لماذا تصيب الاضطرابات النفسية الذكور أكثر من الإناث؟
نشرت بتاريخ 4 يونيو 2023
العدوى الفيروسية المُبكّرة يمكن أن
يكون لها تأثيرات طويلة الأمد على وظائف المخ.. والإناث أكثر قدرةً على التعامل
معها بشكل أفضل من الذكور
محمد السيد علي
قد يصاب بعض المواليد إصابةً عابرةً بعدوى
فيروسية والتهابات، ونتيجةً لذلك ينتفض الجهاز المناعي ليقاوم العدوى حتى تزول، لكن
أثر تلك العدوى لا يتوقف عند هذا الحد؛ إذ تشير الدراسات إلى أن رد الفعل المناعي هذا يمكن
أن يكون سببًا ومقدمةً للإصابة باضطرابات عصبية نفسية عند الكبر، وأن هذا الأمر
يحدث لدى الذكور وليس الإناث.
كما أن العدوى والالتهاب من العوامل
الرئيسية المساهمة في حدوث تلف بالدماغ لدى المواليد خلال فترة
الرضاعة وسنوات ما قبل المدرسة، ويترتب على ذلك ضَعف طويل الأمد في وظائف المخ،
وقد يتطور الأمر إلى الإصابة بشلل دماغي وضعف حسي وقيود معرفية.
وفي محاولة لكشف غموض هذه الحالة،
أعلن فريق بحثي ألماني، بمشاركة باحث مصري، أنه تمكَّن من فك شفرة الآليات
المُسببة للاضطرابات العصبية النفسية لدى حديثي الولادة، في دراسة أُجريت على
فئران التجارب.
وأوضح الباحثون في دراسة نشرتها دورية "نيتشر كوميونيكيشنز" أن "الجهاز
المناعي للذكور والإناث يبدو مختلفًا تمامًا فيما يتعلق بآلية الاستجابة المناعية
للعدوى في الصغر، وهذا الاختلاف يجعل الذكور أكثر تعرضًا للإصابة باضطرابات عصبية
مقارنةً بالإناث".
يقول توماس بلانك، الأستاذ المساعد
بمعهد علم الأمراض العصبية في كلية الطب بجامعة فرايبورج، وقائد المجموعة البحثية:
"يجب أن يتعلم الأطفال حديثو الولادة التكيف مع العالم الخارجي بعد مغادرة
بيئة الرحم المحمية؛ إذ يتلامسون مع مجموعة متنوعة من المستضدات".
يضيف "بلانك" في تصريحات
لـ"نيتشر ميدل إيست": تعتبر الاستجابات المناعية لحديثي الولادة غير
متطورة في هذا الوقت الحساس، وتُظهر اختلافات ملحوظة عن تلك التي لدى البالغين.
اضطرابات النمو
في الواقع، تم ربط عدد من اضطرابات
النمو -بما في ذلك الفصام واضطراب طيف التوحد وأعراض الاكتئاب والأعراض الذهانية-
بتنشيط المناعة في الحياة المبكرة وما تلاه من خلل في وظائف المناعة.
ووجدت دراسة
سابقة راجعت السجلات الطبية لأكثر من 3 ملايين
طفل منذ الولادة وحتى سن الخامسة، أن الذكور الذين عولجوا من العدوى -بما في ذلك
البكتيريا والفيروسات- زاد لديهم خطر تطور مرض التوحد مقارنةً بالإناث.
وفي أثناء التحقيق في نشأة أمراض
النمو العصبي المرتبطة بالتنشيط المناعي المبكر، ظهر الجنس باعتباره جانبًا مهمًّا،
ركّز فريق البحث على فحصه.
ولاكتشاف سر حدوث ذلك لدى الذكور فقط
وليس الإناث، فحص الباحثون مجموعةً من الفئران حديثة الولادة، وأجروا محاكاةً للعدوى
الفيروسية والالتهابات، عبر حَقن تلك الفئران بمادة "حمض البوليوسينيك" التي تُحدث
تأثيرًا في الجهاز المناعي يحاكي التأثير الذي يحدث بشكل طبيعي لمقاومة العدوى.
وأظهرت الفئران الذكور -التي تلقت
حقنًا متكررةً من "حمض البوليوسينيك" في الأيام القليلة الأولى بعد
الولادة- ضعفًا في السلوك الاجتماعي والإدراك في وقت لاحق في مرحلة المراهقة.
وكانت النتيجة أن الخلايا الدِّبقية الصَّغيرة
لدى الذكور والإناث أظهرت نشاطًا مناعيًّا متزايدًا بعد الحَقن مباشرة.
والخلايا
الدِّبقية الصَّغيرة هي خلايا وظيفتها تنظيم نمو
الدماغ، وصيانة الشبكات العصبية، وإصلاح الإصابات، وهي مسؤولة عن القضاء على
الميكروبات، والخلايا الميتة، ومستضدات الجسيمات التي قد تعرض الجهاز العصبي
المركزي للخطر.
النشاط المناعي
المثير للدهشة أن الباحثين وجدوا أن
هذا النشاط المناعي المتزايد بالخلايا الدِّبقية الصَّغيرة استمر لدى الذكور فقط
وليس الإناث.
كما وجدوا أن هذا النشاط أحدث خللًا وظيفيًّا
في هذه الخلايا، أدى إلى فقدان غير طبيعي للمشابك العصبية داخل منطقة الحصين في الدماغ،
وتؤدي هذه المنطقة دورًا أساسيًّا في التعلُّم والذاكرة، وتعرُّضها للضرر ينشأ عنه
مجموعة من الاضطرابات العصبية والنفسية.
ونتج عن هذا الخلل أيضًا خلل في
الخلايا التائية المسؤولة عن المناعة الخلوية، ما يفسر إصابة ذكور الفئران في
مرحلة المراهقة باضطرابات عصبية نفسية مقارنةً بالإناث المراهقات، وفق الدراسة.
يقول "بلانك": وجدنا أن
التحفيز المناعي المُبكّر يؤدي إلى ضعف القدرات المعرفية والسلوك الاجتماعي في وقت
لاحق من الحياة، وكان أبرز ما يميز ذلك أن هذا التأثير الضار شوهد على الفئران
الذكور فقط، أما الإناث فقد تطورت بشكل طبيعي تمامًا.
ويضيف: على المستوى الخلوي، رأينا أن
الخلايا الدِّبقية الصَّغيرة في الدماغ قد تم تنشيطها بعد تحفيز الجهاز المناعي،
ولكن هذا التنشيط استمر في الذكور على مدى أسابيع، ونتيجةً لذلك، هاجمت الخلايا الدِّبقية
الصَّغيرة المُنشّطة الخلايا العصبية وأثرت على الدوائر العصبية التي تُعتبر مهمةً
للتعلُّم والذاكرة، وأثرت على التفاعُل مع الفئران الأخرى، وهي سمة رئيسية للتوحد،
في المقابل، تلاشى التنشيط المناعي الأولي لدى الفئران الإناث، مع عدم وجود تغييرات
سلوكية طويلة الأمد لديهن.
وعن أهمية النتائج، يقول
"بلانك": لا يزال من الصعب للغاية فهم كيفية تأثير العدوى، وإعطاء
الأدوية والتطعيمات لحديثي الولادة، وعوامل أخرى على الصحة والمرض في المستقبل، أجرينا
تجاربنا على الفئران، ولا نعرف ما إذا كان يمكن ببساطة ترجمتها إلى حالة الإنسان.
من جهته، يقول الباحث المصري عمر
مُسعد -باحث الدكتوراة بمعهد أمراض الأعصاب بكلية الطب جامعة فرايبورج، والمشارك
بالدراسة- في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": تعزز نتائجنا فكرة أن العدوى
الفيروسية المُبكرة يمكن أن يكون لها تأثيرات طويلة الأمد على وظائف المخ.
يضيف "مسعد": آلية المناعة -التي
تنطوي على تفاعل بين الخلايا التائية المخترقة للدماغ والخلايا الدِّبقية الصَّغيرة-
تكون أكثر بروزًا عند الذكور، في حين يبدو أن الجهاز المناعي لدى الإناث يتحمل مثل
هذه التفاعلات وتأثيراتها الضارة الممتدة على الدماغ بشكل أفضل.
تواصل معنا: