعبر تتبُّعها شبكةً مدهشة من الارتباطات، بيَّنَتْ شتاينجارت أن إسهامات مؤلفَي الكتاب، الرياضي الأمريكي جون فون نويمان وعالم الاقتصاد الألماني أوسكار مورجِنشتيرن، لا تقتصر على لعب دورٍ في رسم العلاقة بين العلم والسياسة أثناء الحرب الباردة، وإنما تتجاوز ذلك إلى تقديم نموذج لإجراء المزيد من المحاولات لإدخال الرياضيات في العلوم الاجتماعية.
إغراقٌ في التجريد
المفارقة هنا أنه على الرغم من أن بعض الرياضيين كانوا ينادون بأن يُتخَذ التفكير التجريدي مفتاحًا لتطبيق الرياضيات في مجالات أخرى، ورأوا أن حتى أشد المواضيع الرياضية تجريدًا جدير بالحصول على تمويل حكومي، وجدنا أن أغلب الرياضيين في السلك الأكاديمي بدوا غير مُقبلين على المشاركة في الأمر. ولعقود عدة، كانت تطورات كثيرة في الرياضيات التطبيقية تأتي، لا من الجامعات، وإنما من الهيئات الفكرية ومختبرات الشركات في القطاع الصناعي، أو من أقسام أنشئت حديثًا لتكون مخصصة لمجالات أخرى، مثل علوم الحاسوب والإحصاء.
ومهما يكن من شيء، فقد ارتبط عمل علماء الرياضيات بهذا الإغراق في التجريد. وفي هذا الكتاب، تُبرز المؤلفة كيف أن القسم الأخير من القرن العشرين قد شهد نقطة تحوُّل في هذا المضمار، متخذةً من ويليام ثورستن، وهو الرياضي الكبير واسع التأثير، الذي تخصص في مجال الطوبولوجيا، ليكون نموذجًا لهذا التحول، إذ كان يجد متعته في جعل تصوراته الهندسية المعقدة تبدو واقعًا ملموسًا.
لكن ثمة تطور هام لم تتطرق إليه الكاتبة، وهو حالة الإثراء المتبادل بين الرياضيات التجريدية والفيزياء النظرية، وهي الحالة التي تجددت في أواخر القرن العشرين. ويشمل ذلك الاستفادة من علم الطوبولوجيا في ابتكارات مثل المواد الطوبولوجية، والتي يمكن أن تمثل أساسًا لبناء حواسيب كميّة فائقة القدرة، ووضع نظرية الأوتار، التي وإن لم تمنح الفيزيائيين «نظرية كل شيء» theory of everythingالتي كانوا يصْبون إليها منذ زمن طويل، فقد أوحت إلى الكثيرين في حقل الرياضيات بمواضيع رسائل الدكتوراه. والأمثلة عديدة على أن الحد الفاصل بين الرياضيات البحتة والرياضيات التطبيقية بدأ يتلاشى إبّان العقد المنصرم، فلم يعد من النادر الآن أن نرى باحثين متخصصين في أكثر حقول الرياضيات تجريدًا ينزلون من بُرج التجريد العاجي، ينخرطون في أعمال مغرِقة في الطابع التطبيقي، على غرار تحليل البيانات.
أما منهج إيلنبيرج وستينرود في التعليم فقد أصبح الآن قصة يتعظ منها الآخرون، وأصبح أسلوبهما، وإن ظل معمولًا به على نطاق واسع، يُطلَق عليه – ولو بغير قصد الإساءة – «اللغو التجريدي». لكن في منعطف جديد من منعطفات القدر، التي لم يخلُ منها تاريخ الفيزياء والرياضيات يومًا، نجد أن بعض الفيزيائيين الآن يرون في أساليب «اللغو التجريدي» طريقةً واعدةً لابتكار نظرية كميّة للجاذبية، ولعلَّنا نجد فيها طريقًا آخر للوصول إلى هدفٍ حقيقي، ممعِنٍ في حقيقيَّته على ما فيه من تجريد، وهو هدف الوصول إلى «نظرية كل شيء».
دافيديه كاستيلفيكي: محرر صحفي يعمل بدورية Nature من لندن.
تواصل معنا: