المدافعات عن البيئة كُنّ ضحايا
للقتل والتشريد والقمع والملاحقة الجنائية والعنف الجنسي
محمد السيد علي
قبل نحو شهرين، استدعى مكتب
جرائم المعلوماتية في لبنان الصحفية لارا بيطار -رئيسة تحرير موقع "مصدر
عام"- للاستجواب، وأحيلت قضيتها إلى محكمة
المطبوعات، بسبب شكوى من قِبل القوات اللبنانية حول تقرير نشره الموقع حول
ما وصفته بـ"دور هذه القوات تاريخيًّا في تسهيل استيراد النفايات السامة إلى
لبنان في أثناء الحرب الأهلية وبعدها".
وجاءت تلك الواقعة بعد أكثر من
عامين على انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020، بينما لا تزال آلاف العائلات التي
فقدت ذويها ومنازلها من جرَّاء الحادثة تنتظر توجيه اتهام رسمي إلى المسؤولين عن
تلك الكارثة.
ووصف بيان أصدره التحالف الإقليمي للمدافعات عن حقوق الإنسان في غرب آسيا وشمال
أفريقيا (WANA) استدعاء "بيطار" قائلًا:
إن استهداف المدافعات عن البيئة يُسكت الأصوات التي تفضح الجرائم البيئية"، مطالبًا
بـ"ضرورة توفير مناخ يدعم حرية التعبير لفضح الجرائم البيئية، وأن يتم إيقاف
تجريم فضح الفظائع البيئية".
"بيطار" واحدة من
نساء كُثر يتكبدن ثمن الدفاع عن البيئة حول العالم، في الوقت الذي لا تزال فيه
أخريات يدفعن فاتورة التغيرات المناخية؛ إذ تشير تقديرات برنامج
الأمم المتحدة للبيئة إلى أن 80% من
المُشرّدين بسبب تغيُّر المناخ هم من النساء.
ويؤكد البرنامج أن "المدافعات
عن حقوق الإنسان البيئية اللاتي يعملن لحماية الأرض والمياه والطبيعة والمجتمعات
المحلية يعرضن حياتهن للخطر؛ إذ يتم تجريمهنّ وإسكاتهنّ، وتهديدهنّ ووصمهنّ
بالعار، ويكنَّ أكثر تعرضًا للعنف الجنسي، بل وللقتل في الكثير من الأحيان"، مضيفًا
أنه "تم توثيق حوالي 1698 حالة عنف ضد المدافعات عن حقوق الإنسان في المكسيك
وأمريكا الوسطى في الفترة ما بين 2016 وحتى 2019".
تحليل عالمي
في أحدث رصد لهذه الظاهرة، كشفت
دراسة حديثة نشرتها دورية "نيتشر
ساستينابيليتي" أن "المدافعات عن
البيئة كُنّ ضحايا للقتل والتشريد والقمع والملاحقة الجنائية والمضايقات الجسدية".
وأوضحت الدراسة -التي أجراها
باحثان من معهد علوم وتكنولوجيا البيئة التابع لجامعة برشلونة المستقلة في إسبانيا-
أن هذه التجاوزات "تتركّز في الغالب بأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا،
ولكنها تحدث أيضًا في أمريكا الشمالية وأوروبا".
تقول دالينا تران، الباحثة بمعهد علوم وتكنولوجيا البيئة في جامعة برشلونة المستقلة في
إسبانيا، والمؤلف الرئيسي للدراسة: "تواجه المدافعات عن البيئة تحديات محددة
تختلف عالميًّا وفق السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية المتنوعة".
تضيف "تران" في تصريحات
لـ"نيتشر ميدل إيست": في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على سبيل المثال،
تواجه المدافعات عن البيئة تحديات تتعلق بعدم الاستقرار السياسي والنزاعات
المسلحة؛ إذ يتم استهدافهن بسبب نشاطهن، ويواجهن التهديدات والمضايقات والاضطهاد، ما
يحد من قدرتهن على الدفاع عن البيئة.
أما في أفريقيا جنوب الصحراء، فتشمل
التحديات الاستيلاء على الأراضي والتعدين غير القانوني واستغلال الموارد الطبيعية،
وتواجه النساء تهديداتٍ وترهيبًا وعنفًا، وفي آسيا، تواجه النساء تهديدات وعنفًا
وملاحقات قضائية، وفي أمريكا اللاتينية تتعرض نساء الشعوب الأصلية اللاتي يدافعن
عن أراضي أجدادهن للعنف بما في ذلك الاعتداء والتحرش الجنسي، وبينما تُوفّر الأطر
القانونية بالولايات المتحدة وأوروبا المزيد من الحماية للمدافعين عن حقوق
الإنسان، لا تزال المدافعات عن البيئة يواجهن تحديات قانونية ودعاوى تشهير لوقف
نشاطهن، وفق "تران".
واعتبرت "تران" أن
التصدي للعنف ضد المدافعات عن البيئة أمرٌ بالغ الأهمية، ليس فقط من أجل سلامتهن
ورفاهيتهن، ولكن أيضًا لحماية البيئة، ويتطلب ذلك جهودًا شاملة لتعزيز المساواة
بين الجنسين، وضمان مساءلة الجناة، وتعزيز الحماية القانونية، وخلق مساحات آمنة لمشاركة
المرأة وقيادتها في عمليات صنع القرار البيئي.
من جهتها، تقول الأردنية ريم السالم -مقررة الأمم المتحدة المعنية
بمسألة العنف ضد النساء والفتيات- في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": إن
مواجهة العنف ضد المدافعات عن البيئة تتطلب إستراتيجيات فعالة، أبرزها رفع مستوى
الوعي بالقضايا البيئية عبر وسائل الإعلام، وتمكين المدافعات عن البيئة ومساعدتهن
ماليًّا وقانونيًّا للدفاع عن حقوقهن، وضرورة العمل مع سلطات إنفاذ القانون لضمان
التحقيق في حالات العنف ضد المدافعات عن البيئة ومقاضاة مرتكبيها.
523 حالة
استندت الدراسة إلى تحليل
بيانات 523 حالة من أطلس العدالة البيئية، وهو أكبر قاعدة بيانات عالمية للنزاعات البيئية، التي تشمل النزاعات على
المياه والوقود الأحفوري والزراعة وإزالة الغابات.
وحدد الباحثون 523 حالة تتعلق
بالمدافعات عن البيئة؛ إذ تركزت النزاعات البيئية على التعدين والصناعات الزراعية
والصراعات الصناعية.
ووفق النتائج، تحدث النزاعات
البيئية عادةً عندما تستلزم مشاريع استخراج الموارد الطبيعية للتصدير الاستيلاء
على الأراضي والتدمير البيئي الذي يهدد الوجود الثقافي والمادي للمجتمعات المحلية،
ومثال ذلك الحركات النسائية المناهضة لأنشطة شركة "شيفرون" الأمريكية المختصة بالصناعات
النفطية في نيجيريا، و"مخيم السلام للنساء في جرينهام كومون" الذي بدأ
في سبتمبر من عام 1981 احتجاجًا على وجود الأسلحة النووية بقاعدة سلاح الجو الملكي
البريطاني في "جرينهام كومن" بمقاطعة باركشير الإنجليزية.
ومن بين الحالات، رصد الفريق
اغتيال 81 سيدة في 29 دولة بسبب دفاعهن عن البيئة، منها 19 حالة في الفلبين، و7 في
كلٍّ من البرازيل وكولومبيا و6 في المكسيك، ولم تكن جرائم القتل بعيدةً عن أراضي
الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا التي شهدت 6 حالات اغتيال.
وكان تقرير سابق نشرته منظمة "فرونت لاين ديفندرز" كشف أن "حوالي نصف جرائم
قتل المدافعين عن حقوق الإنسان البالغ عددها 401 والتي سُجلت في عام 2022 كانت ضد المدافعين
عن الأرض والبيئة"، في حين أشار تقرير نشرته منظمة "جلوبال ويتنس" في 29 سبتمبر 2022 إلى أن "أكثر
من ثلاثة أشخاص يموتون أسبوعيًّا في أثناء محاولتهم حماية بيئتهم؛ إذ لقي أكثر من
1700 شخص حتفهم خلال العقد الماضي في أثناء محاولتهم منع التعدين أو التنقيب عن
النفط أو قطع الأشجار".
تقول "تران": العنف
ضد المدافعات عن البيئة ينتشر لعدة أسباب، أهمها أنهن يتحدين الجهات الفاعلة
القوية والمصالح الخاصة، وعدم المساواة بين الجنسين والتمييز المتجذر، كما تفتقر
العديد من البلدان إلى الأطر والآليات القانونية الفعالة لحماية المدافعين عن حقوق
الإنسان، وغالبًا ما يتم تجاهل دور النساء المهم في النشاط البيئي أو تهميشه.
تضيف "تران": يمكن أن
تكون هناك عواقب وخيمة للعنف ضد المدافعات عن البيئة، مثل إسكات الأصوات، والإفلات
من العقاب، والتدهور البيئي، وإضعاف قدرة المجتمع على الصمود.
النساء وتغير المناخ
يأتي تصاعد العنف ضد المدافعات عن
البيئة في الوقت الذي تشير فيه التقارير الأممية إلى أن "النساء أكثر تعرضًا لخطر
العنف والتأثيرات الضارة لتغير المناخ، وما يتبعه من تدهور بيئي"؛ ففي الفترة
بين عامي 2000 و2019، أثرت الفيضانات وحالات الجفاف والعواصف على ما يقرب من 4
مليارات شخص حول العالم، ما أودى بحياة أكثر من 300 ألف، ويُدمّر التلوث النظام
البيئي، تاركًا آثارًا لا تزول، ويؤدي إلى وفاة 3.8 ملايين شخص سنويًّا بسبب
التلوث المنزلي، معظمهم من النساء والأطفال"، وفق تقرير أممي حول العنف ضد المرأة في سياق أزمة المناخ.
ويوضح التقرير أن "تأثيرات
تغير المناخ أكثر وقعًا على مَن يعيشون بالفعل على الهامش؛ إذ خلصت الدراسات إلى
أن النساء أكثر تعرضًا للوفاة من جرَّاء وقوع كارثة مناخية بمعدل يبلغ 14 مرة مقارنةً
بالرجال، وأن مخاطر التلوث تؤدي إلى عواقب صحية سلبية على الرضاعة والحمل
والولادة".
واعتبرت "تران" أن
النساء يدفعن أيضًا فاتورة تغيُّر المناخ، الذي يمكن أن يزيد العنف ضد المرأة من
خلال آليات مختلفة، مثل النزوح والهجرة وشح الموارد والمنافسة، وزيادة أعباء
العمل، على سبيل المثال، في المناطق المتضررة من الجفاف، قد تضطر النساء إلى السفر
مسافاتٍ أطول لجلب المياه أو الحطب، ما يعرضهن لمخاطر أكبر من العنف، بما في ذلك
الاعتداء الجنسي أو التحرش.
أما "السالم" التي
أعدت التقرير الأممي، فقد أشارت إلى أن تغير المناخ يمثل تهديدًا رئيسيًّا للنساء
والفتيات؛ إذ يزيد معدلات العنف والنزوح وفقدان سبل العيش، بالإضافة إلى زيادة
انعدام الأمن والفقر وعدم المساواة، خاصةً بين الفئات الضعيفة والمهمشة والشعوب
الأصلية ومَن يعشن في المناطق الريفية.
وأضافت أن تداعيات الكوارث
الطبيعية المفاجئة والتدهور البيئي وما ينجم عنه من تشريد قسري، تؤثر بشكل خطير
على حقوق النساء والفتيات في الحياة والحصول على الغذاء والمياه والمرافق الصحية،
والتعليم والسكن والعمل، وأن المرأة تتأثر بصفة خاصة بالكوارث البيئية، إذ تتعرض للعنف
البدني والجنسي، خاصةً في الفترات التالية للكوارث الطبيعية مثل الزلازل، والأعاصير،
وموجات الجفاف والحرائق.
نساء على الهامش
يواجه معظم مَن يعيشون بالمجتمعات
الساحلية -خاصةً في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا- زيادةً في الفقر
والتدهور البيئي والنزوح بسبب تغيُّر المناخ؛ لأنهم يعتمدون إلى حدٍّ كبير على
الموارد الطبيعية، مثل صيد الأسماك والزراعة، ما يجعلهم أكثر تأثرًا بتغيُّر المناخ.
وتُعَدُّ النساء في تلك المناطق
أقل قدرةً على التكيُّف مع تغيُّر المناخ؛ لأن أدوارهن غالبًا ما تقتصر على
الوظائف التي تجعلهن أكثر اعتمادًا على الموارد الطبيعية، كما أنهن يواجهن عقبات
في الحصول على موارد مالية أو يُحرمن من ملكية الأراضي، ما يجعلهنّ أقل قدرةً على
حماية أنفسهنَّ في مواجهة تغير المناخ، وفق منظمة العفو الدولية.
وفي محافظة كفر الشيخ التي تقع
أقصى شمال مصر في دلتا النيل، هناك نساء يمتهنّ الصيد في الترع الصغيرة والمصارف،
وسط تحديات منها قلة الموارد والتهميش، وعدم وجود مظلة تأمينية أو دخل ثابت لهن.
وتعتبر كفر الشيخ أعلى
المحافظات إنتاجًا للأسماك في 2020؛ إذ تغطي حوالي 60% من إنتاج مصر من الأسماك،
بمعدل 800 ألف طن سنويًّا، لكن معظم هذا الإنتاج يأتي من المزارع السمكية، أما أسماك
المياه العذبة فتمثل فقط حوالي 4% من الإنتاج، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر.
دعاء الجبالي -رئيسة شبكة
تاجرات ومُصنّعات الأسماك المصرية، التابعة للاتحاد الإفريقي- تقول: إن تغير
المناخ وما ينجم عنه من ارتفاع الحرارة، يؤدي إلى نفوق كبير في الأسماك، وانخفاض
أعداداها التي هي في الأصل قليلة، بالإضافة إلى هروبها إلى الأعماق، حيث تقل درجات
الحرارة، وبالتالي صعوبة الصيد لهذه الفئة التي لا تمتلك أدوات ومعدات للصيد،
ويعتمدن فقط على الصيد البدائي بأيديهن، في ظروف قاسية تعرضهن للإصابات والأمراض
المنقولة بواسطة المياه كالبلهارسيا.
وأضافت -في تصريحات
لـ"نيتشر ميدل إيست"- أن هذه الفئة من صائدات الأسماك يزيد عددهن عن
1000 سيدة في كفر الشيخ وحدها، وهن العائل الرئيسي لأسرهن، ويوجدن أيضًا في
محافظات أخرى مثل القليوبية.
وعن أكثر الإستراتيجيات
فاعليةً لتخفيف وطأة تغير المناخ بالنسبة للنساء، أفادت "السالم" بأن
ذلك يتطلب ضمان مشاركتهن بشكل كامل في جميع عمليات صنع القرار المتعلقة بتغير
المناخ، والاستثمار في البرامج والسياسات التي تدعم التمكين الاقتصادي للمرأة
وقدرتها على الصمود، خاصةً بالنسبة للفئات المُهمشة، ومعالجة الأسباب الجذرية
للعنف القائم على النوع الاجتماعي، مثل عدم المساواة والتمييز، بالإضافة إلى توفير
الوصول إلى التعليم الجيد والرعاية الصحية للنساء والفتيات.
تواصل معنا: