ويأمل باحثون أن ينال هذا المجال التمويل اللازم بعد هذا الدعم الدعائي. فلطالما
عانى نقصًا في برامج المنح البحثية طويلة الأجل به، وهو ما أدى إلى خلق بيئة تمويلية
غير مستقرة، وأسفر عن عزوف الباحثين عن دراسة انقطاع الطمث. على سبيل المثال، عندما
فاتحت جهة خيرية جينيفر جاريسون، اختصاصية علم الأعصاب من معهد باك لأبحاث
الشيخوخة في نوفاتو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، بشأن تمويل أبحاث حول الصحة
الإنجابية مع تقدم العمر في عام 2018، وجدت جاريسون صعوبات كبيرة في إيجاد باحثين
لمساندتها في العمل على تلك الأبحاث. وتعلل جاريسون لذلك قائلة: "لا يكمن
السبب في عدم وجود مسائل مثيرة للاهتمام في هذا المجال، إذ ينطوي على الكثير من الألغاز
التي تسلب العقل، لكنه يكمن في أنه لم توجد تمويلات".
وفي الوقت الذي بدأ فيه الاهتمام بهذا المجال يتزايد، بدأت الأساليب البحثية
المستخدمة به أيضًا تحظى بنصيبها من الاهتمام. على سبيل المثال، لا يتعرض لانقطاع
الطمث بصورة طبيعية سوى أنواع قليلة من الحيتان، بينما تبقى معظم أنواع هذه
الحيوانات قادرة على التكاثر حتى موتها. وهو ما توضحه تيريزا ميلنر، اختصاصية علم
الأعصاب من كلية وايل كورنيل للطب في مدينة نيويورك قائلة: "إن انقطاع الطمث من
الجوانب التي يتميز بها التناسل البشري، لذا تصعب دراسته".
وللتغلُب على تلك الصعوبات، أجريت الدراسات على الحيوانات على مدار تاريخ
هذا التخصص، بإزالة مبايضها جراحيًا. وبعدها، قد يعيد الباحثون إلى الحيوانات كميات
محددة من الإستروجين والبروجستيرون،
وهما الهرمونين الرئيسيين اللذين ينتجهما المبيض، وذلك سعيًا إلى محاكاة الانتقال
إلى مرحلة انقطاع الطمث. بيد أن الباحثين، على حد قول جوفي، نادرًا ما يضيفون
الهرمونات الأخرى الموجودة بصورة أقل في المبيضين، مثل هرمون التستوستيرون.
وفي السنوات الأخيرة، دفعت جهات تمويل الأبحاث بالباحثين في المجال إلى نبذ
نموذج العمل البحثي ذاك، الذي يُعد الخيار البديل له استخدام إناث فئران متقدمة في
العمر، في حين أن الخيار الأكثر دقة هو معالجة الفئران بـثاني الإيبوكسيد رباعي
حلقات هكسين الفينيل، وهو مادة كيميائية تستخدم في تصنيع الإطارات المطاطية
وعمليات صناعية أخرى. وتعمل هذه المادة على القضاء على جُريبات المبيض الأساسية وتحفيز
تقلب مستويات هرمون الإستروجين على نحو يحاكي الفترة المُحيطة بانقطاع الطمث.
علاجات أفضل
تأمل ميلنر في استخدام هذه النماذج لابتكار علاجات أفضل لأعراض انقطاع
الطمث. وفي الوقت الحالي، يُعد الخيار الرئيسي تعويض نقص هرمون الإستروجين، وفي بعض الأحيان
هرمون البروجسترون، وكلا الهرمونين يبدآن في الانخفاض خلال الفترة المحيطة بانقطاع
الطمث. بيد أن العلاج بالهرمونات المعاوِضة لا يصلح لجميع النساء، خاصة
أولئك المعرضات لخطر الإصابة بجلطات الدم أو اللائي أُصبن بسرطان الثدي، كما توضح
ديفيس.
وفيما يتعلق بالعلاج بالهرمونات المُعاوِضة، لا يزال أمام الباحثين طريق
طويل للوصول إلى أفضل الجرعات والتوقيتات المناسبة لاستخدام ذلك العلاج بما يناسب
كل امرأة. على سبيل المثال، في عام 2002، أوقفت دراسة أمريكية واسعة النطاق باسم «مبادرة
صحة المرأة» Women’s Health Initiative تجربة للعلاج بالهرمونات المعاوِضة في مرحلة مبكرة، بعد أن وجدت أن
النساء في مراحل انقطاع الطمث ممن يتلقين جرعات من الإستروجين والبروجسترون يغدون
أكثر عرضة للإصابة بسرطان ثدي موغل في الانتشار، مقارنة بالنساء في مجموعة
المقارنة بالدراسة. علاوة على ذلك، عُلقت التجارب في مجموعة فرعية أخرى بالدراسة
في عام 2004، بعد اكتشاف زيادة معدلات الإصابة بالسكتة الدماغية بين النساء اللاتي
يتلقين جرعات من هرمون الإستروجين وحده2. وقد
تسبب الجدل الذي أعقب ذلك في توقف عديد من النساء عن تلقي علاج بهرمونات معاوِضة.
وقد لفت نقاد الدراسة إلى إشكاليات
مثيرة للقلق شابت
إجراءات هذا العمل البحثي3، إذ تلقت
عديد من المشاركات بالدراسة مستويات عالية نسبيًا من الهرمونات الاصطناعية، كما
أن عديدًا
منهن تجاوزت أعمارهن 60 عامًا، ومر وقت طويل على بلوغهن مرحلة انقطاع الطمث. وبعد
تحليل البيانات، تبين أن تزايُد خطر الإصابة بسرطان ثدي موغل الانتشار، كان
مقصورًا على من تلقوا علاجًا بهرمونات معاوضة لأكثر من عشر سنوات. وتشير بعض
البيانات إلى أنه يمكن تقليل خطر الإصابة بالسكتة الدماغية لدى هؤلاء النساء، من
خلال تلقي جرعات الإستروجين موضعيًا، عبر أساليب مثل الرقع اللاصقة أو الهلام
الدوائي، بدلا
من تناولها في صورة أقراص عن طريق الفم4. وتقول ميسمير إن المناقشات التي
تلت تلك الدراسة بشأن العلاج بالهرمونات المعاوِضة، استهلكت الباحثين والأطباء
الإكلينيكيين، ولم تترك مجالًا كبيرًا للباحثين والأطباء لاستكشاف
طرق أخرى لعلاج الأعراض.
وفي عام 2002، أشار عدد قليل من الدراسات الأصغر نطاقًا
إلى أن العلاج بالهرمونات المُعاوِضة يمكن أن يكون مفيدًا إذا تم تلقيه في مرحلة
مبكرة خلال الفترة الانتقالية المؤدية إلى انقطاع الطمث، لا لتخفيف الهبات الساخنة
والوقاية من أمراض القلب والأوعية الدموية والحفاظ على صحة العظام فحسب. على سبيل
المثال، توضح ميلنر أن النساء الأكبر سناً في «مبادرة صحة المرأة» كن قد تجاوزن بسنوات
مرحلة الفترة المحيطة بانقطاع الطمث، وتكيفت أجسادهن مع الحياة دون الإستروجين. فتقول
حول ذلك: "نحاول علاج الأعراض بالإستروجين في وقت لا تتذكر فيه معظم مستقبلات الإستروجين الدور المفترض أن يقوم به
ذلك الهرمون، ونعتقد أن الإطار الزمني الذي يسمح بهذا العلاج يكون خلال الفترة
المحيطة بانقطاع الطمث ".
بيد أن هذا الإطار الزمني لم تتضح حدوده بعد، وحتى
البدء في تلقي علاج بهرمونات مُعاوِضة خلال الفترة المحيطة بانقطاع الطمث لا يخفف
جميع أعراض انقطاع الطمث. وتشير جاريسون إلى ذلك بقولها: "العلاج بهرمونات مُعاوِضة
ليس الحل الأمثل؛ وهو ما يدل على أن ثمة آليات أخرى تلعب دورًا في هذه المرحلة".
وقد كانت رانس من أوائل من طرقوا هذه الألغاز. وقد
ساعدتها أجهزة قياس درجة الحرارة الصغيرة التي ابتكرتها في عام 2011 على إثبات أن
تنشيط مستقبل جزيئي هرموني يسمى Neurokinin B لدى جرذان تسبب في حدوث تغيرات في درجة حرارة الجسم تشبه الهبات الساخنة5. وقد لفت هذا الكشف الذي
أسفرت عنه تلك الورقة البحثية اهتمام اختصاصي الغدد الصماء والجيت
ديلو، من كلية إمبريال كوليدج لندن، الذي درس هذا الجزيء الهرموني لأسباب أخرى. فعمد
ديلو وفريقه البحثي إلى الانتقال بدراسات رانس إلى حقل التجارب الإكلينيكية، ووجدوا أن مركبًا يمنع هذا
الجزيء الهرموني من
الارتباط بمستقبلاته الخلوية أدى إلى انخفاض معدلات حدوث الهبات الساخنة بين
النساء اللاتي كن يتعرضن لها سبعة مرات على الأقل يوميًا6.
ومنذ ذلك الحين، أثبت فريق
بحثي لدى شركة «أستيلاس فارما» أن عقار «فيزولينيتانت»، القائم
على مركب مشابه، يقلل أيضًا وتيرة حدوث أعراض انقطاع الطمث بين النساء اللاتي تعانين
من هبات ساخنة معتدلة إلى شديدة ومرتبطة بانقطاع الطمث7. وتقول ستيفاني كوريا، اختصاصية
علم الغدد الصماء العصبية من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، إن ذلك قد يعود بأثر
إيجابي كبير على الحالة الصحية، بالنظر إلى مدى شيوع تلك الأعراض خلال الفترة
المحيطة بانقطاع الطمث.
فضلًا عن ذلك، توضح كوريا أن انخفاض وتيرة حدوث الهبات الساخنة (بدلاً
من وقفها تمامًا) يعني أن هناك متسع لتحسن الحالة الصحية، غير أن هذا يتطلب فهمًا
أفضل لآليات الجسم في تنظيم درجة حرارته. وتشير إلى ذلك قائلة: "استند هذا
العقار إلى أبحاث غير تطبيقية تعود إلى 30 عامًا مضت. وأشعر أن مسافة كبيرة تفصلنا
عن الخطوة التالية". وعلى صعيد آخر، تعين على كوريا أن تتصدى لمعارضة من هيئات
تمويلية ومن فريقها البحثي بسبب اختيارها تناوُل الهبات الساخنة بالدراسة، وهو ما
أعربت عنه قائلة: "نظرًا إلى أن الهبات الساخنة لا تهدد الحياة، لا يُنظر
إليها على أنها ذات أهمية".
كوكبة من الأعراض
قد لا تغدو الهبات الساخنة
مبعثًا على الضيق فحسب. فبالإضافة إلى أنها مزعجة، ومعرقلة
لأنشطة الحياة اليومية، فهي من أهم مسببات اضطرابات النوم التي تعاني منها عديدًا من
النساء خلال الفترة المحيطة بانقطاع الطمث. وتوضح
جوفي أن النوم المتقطع قد يعزز فرص ظهور أعراض أخرى غير مرغوب فيها تميز انقطاع
الطمث، وتشمل ارتفاع ضغط الدم والتغيرات الأيضية والقلق. ومن ناحية أخرى تشير بعض
الدراسات إلى أن المستويات المنخفضة من الإستروجين يمكن أن تؤدي أيضًا إلى
الاستيقاظ ليلًا، بغض النظر عن الهبات الساخنة8 .
وتوضح برينتون أن هذا ليس
إلا
واحدًا من العديد من التأثيرات التي يمكن أن تنجم عن انخفاض مستويات الإستروجين في
الدماغ. إذ وجدت مع فريقها البحثي أن انخفاض مستويات الهرمونات الجنسية له تأثيرات
هائلة على الأيض والاستجابات المناعية الدماغية لدى القوارض9 والبشر10 ولعل
السبب وراء ذلك يكمن في دور الإستروجين في تنظيم امتصاص الجلوكوز الذي يُعد مُغذي الدماغ
الرئيس، إذ وجدت برينتون وفريقها البحثي أنه عندما تنخفض مستويات الإستروجين، فإن
النشاط الأيضي في الدماغ ينخفض في البداية، "فيرسل الدماغ رسالة استغاثة قائلًا:
أنا أتضور جوعًا؛ أحتاج إلى وقود آخر".
وتشرح برينتون أنه استجابة
لتلك الرسالة، يبدأ الدماغ في التحوُل من الاعتماد على الجلوكوز إلى الدهون في
أيضه الغذائي. وتعتقد أن هذا التحول يمكن أن يؤدي إلى حدوث التهابات قد تسهم بدورها
في حدوث ضبابية الوعي التي تختبرها النساء في مراحل انقطاع الطمث، فضلًا عن زيادة
خطر الإصابة بمرض ألزهايمر ومرض باركنسون اللذين تتعرض لهما النساء بعد انقطاع
الطمث. كما تضيف أن "الفترة المحيطة بالطمث تمثل جزءًا مهمًا جدًا من هذا التحول"،
فعلى حد قولها: "يعتمد هذا حقًا على المسار الذي تسلكه الفترة المحيطة بانقطاع
الطمث، وما إذا كانت ستنتهي إلى مزيد من المخاطر بسبب الالتهابات، أم نجاة الجسم
في نهاية المطاف". من هنا، تجري برينتون وفريقها البحثي دراسات تصوير شعاعي لأدمغة
نساء في الفترة المحيطة بانقطاع الطمث، بحيث لا يقتصر نطاق نتائج الدراسة على
النماذج الحيوانية. وحتى الآن، تشير النتائج التي توصل إليها الفريق البحثي إلى أنه
بعد فترة من عدم الاستقرار العصبي البيولوجي، تتبدل عملية استهلاك الجلوكوز في
الدماغ لتسلك "روتينًا جديدًا" بعد انقطاع الطمث، ويتحسن أداء النساء في
اختبارات الذاكرة والإدراك10 .
من ناحية أخرى، فإن الدراسات الوبائية الجارية قد
تدعم وجود علاقة بين الفترة المحيطة بانقطاع الطمث وصحة الدماغ. فعلى سبيل المثال،
تسعى دراسة «صحة النساء عبر الأمة» في الولايات المتحدة الأمريكية إلى متابعة
الحالة الصحية لنساء تتراوح أعمارهن بين 42 عامًا و52 عامًا من خلال زيارات إكلينيكية
واختبارات دم، وفحوص لتصوير كثافة العظام، وذلك بهدف رصد بعض جوانب الفترة
الانتقالية المحيطة بانقطاع الطمث.
أما رانس، فقد تقاعدت وأغلقت مختبرها العام
الماضي، تاركة المجال، على حد قولها، مأهولًا بالباحثين على نحو أكثر قليلاً مما كان عليه
عندما بدأت، و"لكن ليس بالقدر الكافي، فلا يزال هناك متسع لضم مزيد من
الباحثين إلى أبحاث العلوم الأساسية هذه".
doi:10.1038/nmiddleeast.2023.82
- Rance,
N. E. & Young, W. S. III Endocrinology 128,
2239–2247 (1991).
- Manson, J. E. et al. JAMA 310, 1353–1368 (2013).
- Lobo, R. A. Nature Rev. Endocrinol. 13, 220–231 (2017).
- Renoux, C., Dell’Aniello, S, Garbe, E. & Suissa, S. BMJ 340, c2519 (2010).
- Dacks, P. A., Krajewski, S. J. & Rance, N. E. Endocrinology 152, 4894–4905 (2011).
- Prague, J. K. et al. Lancet 389, 1809–1820 (2017).
- Johnson,
K. A. et al. J. Clin. Endocrinol. Metab. https://doi.org/10.1210/clinem/dgad058 (2023).
- Coburn,
J. et al. J. Clin. Endocrinol. Metab. 107,
e4144–e4153 (2022).
- Yin,
F. et al. Neurobiol. Aging 36, 2282–2295
(2015).
- Mosconi, L. et al. Sci. Rep. 11,
10867 (2021).
تواصل معنا: