يلعب العصب ثلاثيّ التوائم دورًا رئيسيًا في الإصابة بالصداع النصفيّ.. إلا أن فريقًا بحثيًا نجح في تصمم أطلس لأنواعِ الخلايا وأنماط التعبير الجينيّ في هذا العصب لدى فئران التجارب والبشر، ما أتاح للعلماء قطع خطوة أخرى نحو فهم آلام الرأس.
فيليب آر. هولاند، وبيتر جيه. جودسبي
الصداع النصفي هو المشكلة الصحية الرئيسة التي يفقد البالغون دون الخمسين بسببها سنوات من أعمارهم نتيجة للإعاقة1؛ إذ تصاحبها أعراض – من بينها آلام الرأس المتوسطة إلى الشديدة، والقيء، واختلال الوظائف الإدراكيّة، وغيرها – تؤثِّر عادةً في قدرة الفرد على ممارسة الأنشطة اليوميّة الطبيعيّة. وفي هذا السياق، يبرُز العصب الذي يُشار إليه بالعصب ثلاثيّ التوائم، فهو العصب الحسيّ الأساسي المغذِّي للرأس، والذي يلعب دورًا أساسيًا في حدوث آلام الصداع النصفيّ (الذي يُشار إليه أيضًا بالشقيقة)، ضمن أنواع أخرى من الصداع2. وقد نشر ليت يانج وزملاؤه دراسةً في دوريّة «نيورون» Neuron، ضمَّنوها توصيفًا لأنماط التعبير الجينيّ للخلايا العصبيّة في عقدة العصب ثلاثيّ التوائم، التي تُشكّل هذا العصب لدى الفئران والبشر. ويسلِّط هذا المخطَّطُ الشاملُ (أو الأطلسُ) الخلويُّ الضوءَ على أنواع الخلايا المشتركة والمتباينة، وأنماط التعبير الجينيّ بين الأنواع، إضافة إلى أنه سيدعم اكتشاف العقاقير لعلاج الصداع النصفيّ، وهو مجالٌ بحثيّ آخذٌ في الصعود في وقتنا الحاليّ.
ينشأ العصب ثلاثيّ التوائم من عقدة العصب ثلاثيّ التوائم، وهي مجموعة من أجسام الخلايا العصبيّة، وأنواع من الخلايا ذات الصلة، ومنها الخلايا الدبقيّة التابعة، وخلايا الأرومة الليفيّة، وهذه الأجسام تكمُن مستترةً تحت نسيج الدماغ. وللعصب ثلاثة فروع رئيسة، هي فرع العين، وفرع الفك العلويّ، وفرع الفك السفليّ، وكلها تنقل المعلومات الحسيّة من الوجه إلى مجرى للأعصاب الحسيّة في جذع الدماغ، تحمل اسم نواة العصب ثلاثيّ التوائم. وإلى جانب ذلك، ينقل فرع العين معلومات حسيّة من الطبقات المُنتِجة للألم، التابعة للأغشية الواقية التي تحيط بالدماغ وتحمل اسم الأغشية السحائية (الشكل 1).
الشكل 1 | العصب ثلاثيّ التوائم
لهذا العصب فروع ثلاثة، تنقل المعلومات الحسيّة من الوجه إلى الحبل الشوكيّ، من خلال تركيبٍ يحمل اسم عقدة العصب ثلاثيّ التوائم. يُسهِم هذا العصب في الإصابة بالصداع النصفيّ واضطرابات الصُّداع الأخرى، وتركيبه التشريحيّ محفوظ تطوريًا بدرجة كبيرة، ما يعني أن الدراسات التي تُجرَى عليه في الحيوانات ربما تُسلِّط الضوءَ على أهداف علاجيّة محتملةٍ عند البشر. وقد وضع يانج وزملاؤه3، أطلسَ لأنواع الخلايا في العصب ثلاثي التوائم وأنماط التعبير الجينيّ لها، عند الفئران والبشر، لاكتساب معرفة دقيقة عن أنواع الخلايا المرتبطة بحدوث آلام الرأس.
هذا التوزيع التشريحيّ محفوظٌ من الناحية التطوّرية، وثابت بدرجة كبيرة بين الأنواع المختلفة، ما مكَّن الباحثين من اختبار الوسائل العلاجيّة المُحتَملة على نماذج من حيوانات التجارب، وكذا على البشر. فعلى سبيل المثال، جرَّب بعض الباحثين استخدام التنشيط المباشر لنهايات الأعصاب الحسيّة في الأغشية السحائية عند الحيوانات4، 5، لاستكشاف وسائل علاجيّة محتملة. بينما، على الناحية الأخرى، توجَّه الاهتمام إلى وسائل علاجيّة محتملة في البشر، اعتمادًا على اختبار مواد تجريبيّة تُسبّب الصداع النصفيّ6، ومن خلال إجراء قياسات مباشرة لجزيئات مِرسالة، تلعب دورًا في الإصابة بالصداع النصفيّ، تحمل اسم الببتيدات العصبيّة7. وبفضل هذه الأبحاث، تحققت نجاحات مدهشة في نقل النتائج المختبرية إلى المجال العلاجي، ما أتاح تطوير ثلاث فئات من العقاقير، اثنتان منها تثبّط ناقلًا عصبيًّا، يحمل اسم ببتيد الكالسيتونين المرتبط بالجينات (ويُشار إليه بالاختصار: CGRP)، أو تُثَبِّط البروتين المُسْتَقْبِل في الخلايا العصبيّة8 ، وهي الفئة الثانية، أما الثالثة فتنشِّط أحد مُسْتَقْبِلات الناقل العصبيّ المعروف بالسيروتونين، وهو المُسْتَقْبِل الذي يحمل اسم «5-HT1F»8.
ومع البحث الجديد الذي نشره يانج وزملاؤه، قدَّم العلماء خريطة طريقٍ تدعم الجهود المستقبليّة لتطوير العقاقير، ودخول عالم العلاجات الإكلينيكية، إذ عَزَل الباحثون خلايا عصبيّة من عقدة العصب ثلاثيّ التوائم من أدمغة الفئران والبشر على حد سواء، ثم حدَّدوا تسلسل الحمض النوويّ الريبوزي (RNA) في الخلايا العصبيّة، بغرض الحصول على أنماط تعبير جينيّ للخلايا المُفرَدة التي تأتي من امتداد العصب ثلاثيّ التوائم. وبعد ذلك استخدم الباحثون الأنماط هذه في تصنيف الخلايا إلى 15 نوعًا من الخلايا، ثمانية منها خلايا عصبيّة وسبعة أخرى غير عصبيّة. بعد ذلك قارن الباحثون الأطلسيْن الخلويين للبشر والفئران، بهدف التعرُّف على نقاط التشابه والاختلاف. وقدّم الفريق البحثي وصفًا لعوامل النسخ والعناصر التنظيميّة في الحمض النوويّ التي تحكم عملية التعبير الجينيّ داخل الخلايا بمختلف أنواعها.
ومن المثير للتأمّل أن الباحثين قد كشفوا وجود اختلافات واضحة بين الأنواع في المسارات العصبية التي تستهدفها العقاقير المُثَبِّطة لببتيد الكالسيتونين المرتبط بالجينات والعقاقير المنشِّطة للمُسْتَقْبِل «5-HT1F»، إذ وجد الباحثون حالة من التعبير المرتفع لجين CALCA، الذي يُشَفِّر ببتيد الكالسيتونين المرتبط بالجينات، داخل الخلايا العصبيّة الحسيّة التي يُطلَق عليها مُستقبِلات الحكّة في العيّنات البشريّة، بينما لا يظهر هذا الجين في مُستقبِلات الحكّة تلك عند الفئران. أما جين «HTR1F»، والذي يُشفِّر المُستقبِل «5-HT1F»، فيجري التعبير عنه بدرجات مختلفة بين البشر والفئران، في مُستقبِلات الحكّة وفي نوعٍ آخر من الخلايا العصبيّة، وهي مستقبِلات الألم ببتيديّة المفعول. وتشير تلك النتائج إلى أنه رغم اشتراك البشر والفئران في المُستقبِلات الرئيسيّة، التي تُنظِّم الإحساس داخل العصب ثلاثيّ التوائم، فإنه يوجد اختلاف في التوزيع الدقيق لهذه المستقبِلات بين الأنواع الفرعيّة من الخلايا العصبيّة (وجدير بالذكر أن العقاقير ليست انتقائيّة لأنواع الخلايا، ولذلك فلا داعي للاعتقاد بأن هذه الاختلافات ستؤثر في فاعليتها عند استخدامها مع البشر). ويكشف الباحثون، بما يتفق مع هذه الاختلافات بين البشر والفئران، أن عُقدة العصب ثلاثي التوائم في البشر تحتوي على نسبة من مُستقبِلات الألم ببتيديّة المفعول أعلى من نظيرتها عند الفئران. ومن شأن هذه الاختلافات أن توفِّر معلومات نسترشد بها في برامج لتطوير العقاقير مستقبلًا، عند انتقال هذه الأدوية من مرحلة الاختبارات المعمليّة إلى مرحلة استخدامها مع المرضى.
الخطوة التالية التي اتجه إليها يانج وزملاؤه كانت وضع تسلسل للحمض النوويّ الريبي، على مستوى الخلية المُفردة، في خلايا عصبيّة تنتمي إلى عُقدة العصب ثلاثيّ التوائم، حصل العلماء عليها من فأري تجارب مصابين بآلام الرأس، ثم بحث العلماء عن أنماط التعبير الجيني التي تشير إلى تنشيط الخلايا في الخلايا التي وضعوا تسلسلها. وفي حالة أحد نماذج الفئران بالتحديد، الذي أصابه العلماء في المختبر بالتهابٍ في الأغشية السحائية بغرض التجربة، لاحظ مؤلّفو الدراسة أنماط تنشيطٍ واضحة في الخلايا العصبيّة التي تحتوي على مُستقبِلات ألم غير ببتيديّة المفعول، ودرجة متوسطة من التنشيط في مُستقبِلات الألم ببتيديّة المفعول. ولاحظ الباحثون أيضًا تنشيطًا للخلايا الدبقية التابعة وخلايا الأرومة الليفيّة، فتنشيط الخلايا الدبقيّة التابعة من شأنه أن يؤثِّر في قابليّة الإثارة بالخلايا العصبيّة، كما أن خلايا الأرومة الليفيّة تلعب دورًا عادة في الاستجابات المناعيّة. ويُعْتَقَدُ أن الترابط بين الخلايا الدبقيّة التابعة وخلايا الأرومة الليفيّة والخلايا العصبيّة يحدث أصلًا من خلال بروتينات مُسْتَقبِلات «P2» بيورينيّة المفعول، وهي أهداف علاجيّة يوليها العلماء اهتمامًا9، وتتسبب عند تنشيطها في إطلاق ببتيد الكالسيتونين المرتبط بالجينات.
وعلى العكس من ذلك، ففي أحد نماذج الفئران المُصابة بالخمود القشريّ المنتشر، وهي الآليّة المتسبّبة في حدوث هالة الصداع النصفيّ، اكتشف الباحثون حالة تنشيط أكثر محدوديّة للخلايا الدبقيّة التابعة وخلايا الأرومة الليفيّة، واكتشفت مجموعة الباحثين كذلك مستويات متباينة من التنظيم بالزيادة لمجموعةٍ من الجينات الأخرى في فأرين من فئران التجارب. وتشير دراسة هذه البيانات مُجتمعة إلى أنه من المرجَّح أن عدّة أنواع من الخلايا تلعب دورًا في تنشيط وحساسية الألياف الحسيّة في العصب ثلاثيّ التوائم. كما تُسلِّط هذه البيانات الضوء على ضرورة دراسة نوعي الخلايا؛ العصبيّة وغير العصبيّة، بوصفها أهدافًا لاستكشاف العقاقير في المستقبل.
تُضيف دراسة يانج وزملاؤه مزيدًا من التفاصيل إلى تصوّراتنا عن أنواع الخلايا والمُستقبِلات والربيطات التي تلعب دورًا جوهريًا في المُعالَجة الحسيّة لآلام الرأس. كما يمثّل الأطلس الخلويّ الذي خرجوا به صندوق أدواتٍ مُتاحًا بالكامل، يُتيح للباحثين التعمّق في استكشاف الجزيئات والأهداف محلّ الاهتمام، في طريقنا إلى الانتقال من المُختبر إلى الأدوية العلاجية. وبالنظر إلى كون العلماء قد فحصوا جميع مناطق العصب ثلاثيّ التوائم، فإن هذا المورد لن يكون مفيدًا فحسب في دراسة الصداع النصفيّ، بل وفي دراسة صور آلام الرأس الأخرى. إلا أن اتساع نطاق الدراسة هو أحد عيوبها، إذ يعوق إجراء تحليلٍ دقيق لفرع العين من العصب ثلاثي التوائم، والذي يحدّد توزيعه التشريحيّ بدقة كبيرة الصورة العامّة لإحساس الإنسان بألم الصداع النصفيّ10.
جدير بالذكر أن الأطلس قد استُكمِل بمجموعات بيانات موجودة بالفعل، حصل العلماء عليها من الفئران، كما سيكون من المفيد توسيعه، في الوقت المناسب، ليشمل مزيدًا من العيِّنات البشريّة والتراكيب الدماغيّة ذات الصلة بحدوث الصداع النصفيّ. ومن أبرز هذه التراكيب المقصودة الواجهة البينيّة الطرفيّة والمركزيّة التي ترتبط بحدوث آلام الرأس، والتي تشمل نواةَ العصب ثلاثيّ التوائم الذَّنبيّة، والجزء العلويّ من الحبل الشوكيّ العنقيّ، والذي يُسَمَّى بالتركيب ثلاثيّ التوائم العنقيّ11.
في نهاية المطاف، من الإنصاف القول إن الباحثين قد أسهموا بدرجة ما في الإجابة عن واحدٍ من أكثر الأسئلة شيوعًا في مجال الأبحاث ما قبل الإكلينيكة عن الصداع النصفيّ: كيف نعرف أن الفأر مصابٌ بالصداع النصفي؟ وصحيح أن الإجابة لا تزال بعدم قدرتنا على فعل ذلك، لكن دراسة يانج وزملائه أتاحت لنا بكلّ ثقة تحديد المسارات الشائعة وأنماط التعبير الجينيّ المتخصصة لأنواع الخلايا، والمتسببة في الشعور بألم الرأس، والذي يعتبر أحد أبرز علامات الصداع النصفي، وأكثرها إعاقة من الناحية الإكلينيكية.
فيليب آر. هولاند، وبيتر جيه. جودسبي يعملان بمركز وولفسون للأمراض المرتبطة بالشيخوخة، ومعهد الطب النفسيّ وعلم النفس وعلم الأعصاب بكليّة كينجز لندن، لندن SE1 1UL، المملكة المتحدة.
تواصل معنا: