مقالات

نوبل الكيمياء عام 1951.. عالم ما بعد اليورانيوم

نشرت بتاريخ 15 فبراير 2024

منْ بينِ المناطقِ الأكثرِ إثارةً للاهتمامِ في الجدولِ الدوريِّ عناصرُ ما بعدَ اليورانيوم، وهوَ عالَمٌ منَ العناصرِ الاصطناعيةِ التي أسرَتْ عقولَ الكيميائيينَ والفيزيائيينَ على حدٍّ سواء.

محمد منصور

 للأستماع للحلقة أضغط على هذا الرابط

Enlarge image
كانَ الجدولُ الدوري، ذلكَ الترتيبُ الأيقونيُّ للعناصرِ الكيميائية، يحملُ دائمًا جاذبيةَ المجهول، ويدعو العلماءَ لاستكشافِ عوالِمِ الموادِّ الكيميائية.

منْ بينِ المناطقِ الأكثرِ إثارةً للاهتمامِ في الجدولِ الدوريِّ عناصرُ ما بعدَ اليورانيوم، وهوَ عالَمٌ منَ العناصرِ الاصطناعيةِ التي أسرَتْ عقولَ الكيميائيينَ والفيزيائيينَ على حدٍّ سواء.

وعناصرُ ما بعدَ اليورانيوم، هيَ تلكَ العناصرُ التي تَزيدُ أعدادُها الذَّريةُ عنِ اثنينِ وتسعين. وعلى عكسِ نظيراتِها الموجودةِ في الطبيعة، فقدْ وُلدتْ هذهِ العناصرُ منْ براعةِ الإنسان، وتمَّ تصنيعُها بشِقِّ الأنفسِ منْ خلالِ تفاعلاتٍ نوويةٍ خاضعةٍ للرقابة. وبالتالي؛ فوجودُها العابرُ وخصائصُها الفريدةُ يقدمانِ لمحةً محيرةً عنِ الزوايا غيرِ المستكشَفةِ في الجدولِ الدوري.

تطلَّبَ اكتشافُ تلكَ العناصرِ البراعةَ والمثابرةَ والفهمَ العميقَ للتفاعلاتِ النوويةِ وفيزياءِ الجسيمات. وقدْ شرعَ الباحثونَ في السعيِ للكشفِ عنِ الخصائصِ والسلوكِ والهياكلِ الذريةِ المعقدةِ لهذهِ العناصرِ طيلةَ سنين؛ وسلطتِ اكتشافاتُهمُ الضوءَ على الانتقالِ بينَ المعلومِ والمجهول، أوْ حدودِ الاستقرارِ الذريِّ وتعقيداتِ النوى الذرية.

منْ ضمنِ العلماءِ الذينَ ساهمُوا في الكشفِ عنْ تلكَ العناصرِ : الأمريكيانِ "إدوين ماكميلان" و"غلين سيبورغ" اللذانِ حصلا على جائزةِ نوبل الكيمياءِ في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وخمسينَ بعدَ أنِ اقتحما ذلكَ العالَمَ الغامض.. عالَمَ ما بعدَ اليورانيوم.

لكنَّ قصةَ ذلكَ العالَمِ بدأتْ قبلَ "ماكميلان" و"سيبورج" بالعديدِ منَ السنوات.

ففي عامِ ألفٍ وثَمانِمئةٍ وتسعةٍ وستينَ تمَّ تقديمُ مسحٍ شاملٍ لجميعِ العناصرِ المعروفةِ منْ خلالِ إنشاءِ النظامِ الدوري. في ذلكَ الوقت، اكتشفَ الكيميائيُّ الروسيُّ الشهيرُ "ديمتري مندليف" أدلةً واضحةً على دوريةِ الخصائصِ الكيميائيةِ للعناصرِ عندَما تمَّ ترتيبُها وفقَ زيادةِ الأوزانِ الذرية. ومنْ خلالِ هذا الانتظام، كانَ مندليف قادرًا على استنتاجِ أنَّ بعضَ الفجواتِ لا تزالُ بحاجةٍ إلى سدِّها، كما تمكَّنَ منَ التنبؤِ بجميعِ الخصائصِ الأكثرِ أهميةً لهذهِ العناصرِ ومركباتِها التي لمْ تُكتشَفْ بعد. وقدْ تمَّ تأكيدُ تنبؤاتِه بالكاملِ منْ خلالِ الاكتشافاتِ اللاحقة.

وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وعشرين، ألقتْ أبحاثُ نيلز بور حولَ بِنيةِ الذراتِ ضوءًا جديدًا على النظامِ الدوري. وأصبحَ منَ الممكنِ -منْ بينِ أمورٍ أخرى- تفسيرُ التشابهِ الكيميائيِّ بينَ العناصرِ الأرضيةِ النادرة.

وقتَها؛ قالَ بور إنَّه كانَ هناكَ امتدادٌ لسلسلةِ العناصرِ إلى ما هوَ أبعدُ منْ أثقلِها جميعًا، رقمِ اثنينِ وتسعين، والمعروفِ باسمِ اليورانيوم.

ومنْ خلالِ التجاربِ التي أُجريتْ خلالَ الأعوامِ من عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ وثلاثينَ إلى عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وثلاثين، أثبتَ العلماءُ بشكلٍ نظريٍّ وجودَ عناصرَ اصطناعيةٍ يُمكنُ تكوينُها عنْ طريقِ قذفِ ذراتِ العناصرِ الثقيلةِ بالنيوترونات.

ثمَّ جاءتِ القفزةُ الكبرى حينَ تمكنَ "ماكميلان" -الذي كانَ يعملُ وقتَها في جامعةِ كاليفورنيا الأمريكيةِ- منْ إنتاجِ أولِ عنصرٍ بعدَ اليورانيوم عنْ طريقِ تشعيعِ اليورانيوم بالنيوترونات.

وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعينَ؛ تمَّ إنتاجُ ما لا يقلُّ عنْ أربعةِ عناصرَ أخرى منَ اليورانيوم. تمَّ تحديدُ الخصائصِ الكيميائيةِ لجميعِ هذهِ العناصرِ الجديدةِ منْ خلالِ تطويرِ تقنيةٍ تجريبيةٍ دقيقةٍ للغاية.

ومنْ خلالِ تشعيعِ أنواعٍ مختلفةٍ منَ الذراتِ الثقيلةِ بالنيوتروناتِ والبروتوناتِ والديوتروناتِ ونواةِ الهيليوم، تمَّ إنتاجُ عددٍ كبيرٍ منَ النظائرِ منْ عناصرِ ما بعدَ اليورانيوم الستة. وقدْ أسفرتْ دراسةُ تكوينِ هذهِ النظائرِ وخصائصِها عنْ ثروةٍ منَ الموادِّ العلمية.

وُلدَ "إدوين إم ماكميلان" في كاليفورنيا في الثامنَ عشَرَ منْ سبتمبر عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وسبعة، كانَ والدُه الدكتور طبيبًا اسكتلنديَّ الأصل؛ وكانَ لديهِ أختٌ أصغرُ منهُ تُدعى كاثرين هيلين. قضى الصبيُّ سنواتِه الأولى في باسادينا، كاليفورنيا، وحصلَ على تعليمِه في مدارسِ الولاية.

التحقَ ماكميلان بمعهدِ كاليفورنيا للتكنولوجيا وحصلَ على بكالوريوسِ العلومِ عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وعشرين ثمَّ حصلَ على الماجستير.

وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنينِ وثلاثينَ التحقَ بجامعةِ كاليفورنيا في بيركلي كزميلِ أبحاث. وقدمَ رسالةَ دكتوراة في مجالِ الأشعةِ الجزيئية.

بعدَ عامينِ في هذا العملِ وسنةٍ واحدةٍ كباحثٍ مشارك، أصبحَ عضوًا في مختبرِ الإشعاعِ تحتَ إشرافِ البروفيسور إي.أو. لورانس، درسَ التفاعلاتِ النوويةِ ومنتجاتِها، وساعدَ في تصميمِ وبناءِ السيكلوترونات وغيرِها منَ المُعدات، وكانَ عضوًا في هيئةِ التدريسِ في قسمِ الفيزياءِ في بيركلي، وتمَّ تعيينُه مدرسًا في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وثلاثينَ، وأستاذًا مساعدًا في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ وثلاثينَ، وأستاذًا مشاركًا عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وأربعينَ، وأستاذًا عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وستةٍ وأربعين.

خلالَ الحربِ العالميةِ الثانية، كانَ ماكميلان في إجازةٍ منَ الجامعةِ منْ نوفمبرعامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعين إلى سبتمبرعامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وخمسةٍ وأربعين، وكانَ يعملُ في أبحاثِ الدفاعِ الوطني، وعملَ في مختبرِ الإشعاعِ بمعهدِ ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ ومختبرِ الراديو والصوتِ التابعِ للبحريةِ الأمريكية.

ثمَّ عادَ ماكميلان إلى مختبرِ الإشعاعِ بجامعةِ كاليفورنيا كمديرٍ مساعدٍ منْ عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وأربعةٍ وخمسينَ إلى عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وثمانيةٍ وخمسينَ، إذْ تمتْ ترقيتُه إلى نائبِ المديرِ وأخيرًا المدير في العامِ نفسِه.

تزوجَ إلسي ولفورد بلومر في السابعِ من يونيو عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وأربعينَ؛ ورُزقَ منْ ذلكَ الزواجِ بثلاثةِ أبناء.

توفيَ "ماكميلان" في السابعِ من سبتمبرعامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ وتسعينَ في إل سيريتو، كاليفورنيا، الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ بسببِ المضاعفاتِ الناجمةِ عنْ مرضِ السكري.

وُلدَ "غلين سيبورغ" في التاسعَ عشَرَ من أبريل عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنَي عشَرَ في إيشبيمنج بولايةِ ميشيغان، وأظهرَ طبيعةً فضوليةً منذُ سنٍّ مبكرة. تميزتْ طفولتُه بشهيةٍ نهمةٍ للتعلمِ وفضولٍ لا يشبعُ حولَ العالمِ الطبيعي. وقدْ تحولَ هذا الفضولُ الفطريُّ فيما بعدُ إلى شغفٍ مدى الحياةِ بالكيمياءِ وأسرارِ الذرة.

أخذتْه رحلتُه التعليميةُ إلى جامعةِ كاليفورنيا، حيثُ أكملَ دراستَه الجامعية. ثمَّ قادتْه مساعيهِ الأكاديميةُ إلى جامعةِ كاليفورنيا، بيركلي، حيثُ حصلَ في النهايةِ على درجةِ الدكتوراة في الكيمياء. تحتَ إشرافِ الكيميائيِّ الشهيرِ جيلبرت ن. لويس، صقلَ سيبورج مهاراتِه وشرعَ في السيرِ على طريقٍ منْ شأنِه أنْ يغيرَ مشهدَ الكيمياءِ إلى الأبد.

في حينِ أنَّ اسمَ "سيبورغ" يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بالإنجازاتِ العلمية، إلا أنَّ اهتماماتِه امتدتْ إلى ما هوَ أبعدُ منَ المختبر. كانَ موسوعيًّا حقيقيًّا، وكانَ لديهِ تقديرٌ كبيرٌ للأدبِ والموسيقى والرياضة. أضافَ حبُّ الشِّعرِ وشغفُ العزفِ على البيانو طبقاتٍ منَ العمقِ إلى شخصيتِه. سلطَ شغفُ سيبورج بالرياضةِ، وخاصةً لعبةَ البيسبول، الضوءَ على قدرتِه على إيجادِ المتعةِ خارجَ حدودِ مساعيهِ العلمية.

ويمتدُّ إرثُ "سيبورغ" إلى ما هوَ أبعدُ منْ مساهماتِه الملموسةِ في العلوم. بصفتِه معلمًا وصاحبَ رؤية، فقدْ ألهمَ عددًا لا يُحصى منَ الطلابِ والباحثينَ ليحلمُوا أحلامًا كبيرةً ويدفعُوا حدودَ المعرفة.

انتهتْ رحلةُ "سيبورغ" الرائعةُ في الخامسِ والعشرينَ من فبراير عامَ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وتسعةٍ وتسعينَ، في لافاييت، كاليفورنيا. كانتْ وفاتُه بمنزلةِ تتويجٍ لحياةٍ مكرسةٍ لتطويرِ المعرفةِ والفهمِ الإنساني. وقدِ استمرَّ إرثُه عبرَ أجيالٍ منَ العلماءِ الذينَ ألهمَهم، والعناصرِ التي ساعدَ في اكتشافِها، والأثرِ العميقِ الذي كانَ له على الفكرِ العلميِّ والتقدم.

doi:10.1038/nmiddleeast.2024.29