المقالب الدعابية، سواء يوم
كذبة إبريل أو على مدار العام، تُعمِل ملكة التفكير الإبداعي بين العلماء وتبني
بينهم روح الفريق.
أماندا هايدت
في الأول من إبريل عام 2022، تلقى جون برينسر، الذي كان آنذاك
باحثًا متخصصًا في بيولوجيا الأورام السرطانية في مرحلة ما بعد الدكتوراة، رسالة
عجيبة. طُبعت الرسالة على ورق معنون برأسية تبدو ذات طابع
رسمي، واستعرضت بإيجاز خططًا لإقامة معرض يحييه معهد سميثسونيان تكريمًا لمشروع
الجينوم البشري، الذي خرجت بفضله إلى النور في عام 2001 المسودة
الأولى لتسلسل الجينوم البشري.
وذكر كاتب الرسالة أنه علم من أشخاص تجمعه صلات مهنية بهم أن برينسر يملك بين يديه
جزءًا من هذا التاريخ؛ إذ تقبع على منضدة مختبره، في معهد برود التابع لمعهد
ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد في كامبريدج بولاية ماساتشوستس، آلة لإجراء
تفاعل البوليميراز المتسلسل من طراز PTC-200، استُخدمت في هذا المشروع الرائد.
وكان برينسر قد ورث الآلة عن زميل له من معهد وايتهيد المجاور، حيث
أُجري جزء كبير من أبحاث المشروع، وكانت من الآلات المفضلة لبرينسر لأن تشغيلها
اتسم ببساطته البالغة. وقد اعتمد عليها بشكل حصري، وكانت بحلول ذلك الوقت بعمره
تقريبًا. ولما توقفت عن العمل في نهاية المطاف، فككها لمحاولة إصلاحها. إلا أنها
لم تعاود العمل قط، وظلت تراكم الغبار إلى أن وصلت الرسالة. ويسرد لنا برينسر
موقفه آنذاك قائلًا: "كنت أرفض التخلص من هذه الآلة لأنني كنت مفتونًا بها،
لذا انتابني الحماس عندما علمت أنها قد تحظى بفرصة حياة جديدة، وهذا إلى أن قلبت
ورقة الخطاب".
ذكر الخطاب على ظهر ورقته أن معهد سميثسونيان يُعنى أيضًا بجمع
آلات الصوت الكلاسيكية التي عفى عليها الزمن، ومنها جهاز الكاسيت المكبر للصوت الخاص ببرينسر الذي كان بالكاد يعمل ويعود إلى عام
1995، لكن لما تنبه برينسر إلى زملائه وهم يحومون خلسة حوله، سرعان ما أدرك أن
الأمر برمته كان على الأرجح مقلبًا. تعقيبًا على ذلك، يقول برينسر: "من حسن
الحظ أن المختبر سادته روح عمل جيدة للغاية، لذا لم تكن هناك أي ضغائن".
وأضاف أنه بعدما ترك العمل في المختبر في عام 2023 ليؤسس مختبره الخاص بكلية طب
جامعة ميشيجان في آن آربور، تخلص من آلة تفاعلات البوليمراز المتسلسل، إلا أنه
احتفظ بجهاز التسجيل المكبر للصوت والخطاب.
المقالب الدعابية كهذه تحدث في المختبرات يوميًاوالكثير منها يرسخ كتقليد جماعي، يستمر بين فرق العمل والطلاب لعدة أجيال. وقد اتضح أن هذه المقالب لا تتمحور فقط حول رسم الضحكة على
الوجوه، بل لها الكثير من الجوانب الأخرى، ويمكن أن تخدم أغراضًا مهمة، كأن تكون
أداة لبناء روح الفريق، كما قد تخدم كمتنفس إبداعي في بيئة عمل كثيف تخلو فيما عدا
ذلك من أوجه الإبداع. كذلك قد تخدم كوسيلة إرشاد. ورغم أن المزاح قد يأخذ أي شكل
تقريبًا، ثمة قواعد أساسية تحكمه، تحدد ما إذا كان توقيته ملائمًا وما إذا كان
ملائمًا من الأساس. (سلامة المختبر تأتي أولًا: لم يتأذ باحثون أو تجارب من جراء
هذه المقالب الدعابية).
و"أساس المقلب الدعابي الجيد هو أن تجمعك علاقة حب واحترام
بالشخص الذي توقعه بالمقلب"، كما يقول جيس ماكلافلين الذي خبأ ذات مرة أحصنة
بلاستيكية صغيرة عثر عليها في صندوق على رصيف في جميع أنحاء مختبر فريق عمله خلال
عمل أفراد الفريق على أطروحة لمرحلة ما بعد الدكتوراة في علم الجينوم بجامعة
كاليفورنيا (UC) في مدينة بيركلي
الأمريكية. ويوضح ماكلافلين ذلك قائلًا: "لا يكون الدافع من وراء المقلب
التسبب في ضيق شخص، بل أنت تصنع المقلب مؤازرة لهذا الشخص وليس ضده".
مدينة دايفيس الأمريكية، مرت بتجربة مماثلة في عام 2018، عندما
كانت طالبة في مرحلة الدكتوراة بكلية بيركلي التابعة لجامعة كاليفورنيا. فلعدة أسابيع، قبعت دودة نافقة ألفية الأرجل في
بيت الدرج الذي اعتادت ثاير استخدامه للوصول إلى مختبرها، إلى أن دب مشهد جنائزي
يومًا ما حول الدودة، اكتمل بشاهد قبر وقسيس وبعض الشجيرات. وسرعان ما أضاف طلاب
آخرين لمسات إلى المشهد، مستخدمين في كثير من الأحيان نماذج حيوانية نافقة اعتزوا
بها في أبحاثهم. وأسهمت ثاير في المشهد بفراشة من أبحاثها حول تطوُر ألوان الفراشات،
استقرت إلى جانب بعض من ذباب الفاكهة وحشرات الأرماديلا. وحول ذلك، تقول ثاير:
"بهذا، أصبح تسلق الدرج وهبوطه مزحة خاصة بين فريق العمل"، مضيفة أن تلك
كانت لحظة "دعابة خفيفة ظل، تشاركها أفراد المختبر في صمت، في جزء ممل من
اليوم، خلا تلك اللحظة".
دليل المقالب
بعض العلماء، ومن بينهم ماكلافلين يغتنم الفرصة لصنع المقلب،
فيفجره متى فتح الكون أبوابه لذلك. البعض الآخر يترصد اللحظة. مونيكا تومازيوسكي،
وهي مديرة برامج من جامعة بيتسبرج في بنسلفانيا، تذكر أنها لصقت بعض الصمغ لتثبيت
طباشير المعلمين في مدرستها في مكانه، لكن مهاراتها في صنع المقالب نمت حقًا خلال
رسالتها لنيل الدكتوراة من الجامعة نفسها. فعندئذ، اكتشفت أن المشرف على أطروحتها
- وهو الآن متقاعد - تمتع بحس دعابي مماثل. ولأنه كان كنديًا، دبرت تومازيوسكي
مقلبًا يجعل مكتبه يفوح برائحة تشبه شراب القيقب. فجلبت محلول شمع معطر، وكانت كل
ربيع تضعه على مُشع الحرارة الخاص به، في غرفة احتفظ بها بمجموعة من 70 نبتة صبار.
تعقيبًا على ذلك، تقول تومازيوسكي: "ظل مكتبه يفوح برائحة
تشبه رائحة شراب مُحلى لعدة أسابيع، دون أن يملك أدنى فكرة عن السبب". بيد
أنه يومًا ما شاركها سرًا شكوكه في هذا الصدد، قائلًا إنه يعتقد أن نبتات الصبار
الخاصة به يتسلل إليها الحر وتفرز فيرومونات. وتعقب تومازيوسكي على ذلك قائلة:
"كم كان هذا قولًا مضحكًا! لأن نبات الصبار لا يدخل في دورة تزاوج، وقد اعتقد
ذلك رغم أنه عالم بيولوجيا شديد الذكاء".
كادت تومازيوسكي أن تكشف أمر المقلب في عدة أوقات، لكنها أبقت على هذا
التقليد، حتى إنها أعطت المحلول المعطر لعدد من زملائها في المختبر عندما تركت
العمل به، إلى أن أقرت ذات يوم على غداء بعدها ببضعة سنوات بأنها دبرته.
وإحدى القواعد غير المصرح بها بين قواعد المقالب الدعابية العديدة
هي استهداف من في موقع السلطة منك، واستهداف النظراء، من الزملاء والأصدقاء في
المنصب نفسه. أما تدبير مقلب بحق من تملك سلطة عليهم، فهو مما لا شك فيه يجافي
اللياقة، كما أفاد باحثون في لقاء صحفي مع دورية Nature.
كذلك ثمة مؤشرات اجتماعية تحسم مدى ملاءمة تدبير مقلب بحق شخص ما.
في ذلك الصدد، تقول جينيفر فيليبس، وهي باحثة مساعدة متخصصة في علم الجينات من
جامعة أوريجون في مدينة يوجين الأمريكية إن المسألة رهن في كثير الأحيان بملاءمة
التوقيت والمكان والشخص؛ إذ لا تتبنى جميع المختبرات ثقافة المقالب الدعابية،
وديناميات فرق العمل تتغير باستمرار مع انضمام الأشخاص لهذه الفرق ومغادرتهم لها،
وفي حال فيليبس، عندما انضمت إلى الجامعة لإعداد أطروحة الدكتوراة الخاصة بها في
عام 1998، بتعبيرها: "تألف المختبر من مجموعة فريدة من الأشخاص جلبوا معهم
خلال العمل روح المرح".
على سبيل المثال، قام مقلب دعابي صمد طويلًا على الموقِّتات
المستخدمة لمتابعة سير التجارب. تقضي قواعد اللياقة بالمسارعة بإسكات صفير أجهزة
إنذار هذه الأجهزة لتجنُب إزعاج الآخرين، لكن لم يسر الأمر وفق هذا المنوال دومًا.
أول خرق لهذه القاعدة قد يكون جزاؤه بعض المعابثة الهينة، لكن هذا قد يتطور سريعًا
إلى إرغامك على دفع رشوة من وجبة خفيفة لاستعادة الموقِّت الخاص بك، أو حفر كلمات
بذيئة على الموقِت الذي يخرق القاعدة، أو، في أسوأ الأحوال، دس الموقِت في هلام
الأغاروز. وتقول فيليبس أنه في بعض الحالات لم يدرك البعض سريعًا ماهية ما يجري.
وقد ساعدت هذه المقالب في خلق مناخ من المساواة، بحسب ما تفيد
فيليبس، التي أضافت: "أجواء المرح جعلت مفاتحة أحدنا الآخر بالأسئلة
أسهل"، وحسبما تشير، هكذا كانت الحال بالنسبة لها هي بالأخص، كطالبة مستجدة.
وتضيف: "على الجانب الآخر، كنا أيضًا نحظى باجتماعات مكثفة في المختبر، أمكن
للبعض فيها أن يلذع في نقد بيانات ورقتك البحثية. وهذه الثقافة الجامعية التي سادت
المختبر جعلت هذه الانتقادات تبدو بناءًة بدرجة أكبر لمتلقيها ونأت بها عن
الشخصنة.
وبالفعل، في أوساط الباحثين الذين حاورتهم دورية Nature في هذا الصدد شاع
تعزيز أواصر العلاقات الاجتماعية بالدعابة كسبب لابتكار المقالب الدعابية. على
سبيل المثال، ذات يوم، في عام 2006، في أثناء جرد كانت تومازيوسكي وزملائها يجرونه
لمخزون المختبر، عثروا على زجاجة من محلول كلوريد الصوديوم كان يفصلها شهر عن
عامها الواحد والعشرين. وبدلًا من التخلص من الزجاجة، أقام فريق العمل حفل عيد
ميلاد لها احتفالًا بهذه المناسبة. وتسترجع تومازيوسكي أحداث هذه اللحظة قائلة:
"وضعنا أحد هذه القبعات الصغيرة مثلثة الشكل عليها"، وفيما بعد أخذ
الفريق استراحة في حانة محلية باسم « فيلثي ماكناستي» لتناوُل شراب نخب وصول
الزجاجة إلى عمر البلوغ!
ورغم أنه لا ينصح باستهداف المستجدين أو أعضاء فريق العمل ممن في
صغار المناصب، فمن المنطقي تمامًا إشراكهم في تدبير المقالب. على سبيل المثال، في
عام 2015، أشركت اختصاصية علم الحفريات القديمة ليزا باكلي طلاب الدورة الصيفية في
مختبرها في حرب مقالب ممتدة بينها وبين زوجها المتخصص في علم الحفريات القديمة
ريتشارد ماكري.
وقد وجدت باكلي في هذه الخطوة شكلًا من أشكال بناء روح الفريق،
تعزز أواصر العلاقات التي تغدو لولا ذلك علاقات مؤقتة. وقد طبعت مع طلاب مختبرها
صورًا لقطط وغزلت عشرات من القطط الصغيرة، نشرتها في أرجاء مكتب ماكري في مركز
أبحاث علم الحفريات القديمة بمنطقة بيس في بلدية تمبلر ريدج الكندية، حيث عمل
الزوجان كقيِّمين على حفريات المركز. وردًا على "حرب القطط" هذه، شن
ماكري ثأرًا "حرب عناكب"، ففوجئت باكلي لدى عودتها إلى مكتبها بعد أسبوع
من العمل الميداني بأن مكتبها يعج بشباك عناكب زائفة وبمئات من العناكب المزيفة،
من بينها عنكبوت ضخم يطل من أعلى مكتبها، وآخر يتدلى أسفله. وقد ظل كل من باكلي
وماكري يكتشف القطط والعناكب بين أغراضه لسنوات بعد هذه الحرب، فكانا يعثران عليها
مندهسة بين صفحات الكتب ومخبأة في الصناديق، حتى بعد أن ترك كل منهما منصبه لآخر
جديد. وتعقيبًا على ذلك، تقول باكلي إن هناك على الأرجح المزيد من القطط والعناكب
المخبأة في المختبر، فضلًا عن دارة إلكترونية تركتها على سقف المختبر، تضج بصفة
دورية بصوت صرير جندب.
وهنا تقول باكلي: "أشفق على من سيضطر إلى شغل أي من هذه
المكاتب".
الدافع من المقلب
تتطلب المقالب وقتًا وجهدًا، لكنّ بعض العلماء يؤكدون أنها جديرة
بتجشم عناء انخفاض الإنتاجية قليلًا جرائها، بالنظر إلى المنافع التي تعود بها روح
الدعابة والمعابثة، ومن بينها الحد من وطأة ضغوط المجال الأكاديمي. فالباحثون في مقتبل مسيرتهم المهنية،
يواجهون بصفة متزايدة الإحباط على جانبين، هما ركود
الرواتب وضعف
فرص التقدم المهني. والمقالب الدعابية، على
حد قول باحثين، تخدم كوسيلة لتخفيف وطأة هذه الضغوط، وتبقي على شغف الباحثين
بمجالهم المهني. وتؤيد تومازيوسكي هذا
الرأي قائلة: "الانخراط في عمل سخيف في المختبر، سواء بتدبير مقلب دعابي أو الذهاب
للغناء على ألحان مشغل كاريوكي، يجعلك تتذكر أن العمل ممتع".
ومما لا شك فيه أن الباحثين يذكرون باعتزاز المقالب الدعابية التي
دبروها، لا سيما من يقولون منهم إنهم نضجوا فيما بعد ليغدوا أشخاصًا مملين يفتقرون
إلى روح المزاح. على سبيل المثال، دانيال بولنيك، وهو اليوم متخصص في علم الأحياء
التطوري من جامعة كونيتيكيت في ستورز، كان في مقتبل مساره المهني مولعًا بالمزاح.
فقد أودع ذات يوم يدًا مطاطية تبدو وكأنها من جسد حي في مجمد زميل له في درجة
حرارة تصل إلى -80 درجة مئوية، وخلال سنوات دراسته كطالب، صمم ملصقًا في أحد
المؤتمرات، يزعم فيه أنه يسوق دليلًا علميًا على تأثير الفراشة؛ وهو ملمح من نظرية
الفوضى، يصف كيف يمكن لرفرفة جناح فراشة في جانب من العالم أن تؤدي إلى إعصار في
الجانب الآخر منه. وقد شاهد شريكه في
المقالب إيفان برايسر، عالم الإيكولوجيا المجتمعية من جامعة رود آيلاند في
كينزينجتون يطرح هذا العمل البحثي تحت اسم مستعار. وعن ذلك، يقول برايسر:
"فطن رفاقنا إلى أنه مقلب أو لم يفطنوا إلى ذلك. والأشخاص في المجموعة
الثانية حاول بعضهم تثقيفنا، والبعض الآخر انزعج لأنه كان موقنًا من خطأنا لكن لم
يستطع إثبات ذلك".
أما بولنيك، فيقول إن العودة بذاكرته إلى هذه المقالب تمنحه شعورًا
بالارتياح، معللًا لذلك بقوله: "إنها تذكرني بأوقات أعملت فيها قريحة
الابتكار العلمية". ويضيف أنه قد يشعر أنه مُضطر إلى معاودة تدبير المقالب،
وإن كان يعتزم البدء بمزاح هين. ويُصادف أن بعضًا من طلابه السابقين أصبحوا اليوم
أعضاء هيئة تدريس في قسمه، وبما أنهم في منصب مماثل له، فهو يجدهم فريسة مباحة.
وختامًا يقول: "هذا يجعل الأمر سهلًا، وأعي تمامًا من سيكونون أولى
ضحاياي".
تواصل معنا: