جدل مستعر حول توجيهات جديدة لتشخيص داء أُلزهايمر مبكرًا
نشرت بتاريخ 7 سبتمبر 2024
وفقًا لتوصيات خبراء، يمكن الشروع في تشخيص المرض برصد الخصائص
البيولوجية الكامنة له، من قبل حتى نشأة التدهور الإدراكي الناجم عنه.
لورا هيرتشر
يستحيل بالطبع الوقوف بدقة على أولى اللحظات التي اشتبهنا فيها بأن
التغيرات التي طرأت على أمي مردها إلى شيء بخلاف تقدم العمر الطبيعي. لعل أبرز
موقف يذكره عقلي بذاكرته المحدودة في هذا السياق هو ذاك الصباح من أول يوم في رحلة
دامت أسبوعًا إلى روما؛ عندما استيقظت
أمي في الساعة الثانية صباحًا، وارتدت ثيابها، وهبطت الدرج لتناول الإفطار. وجدها عامل بالفندق تتجول من غرفة إلى أخرى
باحثة عن خبز محمص وبعض القهوة. تعللت أنا وأخي بأن إعياء السفر وفرق التوقيت هو
ما حدا بها إلى هذا السلوك، وإن لم نشعر بالارتياح تمامًا إلى هذا التفسير. فموقف
كهذا قد يحدث لأي شخص. لكن ألم تكن هناك
علامات منذرة؟ ألم تلحظ ظلام الردهة، أو سكون الليل، أو الساعة؟
هل كانت لتسنح لنا مساعدتها لو أننا فطننا إلى حقيقة الموقف؟ حتى
يومنا هذا، لم تعتمد إدارة الغذاء والدواء الأمريكية علاجًا للمعرضين بخطر الإصابة
بداء أُلزهايمر ممن لا تظهر عليهم أعراض المرض (AD). كانت أمي غير مدخنة،
وغير مسرفة في تناول الكحوليات، كما كانت تقرأ الكتب، وتتلقى دورات تدريبية، وقد
أمضت الأسبوع خلال الرحلة في التشرب بكل ما أطلعها عليه المرشد السياحي عن
الرسامَين كارافاجيو وبيرنيني، كما لو أنها تستعد لخوض اختبار.
كان هذا قبل خمس سنوات من تشخيصها بالإصابة بالخرف. أما اليوم،
فيمكن لفحص دم بسيط أن يرصد التغيرات التي تطرأ على الدماغ وتنذر بالإصابة بداء
أُلزهايمر، قبل أول ظهور لأعراض المرض بفترة تصل إلى 15 عامًا. ومثل هذه الأدوات التي تتيح اكتشاف المرض
مبكرًا تعطي الباحثين فكرة عن شتى أطيافه، للوقوف على البوادر الأولى لاعتلالاته
التي تطرأ عميقًا في الدماغ. فالتدهور
الإدراكي - الذي نحسبه في حد ذاته الداء - ليس إلا النتيجة النهائية لتفاقم المرض
في المراحل الأخيرة منه. بعبارة أخرى، "الخرف هو نتيجة، وعرض"، بتعبير
كليفورد آر. جاك، اختصاصي علم الأعصاب من مركز مايو كلينك الطبي في مدينة روتشيستر
بولاية مينيسوتا الأمريكية، وهو رئيس مجموعة عمل «جمعية مكافحة داء أُلزهايمر» (AA) التي أصدرت توجيهات جديدة مثيرة للجدل حول تشخيص الداء بناءً على
خصائص بيولوجية كامنة، وليس عوارض إكلينيكية.
ويُذكر في هذا السياق، أن الواسمات الحيوية الدالة على الإصابة
بالداء - أي العلامات التي تؤشر على حدوث تغيرات دماغية فسيولوجية تسهم في تقدم
المرض - سنح للعلماء رصدها منذ أكثر من عقدين. وفي عام 2007، رأت مجموعة عمل دولية
(IWG) من خبراء دراسة الخرف
أن هذه الواسمات الحيوية تخدم كدليل يدعم تشخيص الإصابة بداء أُلزهايمر، الذي صمد
آنذاك إلى حد كبير تعريفه الذي وضعه له في عام 1906 اختصاصي علم الأعصاب ألويس
أُلزهايمر، ألا وهو: فقدان الذاكرة المتفاقم والارتباك وتغير الشخصية الناجم عن
تراكم لويحات وتشابكات ليفية في الدماغ. ولقرابة قرن من الزمان، لم يمكن التحقق من
هذه التغيرات الدماغية إلا بالتشريح بعد الوفاة. أما خلال حياة المصاب بالداء، فلم
يكن التشخيص بالمرض إلا محض افتراض. وفي الواقع، وجدت عدة دراسات قائمة على
التشريح بعد الوفاة أن ما يصل إلى 30% ممن شُخصوا إكلينيكيًا بالإصابة بالداء، خلت
أدمغتهم من اللويحات والتشابكات الليفية المميزة للمرض.
فهل تصنع معرفة السبب الذي يؤدي إلى
الإصابة بخرف عضال فارقًا إذا كانت النتيجة هي ذاتها؟ الإجابة هي: نعم، وذلك لعدة
أسباب. فعدم الوقوف بدقة على السبب يعني حصول المصابين بالداء وأسرهم على معلومات
أقل دقة عن مآل المرض، وعن مدى خطورة تجدد اندلاع الإصابة به بين أفراد آخرين من
الأسرة. وهذا يضع عقبة أمام الباحثين الذين يدرسون خلائط مربكة من المجموعات
السكانية التي قد تملك أو لا تملك هذا التركيب التشريحي الدماغي. تعقيبًا على ذلك،
يتساءل جاك بنبرة مشوبة بالسخط: "هل يمكنك أن تتخيل تجربة إكلينيكية لعلاج
السرطان لا يملك ثلث المشاركين فيها ورمًا سرطانيًا؟"
والأخذ بالواسمات الحيوية في الرعاية
الإكلينيكية كان يُنظر له على أنه طريق محتمل يمكن من خلاله تعزيز يقينية التشخيص
بالإصابة بداء أُلزهايمر. لكن في عام
2018، برعاية «جمعية مكافحة داء أُلزهايمر» والمعهد الوطني الأمريكي لدراسات تقدم
العمر (NIA)، تقدم فريق خبراء بطرح
اختلف اختلافًا جذريًا، ألا وهو أن الواسمات الحيوية لا تجزم فحسب بالإصابة بداء
أُلزهايمر، بل هي في حد ذاتها تصنع التشخيص. وبموجب هذه المبادئ، فإن داء
أُلزهايمر، وهو حالة مرضية تتسم بنشأة رواسب بروتينية غير طبيعية في الدماغ، يبدأ
بمرحلة غير مصحوبة بأعراض ويتفاقم، مع امتداد عمر المريض بالقدر الكافي، ليتحول في
نهاية المطاف من قصور إدراكي طفيف (MCI)، إلى مستوى من الخرف
يعرقل مزاولة أنشطة الحياة اليومية.
وبحسبما يرى باحثون، فإن صوغ مفهوم جديد
للداء، على أنه سلسلة متصلة ذات مراحل مختلفة، تتسق مع حدوث
تغيرات فسيولوجية في الدماغ، يعود بفوائد. فكما
كتب برونو دوبوا، الأستاذ المتخصص في علم الأعصاب من مستشفى بيتي سالبيترير
الجامعي في باريس، وهو عضو بارز في مجموعة العمل الدولية سالفة الذكر، في ورقة بحثية نُشرت عام 2018:
"تناوُل داء أُلزهايمر بالدراسة في مرحلة الخرف فقط ضار بالرعاية الصحية
للمرضى المصابين بالداء". فالخرف، كما يراه، هو دليل على تلف يتعذر بالفعل إصلاحه، أما
الوقوف على الإصابة مبكرًا لدى الأشخاص، فيفتح الباب أمام أشكال الرعاية الوقائية،
إن سنحت يومًا، ويتيح كنزًا ثمينًا من العلاجات الواعدة في الدراسات البحثية. لهذا
السبب، أُشير إلى أن توجيهات عام 2018 تصوغ "إطارًا
بحثيًا"، الغرض منه توضيح أن توصياتها لا تستهدف حقل الممارسة الإكلينيكية
العامة.
لكن منذ عام 2018، أدى تغييران جذريان
إلى اختلاف فرص علاج من جرى تشخيصهم مبكرًا بالإصابة بالداء. فاولًا، ظهرت فئة من
العلاجات "المُعدلة لمسار المرض"، أي التي لا تشفي منه، لكن تبطئ تقدمه.
ومن أمثلتها، عقار «ليكانيماب» Lecanemab، الذي اعتمدته إدارة
الغذاء والدواء الأمريكية في يوليو من عام 2023، ويُعطى بالتسريب الوريدي كل
أسبوعين، وقد أظهر أنه يبطئ تقدم المرض بنسبة 27%. غير أن فاعليته في المراحل
المتأخرة من المرض، ولدى من لم تظهر لديهم أعراض المرض تبقى غير مثبتة. كذلك ظهر
عقار «دونانيماب» Donanemab الذي اعتمدته إدارة الغذاء والدواء الأمريكية بعدها بعام واحد
فقط، وهو يُعطى بالتسريب الوريدي مرة شهريًا، ويتسم بالآثار الجانبية ذاتها التي
تميز عقار«ليكانيماب» Lecanemab وبالفاعلية ذاتها.
ثانيًا، قد يسنح عن قريب إجراء فحوص للكشف عن المرض، بفضل اكتشاف
واسمات حيوية جديدة مميزة له في الدم. ففي عام 2018، كما يوضح جاك، "استلزم
التشخيص البيولوجي بالمرض الخضوع لتصوير مقطعي بالإشعاع البوزيتروني، وهو مما لا
شك فيه فحص باهظ التكلفة، وغير متاح على نطاق واسع، أو يتطلب جراحة بزل في المنطقة
القطنية لاستخراج سائل نخاعي دماغي، وهو إجراء جراحي باضع". أما اليوم، فبفضل
فحص دم عالي الدقة وبسيط وغير مكلف، يمكن إجراؤه بأي مكان، اتسع كثيرًا نطاق الدور
المحتمل الذي يمكن أن تلعبه فحوص الواسمات الحيوية في الرعاية الإكلينيكية
الروتينية.
من ثم، في عام 2023، شكلت «جمعية مكافحة داء أُلزهايمر» مجموعة عمل
أخرى، يرأسها جاك، لإعادة النظر في المعايير التي أرستها توجيهات عام 2018.
والتوصيات المحدثة التي نشرتها مجموعة العمل تلك في السابع والعشرين من يونيو عام
2024 تؤكد على أهمية استخدام الواسمات الحيوية كأداة تشخيصية. وبالنظر إلى أنه لا
توجد حاليًا علاجات ثبتت فاعليتها لمن لا يظهرون أعراضًا للمرض، بوجه عام، تثني التوجيهات
الجديدة عن إجراء فحوص لمن لا تظهر لديهم أعراض للمرض، عدا في حال السياقات
البحثية. لكن مما لا شك فيه أن واضعي التوجيهات تكهنوا بأن الفحوص قبل ظهور
الأعراض ستغدو روتينية. تعقيبًا على ذلك، يقول جاك: "قصدنا أن نمهد لمستقبل
تتاح فيه علاجات معتمدة ثبتت فاعليتها في تحجيم تفاقم التدهور الإدراكي لدى أشخاص
هم بالوقت الحالي لا يعانون قصورًا إدراكيًا".
وبموجب هذا الطرح الجديد، الذي يصب في "إطار الممارسة
الإكلينيكية" وليس في "إطار الممارسة البحثية"، لنا أن نتخيل
سيناريو يتحقق عن قريب، يدلف فيه شخص إلى عيادة طبيب لفحصه السنوي شاعرًا بأنه
بأتم الصحة والعافية، ليغادر بتشخيص بالإصابة بالداء. ومن منظور جاك، المغزى هنا
هو تمكين المرضى في مواجهة المرض. فهو يشدد على أن "الأبوية في الطب فكرة
سيئة". ويضيف: "أخبروا الكل بالحقيقة، وأطلعوهم على ماهية هذا
المرض". فقد يسنح في نقطة ما في المستقبل علاج من جرى تشخيصهم بالمرض بأقراص
دواء بسيط أو بعلاج آخر لإبطاء الخرف أو الوقاية منه تمامًا. "هذه هي غاية
الغايات"، كما يقول.
غير أن فرق خبراء أخرى، من بينها مجموعة
خبراء دراسات الخرف من مجموعة العمل الدولية ومن الجمعية الأمريكية لطب الشيخوخة،
تختلف بقوة فيما بينها فيما يخص سياق الـ"تشخيص". في ذلك الصدد، قال دوبوا في بريد إلكتروني إلى
دورية «ساينتفك أمريكان» Scientific American، إن الأخذ بالواسمات
الحيوية، يكسب المرض "هوية بيولوجية إكلينيكية". وترى جمعية العمل
الدولية، أن التشخيص بالداء يستلزم مصاحبة نمط ظاهري مرضي إكلينيكي للواسمات
الحيوية. ما يشدد عليه دوبوا قائلًا: "كلا الجانبين ضروري للتشخيص
بالداء".
وظاهريًا، قد يوسم الاختلاف بين
"تشخيص" مرء بالداء واكتشاف "احتمالية" إصابته به بأنه اختلاف
لفظي، لكن "التشخيص" بالمرض له تداعيات كبيرة على أرض الواقع. إذ إن كل
من الأطباء الإكلينيكيين وشركات التأمين يقيم وزنًا لهذا اللفظ، الذي تصبح معه فرص
المريض في الحصول على علاج وتغطية تأمينية أقوى. وهذا يُحتمل أن يكون نعمة في ثوب
نقمة أو العكس. فكما يفيد أحد المعلقين على المسودة الثانية للمعايير التشخيصية
للمرض لعام 2024، قد يلقى عدد كبير ممن يجري تشخيصهم بالداء بموجب هذه المعايير
حتفه دون أن يظهر أي عوارض تدل على الإصابة بالخرف. وتطوير فحص لاكتشاف داء أُلزهايمر قبل ظهور
أعراضه جدير بأن يسترعي اهتمامنا، لكن كما يضيف صاحب التعليق سالف الذكر، فإن
برامج الفحص الطبي المبكر في مجالات أخرى من الطب تباينت نتائجها: "فبعضها
حمل بلا شك منافع كبيرة وضررًا قليلًا للمريض، وبعضها الآخر أهدر موارد المريض
وجلب عليه الضرر". وتوسعة نطاق
استخدام عقاري «ليكانيماب» و«دونانيماب» قد تسفر عن كلتا النتيجتين. فالعلاج بعقار
«ليكانيماب» يكلف 26,500 دولار سنويًا في حين يكلف العلاج بعقار «دونانيماب» 32
ألف دولار كل عام، واستخدامهما يأتي مصحوبًا بآثار جانبية من بينها احتمالية
الإصابة بتورم ونزيف دماغي.
والاسترشاد بالواسمات الحيوية الدالة على
المرض كقاعدة ينطلق منها تشخيصه، بدلًا من الاسترشاد بتقييم عوامل الخطورة التي
يهدد بها يثير تساؤلات حول الكيفية التي قد يستجيب بها الأفراد لدى تشخيصهم بهذا
المرض. فهل الحياة مع معرفة احتمالية الإصابة بالخرف في المستقبل مؤلمة؟ وهذا التساؤل
معهود في أوساط علماء الوراثيات الذين ظلوا يصطدمون به منذ أن سنحت فحوص الكشف عن
الجينات المرتبطة بالداء قبل عقدين.
وتنقسم الجينات المرتبطة بالداء بوجه عام
إلى نوعين. الطفرات في ثلاثة من الجينات تسبب ظهورًا مبكرًا لصورة من المرض، تبدأ
فيها العلامات المنذرة بالخرف بوجه عام في الظهور بحلول الستين أو الخامسة والستين
من العمر. وإجمالًا، تحدث هذه الطفرات النادرة في نسبة تقل عن 1% من المصابين بداء
أُلزهايمر، وهي حاسمة على نحو غير معتاد في علم الوراثة. فامتلاك واحدة فقط من هذه
الطفرات، يرجح بصورة شبه مؤكدة احتمالية الإصابة بصورة مصحوبة بأعراض من الداء
بحلول الخامسة والستين من العمر. وفي ضوء
هذه الحقيقة المؤلمة، من المعروف أن وعي المرء بامتلاكه لواحدة من هذه الطفرات قد
يكون صادمًا. من هنا، وضع عدد من اختصاصيّ علم الوراثة بروتوكولًا لمساعدة الأشخاص
على حسم قرارهم سواء بخوض اختبارات الكشف عن الجينات المسببة للمرض، أو بالإحجام
عن ذلك، لمساعدتهم في التأقلم مع نتيجة الاختبار، إن خضعوا له.
أما في النوع الثاني من الداء، فثمة ثلاثة من الجينات التي تعزز
احتمالية الإصابة به، أبرزها هو الجين APOE، الذي يلعب دورًا قويًا في تعظيم هذه الاحتمالية. فمن يحملون نسخة مفردة من المتغير الجيني APOE4 (وهو صورة طافرة من الجين APOE)، يكونون أكثر عرضة للإصابة بالداء بحلول الخامسة والثمانين من
العمر، بنسبة تتراوح ما بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف نسبة احتمالية الإصابة به بين
غيرهم من الأشخاص. وتزايُد الجرعة من هذا المتغير الجيني لها تأثير مضاعِف؛ فمن
يرثون المتغير من كلا الوالدين أكثر عرضة للإصابة بالداء بمقدار 12 ضعفًا. وهؤلاء
الأشخاص، الذين يعرفون بأنهم حاملو أليل متماثل من الجين APOE4، هم أكثر عرضة بنسبة 60% للإصابة بداء أُلزهايمر بحلول الخامسة
والثمانين من العمر. وهذا الجين، بعكس
أقاربه من الجينات التي تحسم الإصابة بداء أُلزهايمر، ليس نادرًا على الإطلاق.
فيشار إلى أن 2% من سكان الولايات المتحدة حاملو أليل متماثل من المتغير الجيني APOE4.
في ذلك السياق، يشير روبرت سي. جرين، اختصاصي علم الوراثيات الطبي
من كلية هارفارد للطب، والذي قاد سلسلة من التجارب للوقوف على أثر الإفصاح عن
احتمالية الإصابة بداء أُلزهايمر المرتبطة بالجين APOE لدى أشخاص لا يبدون أعراضًا على الإصابة بالداء، إلى حالة التردد
التي أحاطت بطرح اختبار الكشف عن الجين في مقتبل العقد الأول من القرن الحالي.
فيقول: "لم نعرف نسبة الأسر التي قد يرغب أفرادها في الخضوع لهذا الاختبار.
وفوق كل شيء، لم ندرك ما إذا كنا سنتسبب في معاناة هائلة لهؤلاء الأفراد إن أفصحنا
لهم عن احتمالية إصابتهم بداء كان آنذاك، ويظل، داءً عضالًا". وهذه الدراسة
التي دامت لعقد، وعُرفت باسم «دراسة تقييم خطر الإصابة
بداء أُلزهايمر والتوعية به» (REVEAL)،
أثبتت أن كثيرًا من الأفراد، وليسوا جميعهم، أرادوا معرفة ما إذا كان من المحتمل
إصابتهم بالمرض. ومع أن العلم بوجود هذه الاحتمالية كان باعثًا على الاستياء لمن
تبين وجود المتغير الجيني APOE4 لديهم، فقد أمكنهم بوجه عام مواجهة هذه
الاحتمالية. في الواقع، يخبرنا جرين بأن من اختاروا المشاركة في الدراسة قد
أفادوا بأن معرفة نتائج هذا الاختبار عادت عليهم بـ"نفع شخصي". فيضيف:
"بهذه المعلومات، اتخذوا خطوات مهمة في تقديرهم. فابتاعوا نوعًا مختلفًا من
بوليصات التأمين. أو تحدثوا عن الأمر مع أسرهم. ويمكن القول على أقل تقدير، أنهم
درسوا اتخاذ خطوات مختلفة في خططهم المستقبلية لمشوارهم المهني".
بيد أن الدراسة أشارت - ضمن أهم العناصر في رسالتها - إلى أن الجين
APOE لا يحسم الإصابة بالداء. لكن اليوم، كما
هو الحال فيما يخص الواسمات الحيوية للداء، يرى بعض الباحثين أن حمل نسختين من
الجين، يعني بالتبعية تشخيصًا بالإصابة بالداء، ما يحتمل أنه يجعل رسالة «دراسة تقييم خطر
الإصابة بداء أُلزهايمر والتوعية به» مثار حيرة وارتباك. ووفقًا لجاك، بموجب
معايير جمعية مكافحة داء أُلزهايمر لعام 2024، فإن حمل أليل متماثل من المتغير
الجيني APOE4- مثله في ذلك مثل حمل
جين طافر يؤدي إلى إصابة مبكرة بالداء، يعني "تشخيصًا بإصابة بمرحلة صفرية
الأعراض من الداء". ويعكس هذا المنطق حقيقة مفادها أن البعض يولدون بحالة
مرضية تؤثر على مر حياتهم في عمليات الدماغ، ولا يعني هذا أنهم سيصابون بالضرورة بالخرف، الذي يُتوقع ألا يصيب الكثيرين منهم.
خلص مؤلفو دراسة ضخمة إلى اسنتاج مماثل، بعد أن قارنت دراستهم
الأنماط الجينية للمشاركين فيها بواسماتهم الحيوية وبنتائج فحوص دماغية أجريت
لبعضهم بعد الوفاة. وقد قاد هذه الدراسة جوان فورتيا اختصاصي علم الأعصاب، ومدير
وحدة « سانت باو ميموري» في برشلونة Sant Pau Memory. نشر مؤلفو الدراسة في مايو من عام 2024،
ورقة بحثية، طرحت أدلة على أن أغلب من يحملون أليلًا متماثلًا من المتغير الجيني APOE4،
ظهرت لديهم - على أقل تقدير - دلائل مبكرة على حدوث تغييرات
دماغية مرتبطة بالداء بحلول الخامسة والستين من العمر. وحاجج فورتيا
وفريقه البحثي في الورقة، بأن هذا الظهور المبكر لأعراض المرض ومآله الذي تبين أنه
يكون أسوأ دل على نمط مختلف من الإصابة بداء ألزهايمر، يسفر فيه النمط الجيني عن
تشخيص بالداء. وبالنظر إلى أن هذا النمط يصاب به 2% من تعداد سكان العالم، خلص
الفريق البحثي إلى أن هذا يجعله "أحد أكثر الأمراض المرتبطة بالوراثة
المندلية شيوعًا".
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن
فورتيا وفريقه البحثي، شأنهم شأن واضعي توجيهات «جمعية مكافحة داء أُلزهايمر» لعام
2024، شددوا على أن وسم أصحاء بالداء قبل ظهور علاجات للمرض، ليس الغاية من وضع
مفهوم جديد له. وإن كان من المحتمل أن تكون هذه تبعية تبني هذه التغييرات. في ذلك الصدد، كتبت إيميلي إيه. لارجِنت،
أختصاصية أخلاقيات علم الأحياء والأستاذة المساعدة المتخصصة في تدريس أخلاقيات
الطب ومدير قسم أخلاقيات الطب في جامعة بنسلفانيا الأمريكية، عن السياق الاجتماعي
الذي سيصاغ فيه تعريف جديد لداء أُلزهايمر. فكتبت تقول: "في غياب سبل الحماية
المفيدة التي تقي من الداء في مجالات مهمة، بدأ الأفراد يجمعون المعلومات عن
احتمالية إصابتهم به. وعلينا أن نفكر حقًا في التبعات التي ستترتب على مغادرة
المرضى أو المشاركين في التجارب للعيادات بعد إحاطتهم بهذه الاحتمالية فيما هم لا
يزالون عضوًا فعالًا ومؤثرًا في العالم".
أجرت لارجنت وفريقها البحثي دراسة، نشرت
عام 2020، عن أثر الإفصاح عن حالة الواسمات الحيوية التي تؤشر على الإصابة بالداء
من عدمها، لبالغين أصحاء في عمر خمسة وستين عامًا فأكثر، وفي العديد من النواحي
المهمة، جاءت نتائج الدراسة مماثلة لتلك التي تمخضت عنها دراسة «دراسة تقييم خطر
الإصابة بداء أُلزهايمر والتوعية به». واجه من وُجدت لديهم واسمات حيوية تؤشر على
احتمالية الإصابة بالداء مشاعر استياء ولكن ليس "معاناة هائلة". فرأوا
أن المعرفة بهذه الاحتمالية مفيدة وأدخلوا تغييرات على أنماط حياتهم، من بينها أخذ
ترتيبات مالية، وشراء بوليصات تأمين، ووضع أولوية لتحقيق بعض التدابير والتطلعات
قبل الوفاة، والالتجاء إلى كنف الأسرة. غير أن نتائج اختبار الكشف عن احتمالية
الإصابة بالداء غيرت أيضًا منظورهم إلى تجاربهم. فمن تبين عدم وجود احتمالية
لإصابتهم بالداء غضوا الطرف عن السقطات الطفيفة و"لحظات الشيخوخة"، على
أنها جزء من تقدم العمر الطبيعي، في حين أن من وُجدت لديهم مؤشرات على الإصابة
بالداء أخذوها بعين الاعتبار على أنها دلائل على الإصابة بالداء. حول ذلك، تقول
لارجنت: "تلح علي أذهاننا تساؤلات لدى البعض، مفادها: هل هكذا يبدأ المرض؟. هل
هذا هو المرض في مستهله؟".
تخوف كذلك بعض ممن ظهرت لديهم مؤشرات على احتمالية الإصابة بالمرض
من النظرة إليهم على أنهم على أعتاب الخرف. وقد وجدت لارجنت أن الخوف من الوصم
والتمييز شاعا في بين الأشخاص في هذه الفئة الأخيرة، إذ تخوفوا، على سبيل المثال،
من اختلاف معاملة الأصدقاء وأفراد الأسرة لهم. فتقول لارجنت: "مثلًا، تخوف
بعضهم من أن يسلبه أبناؤه مفاتيح سيارته أو من ألا يسمحوا له بمجالسة
أحفاده".
كذلك تخوف المشاركون في الدراسة من احتمالية ارتكاب جهات توظيفهم
وشركات تأمينهم لممارسات تمييز بحقهم. على سبيل المثال، ذكر جرين مرات عديدة "المعاناة
الهائلة" التي اختبرها المدراء التنفيذيين لشركات التأمين - وليس حاملي الجين
APOE - عندما سعموا لأول
مرة باختبار الكشف عن المتغير الجيني APOE4. فيقول: "دُعيت
لشتى اجتماعات شركات التأمين". ويعلل لذلك بأن هذه الشركات تخوفت من شراء
العملاء لتأمينات تضمن حصولهم على رعاية صحية طويلة الأجل حال إخطارهم فقط بأنهم
معرضون بقوة لخطر الإصابة بالداء، وهو ما يفرض حسابات مخاطر تأمينية جديدة. واليوم، يتخوف اختصاصيو علم الأخلاق من أن تؤدي
سهولة إجراء فحوص الكشف عن الداء وإمكان إجرائها بصورة روتينية إلى قلب شركات التأمين
الوضع لصالحها لتستغل عملائها، برفض منحهم تغطية تأمينية حال ثبوت امتلاكهم
لواسمات حيوية أو أليل متماثل من المتغير الجيني APOE4.
كذلك فإن المخاوف من تعرض أصحاب التشخيص للتمييز من قبل جهات العمل
لها أساس من الصحة. لكن بموجب قانون عدم التمييز على أساس المعلومات الجينية (GINA)، الذي صدر في عام 2008، يُحظر على جهات العمل ارتكاب ممارسات
تمييز بحق العاملين بناءً على معلومات من هذا النوع. غير أن صوغ تعريف جديد
لواسمات الداء ونمطه الجيني وطرق تشخيصه يهدد عمالة بالتعرض لهذه الممارسات. وأشكال
الحماية التي أرساها قانون عدم التمييز على أساس المعلومات الجينية للوقاية من هذه
الممارسات تسقط ولا تمتد لتغطي المرحلة "التي تظهر فيها أعراض
المرض"، وهي مرحلة قد يكون من المنطقي أن يضطلع
اختصاصي رعاية صحية بتشخيص المرض فيها. إذن ما أشكال الحماية التي تصمد عندما
يُعلن أن النمط الجيني للمرء أو تكوينه الجيني ذو دلالة تشخيصية؟
من يثبت في اختبارات امتلاكهم للواسمات الحيوية الدالة على الإصابة
بالداء، قد تعرِض جهات توظيفهم عن تبني سياسة تمهل وترقب لمسار المرض، لا سيما إن
ارتأت أنها ستكون عرضة للمساءلة القانونية حال توظيف عامل مهدد بدرجة كبيرة
بالإصابة بقصور إدراكي. فهل كنت لتقصد جراحًا أو تعين محاميًا إن ثبت وجود
الواسمات الحيوية الدالة على المرض لديه؟
أم أنك ستعتقد أن امتلاكه لواسمات حيوية كهذه هو أمر عليه أن يفصح به.
الغاية المنشودة من تناوُل داء أُلزهايمر كسلسلة من المراحل المتصلة هي تسهيل
التدخلات العلاجية المبكرة، لكن هذه المقاربة قد تدفع بالأشخاص إلى التردد في طلب
الرعاية الصحية أو المشاركة في التجارب الإكلينيكية التي تستلزم الخضوع لفحص للكشف
عن الواسمات الحيوية أو الجينات الدالة على الإصابة بالداء. في ذلك الصدد، تقول
لارجنت: "في نهاية المطاف، أعتقد أننا قد نحد كثيرًا من قدرتنا على إلحاق
مشاركين في الدراسات البحثية، إن لم نفرض أشكال حماية كافية للأشخاص خارج سياق الأبحاث".
وتوجيهات «جمعية مكافحة داء أُلزهايمر» لعام 2024 وورقة فورتيا
البحثية الأخيرة تشددان كلاهما على أن الحل يكمن في إثناء الأصحاء عن الخضوع لفحوص
الكشف عن الداء في خارج السياقات البحثية، إلى أن يسنح علاج للمرض. لكن الالتزام
بهذه القاعدة لم يعد بالكامل من اختصاص الأطباء الإكلينيكيين ومنظمات الرعاية
الصحية المتخصصة. ففحوص الكشف عن طفرات الجين APOE متاحة مباشرة للمستهلك منذ أكثر من عقد، ومنذ عام 2023 أُعلن عن
إتاحة فحوص الدم للكشف عن الواسمات الحيوية الدالة على الإصابة بداء أُلزهايمر.
لكن حتى بافتراض عدم إتاحة فحوص الكشف عن الداء إلا لمن يظهرون
أعراضًا دالة على المرض، أين يمكن وضع الحد الفاصل للتمييز بين من يظهرون أعراضًا
للمرض ومن لا يظهرونها؟ فالخرف لا يظهر للعيان فجأة مكتمل الأركان في أوضح صوره.
ومن جميع النواحي الممكنة، كانت أُمي سليمة إدراكيًا صبيحة هذا اليوم في روما.
تزايدت تصرفاتها المرتبكة لاحقًا، ووافقت على زيارة طبيب عندما ناشدتها بذلك لكنها
نكصت عن المضي في الأمر، مخبرة إياي وهي تذرف دمعًا بأنها تتخوف من هذا التشخيص. فهل كان لدواء يبطئ مرضها أن يعوضها بما يكفي
عن العيش مهددة بشبح مرض في ذاك العام الأخير لها وهي بصحة إدراكية جيدة. هذه
تساؤلات جديدة جديرة بطرحها فيما يخص كبار السن.
وهنا، ينوه جرين إلى أن صوغ تعريف جديد للحالات المرضية بناءً على
خصائصها البيولوجية وليس عوارضها الإكلينيكية التي "تظهر بعد فوات
الأوان" يُعد "خطوة بارزة إلى الأمام في الطب". ويضيف: "هذه
الاستراتيجية ثبتت جدواها في حالات التليف الكيسي وداء الخلايا المنجلية".
لكنه يقر في الوقت ذاته بأن استخدام كلمة "تشخيص: قد يوحي خطأً بحتمية
الإصابة بالمرض. فلدى مصارحة من يحملون أليلًا متماثلًا من المتغير الجيني APOE4 من مرضاه بالاحتمالات، يصوغ لهم جرين الأمر قائلًا: "تواجهون
احتمالية مرتفعة للإصابة بداء أُلزهايمر، لكنها تبقى غير مؤكدة. وثمة احتمالية
كبيرة لأن يقتلكم شيء آخر، فلا تعطوا الأمر أكثر من حجمه، وابتهجوا". وقد
أثبتت دراسة «تقييم خطر الإصابة بداء أُلزهايمر والتوعية به» أن المصابين بالمرض
ممن يتلقون إرشادًا طبيًا يغدون قادرين على تفهم معنى الخطورة هنا. لكن كما توضح
دراسة لارجنت، توعية المصابين وحدها غير كافية إذا كان المجتمع من حولهم غير قادر
على تمييز الخرف عن الدلالة الحقيقية للويحاته
وتشابكاته الليفية.
اكتشاف الحالات المُعرضة لخطر الإصابة بالخرف مبكرًا قد يحمل معه
مزيجًا من المخاطر والمنافع سواء لمن تتبين إصابتهم بالداء، أو لأسرهم، غير أنه
نعمة خالصة للباحثين وجهات تسويق العقاقير المضادة للداء. إذ يعزز التشخيص قبل ظهور أعراض الترويج
للتدابير الوقائية من الداء ويخلق جمهورًا من المتخوفين منه ممن يجمعون التمويلات
ويمارسون ضغوطًا على الوكالات الحكومية لتمويل البحوث واعتماد العقاقير وضمان
حصولهم على تغطية تأمينية. كذلك يساعد
الوقوف على الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالخرف الباحثين، فيؤدي معه إلى خلق تجارب
إكلينيكية أكثر كفاءة وأقل تكلفة.
لهذا السبب، انتقد تشكيل مجموعة عمل «جمعية مكافحة داء ألزهايمر»؛
فيفيد مقال لصحيفة نيويورك تايمز
الأمريكية بأن حوالي ثلث أعضاء مجموعة العمل "يعملون
لدى شركات في مجال تطوير العقاقير والسبل التشخيصية"، والثلث الآخر يُعلن عن
"المنح أو العقود البحثية، ورسوم الاستشارات والمكافآت الشرفية وغيرها من
المدفوعات التي تصدر عن جهات صناعية".
ولما توجهت دورية «ساينتفك أمريكان» بأسئلة لجاك في هذا السياق، أجاب بأنه
عن نفسه لا يرى أن تشكيل مجموعة العمل يصنع تضاربًا في المصالح، ولم يجد بتعبيره
"صراحة أي ميول للتحيز أو رغبة في خدمة المصالح التجارية" من مجموعة
العمل.
إذن لنفترض أنه ستوجد في نهاية المطاف تدابير وقائية تبرر إجراء
فحوص روتينية للتدخل مبكرًا لعلاج الداء. في واقع الحال، البالغون الأصحاء الذين
يُشخصون بداء أُلزهايمر اليوم سيواجهون العديد من الاحتمالات غير المؤكدة وخيارات
محدودة، حتى وإن أسهموا في بناء مستقبل أفضل كمشاركين في تجارب مستمرة.
إن قدرتنا على صوغ تعريف جديد للأمراض، يصف كنهها وليس عوارضها
تُعد أداة قوية تتيح لنا دقة أكبر في الخروج بالتنبؤات والتشخيصات وعلاج الأمراض
بشتى أطيافها. تعقيبًا على ذلك، تقر لارجنت بأننا نشهد "فترة مذهلة حقًا، غير
أن خطى العلم تسبق في الوقت الحالي خطى السياسات". إذ نشهد جميع هذه التغيرات وسط منظومة تحتاج،
إلى سبل جديدة على الصعيد الأخلاقي والقانوني والاجتماعي والإكلينيكي، من أجل
مساعدة المرضى وأسرهم.
لورا
هيرتشر هي
استشارية متخصصة في علم الوراثة، ومشرفة على البحوث الطلابية في برنامج جوان إتش
ماركس للخريجين في مجال الوراثة البشرية بكلية سارا لورانس. وقد تناولت كتاباتها
طيفًا عريضًا من القضايا الأخلاقية والقانونية والاجتماعية المرتبطة بطب الوراثة.
وتستضيف بودكاست «The Beagle has landed»، وهو بودكاست موجه للباحثين في علم الوراثة
الإكلينيكية والشغوفين بالعلوم.
تواصل معنا: