العنف ضد العاملين بالرعاية الصحية في مصر مشكلة مُزمنة.. وتوصيات بتوفير بيئة تساعد الأطباء على أداء عملهم دون الإخلال بحق المرضى في تلقِّي الرعاية اللازمة
محمد السيد علي
"فى
غياب قانون المسؤولية الطبية.. حكم قضائي بحبس 3 أطباء لمدة 5 سنوات، وتعويض 10
آلاف جنيه، لاتهامهم بالتسبب في وفاة طفلة".. خبر أعلنته نقابة الأطباء المصرية في 3
يناير 2024، مُستنكرةً تأخر صدور قانون للمسؤولية الطبية يضمن الحفاظ على حقوق
المرضى وحماية الفريق الطبي.
هذه
الحالة واحدة من عشرات الوقائع التي يتعرض لها الأطباء المصريون، فيما يُعرف بـ"الطب
الدفاعي"، وهو ممارسات يلجأ إليها الأطباء لتقليل خطر التعرض لدعاوى قضائية،
وليس لأسباب طبية، ومنها إجراء اختبارات أو تقديم أدوية غير ضرورية، أو رفض اتخاذ
إجراء طبي لحالة خطيرة تخوفًا من حدوث مضاعفات.
إضافة إلى
ذلك، كشفت دراسة نشرتها دورية "ساينتفك ريبورتس" (Scientific
Reports) عن انتشار
واسع النطاق لممارسات الطب الدفاعي في مصر، وما ينجم عنه من زيادة تكاليف الرعاية
الصحية، والضرر المحتمل للمرضى نتيجة الإجراءات غير الضرورية.
روتين عميق
أوضح الباحثون
أن "الطب الدفاعي متأصل بشكل عميق في روتين الأطباء في مصر، وهذا يستدعي
ضرورة إقرار إطار قانوني وطني شامل للمسؤولية الطبية، لتحقيق التحسين في جودة
الرعاية الصحية وتقليل التكاليف الطبية الزائدة".
من جهته،
يقول أحمد عرفة، الباحث بقسم الصحة العامة وطب المجتمع في كلية الطب بجامعة بني
سويف المصرية، وقائد فريق البحث: "إن هناك نوعين رئيسيين للطب الدفاعي: الأول
إيجابي يتمثل في إجراء إحالات وإجراءات طبية غير ضرورية مثل طلب اختبارات غير
ضرورية، ووصف أدوية غير ضرورية، والثاني سلبي يتمثل في تجنُّب التعامل مع المرضى
المعرضين للخطر الشديد، وتجنُّب الإجراءات الطبية عالية المخاطر خوفًا من المساءلة
القانونية".
وعن
العواقب، يضيف "عرفة" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": الطب
الدفاعي الإيجابي يرفع تكاليف الرعاية الصحية وربما يُلحق الضرر بالمرضى من خلال
إخضاعهم لاختبارات وإجراءات غير ضرورية، في حين قد يمنع الطب الدفاعي السلبي
المرضى المعرضين للخطر الشديد من تلقِّي الرعاية الصحية المناسبة.
وتتنشر
ممارسات الطب الدفاعي بجميع أنحاء العالم، وفق دراسة شملت عددًا من
أطباء الجهاز الهضمي؛ إذ أقر 98% من الأطباء اليابانيين بانخراطهم في ممارسات طبية
دفاعية، في حين ذكر 88% من أطباء أمراض الثدي في الولايات المتحدة لجوءهم إلى الطب
الدفاعي، أما في الصين، فقد أيد 62.9% من أطباء النساء والتوليد مفهوم الطب
الدفاعي.
تقييم
الانتشار
استهدفت
الدراسة الحديثة تقييم مدى انتشار ممارسات الطب الدفاعي في مصر، وعلاقتها بدعاوى
سوء الممارسة والاعتداء على الطواقم الطبية في أثناء العمل.
واستطلع
الباحثون آراء 1797 طبيبًا في تخصصات متنوعة، بينهم 68.1% ذكور، بمتوسط عمر 36.8
سنة، خلال الفترة من 14 يناير إلى 23 فبراير 2023.
وكشفت
النتائج أن 89.6% من المشاركين اعترفوا بتجنُّب الإجراءات الطبية عالية الخطورة،
في حين امتنع 87.8% عن علاج المرضى المعرضين للخطر الشديد، واعترف 86.8% بإجراء
إحالات غير ضرورية، كما اعترف 84.9% أيضًا بطلب اختبارات غير ضرورية، وأبلغ 61.4%
عن إجراء ممارسات طبية غير ضرورية، وكشف 56.4% عن وصفات أدوية غير ضرورية.
واختلفت
وتيرة معدلات ممارسات الطب الدفاعي بين التخصصات؛ إذ أظهرت الدراسة أن أطباء النساء
والتوليد وجراحة العظام والجراحة التجميلية حصلوا على أعلى المعدلات، في حين حصل
أطباء الباثولوجيا والتغذية على أدنى المعدلات.
عواقب سلبية
يرى "عرفة"
أن تصدُّر التخصصات الجراحية لمعدلات الطب الدفاعي نتيجة متوقعة تمامًا؛ لأن هذه
التخصصات قد تحمل عواقب طبية سلبية.
وتتمثل
أبرز العوامل المرتبطة بهذه الممارسات في صغر العمر الذي يرتبط بنقص خبرة الأطباء
الشباب، بالإضافة إلى التعرُّض للعنف الجسدي في مكان العمل، وتجنُّب ادعاء سوء
الممارسات الطبية وما ينجم عنها من خطر التعرُّض لدعوى قضائية، وفق
"عرفة".
من
جهته، يقول أحمد بنداري، أستاذ أمراض القلب والأوعية الدموية المساعد بكلية الطب بجامعة
بنها، وغير المشارك بالدراسة: "إن الدراسة تقدم نظرة نقدية على الطبيعة
السائدة للطب الدفاعي بين الأطباء المصريين، وهي بمنزلة دعوة للاستيقاظ بأن هذه
الممارسات ليست مجرد عرَض، بل مشكلة عميقة تحتاج إلى علاج شامل وجذري".
يضيف
"بنداري" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": المفارقة المُحزنة هي
أن الأمر يجعل الطبيب في حالة تأهُّب قصوى دائمة، تدفعه للتفكير مليًّا في كل قرار
يتخذه، ليس فقط من أجل الفاعلية الطبية، ولكن من أجل السلامة القانونية أيضًا.
ويتابع:
إنه سيناريو مثير للقلق؛ إذ ينقسم انتباه الطبيب بين ما هو أفضل للمريض، وما هو
أكثر أمانًا لمسيرته المهنية، والمعدلات المرتفعة للعنف ضد الأطباء في مكان العمل
المُبلغ عنها مثيرة للقلق، وتشير إلى وجود مشكلات أوسع نطاقًا بقطاع الرعاية
الصحية.
بدورها،
تقول آمال محفوظ، أستاذ النساء والتوليد بجامعة طنطا في مصر، وغير المشاركة بالدراسة:
"إن انتشار هذه الممارسات يكون مدفوعًا بتأمين الموقف القانوني للطبيب حال
وقوع أي أخطاء لا دخل له بها، وخوفًا أيضًا من الاعتداء عليه".
وأضافت
لـ"نيتشر ميدل إيست": يجب تلقِّي الأطباء للتدريبات اللازمة، وسن قوانين
رادعة للحد بشكل كبير من الممارسات التي تضر بالطبيب والمريض على حدٍّ سواء، وتوفير
بيئة مواتية للأطباء لأداء واجبات عملهم دون الإخلال بحق المرضى في تلقِّي الرعاية
اللازمة.
حلول
مقترحة
وبناءً
على نتائج الدراسة، أشار "عرفة" إلى أن الحد من العوامل المتعلقة بالطب
الدفاعي يتطلب مجموعةً من الممارسات، في مقدمتها رفع مستوى الوعي حول الطب الدفاعي
بين الأطباء وطلاب الطب، وخاصةً التخصصات الجراحية.
وأضاف:
العنف ضد العاملين بالرعاية الصحية في مصر مشكلة مُزمنة، وهناك دراسات سابقة توثق
هذه الاعتداءات، ويجب تخفيف هذه الأزمة من خلال تحسين القطاع الصحي بأكمله، وخاصةً
إدارة الصحة، وتقديم خدمات صحية عالية الجودة، وإصدار قوانين صارمة تجرِّم العنف
ضد العاملين بالرعاية الصحية.
أما "بنداري"
فاعتبر أن الأفكار الإصلاحية المنبثقة عن هذه الدراسة توفر خريطة طريق لمعالجة
الطب الدفاعي، ليس فقط في مصر، بل ربما في جميع أنحاء العالم.
وأضاف:
الإصلاحات القانونية التي تركز على توضيح المسؤوليات الطبية وتحسين ظروف مكان
العمل، وتعزيز التواصل واتخاذ القرارات المشتركة مع المرضى، هي خطوات حيوية إلى
الأمام، وهذه الدراسة هي دعوة قوية لصانعي السياسات ومؤسسات الرعاية الصحية
والأنظمة القانونية للعمل بشكل تعاوني من أجل بيئة رعاية صحية أفضل.
تواصل معنا: