استطاع فريق من الباحثين
قياس الحيز الذي تشغله كتلة بروتون، وتبين لهم أنه أصغر بكثير مما كان يُعتقد
سابقًا.. وبذلك قطعوا خطوة جوهرية نحو فهم البنية المعقدة لهذا المكوِّن الرئيس من
مكونات الذرة.
آنا إم. ستاستو
تكمُن معظم كتلة الكون المرئية في النوى الذرية، التي تتكون من
بروتونات ونيوترونات. وتتكون البروتونات من جسيمات بالغة الصِغر، تُعرَف
بالكواركات والجلوونات. إلا أن مجموع كتلة الكواركات لا يُشكل سوى أقل من 1% من
كتلة البروتون الإجمالية. ومن هنا يتضح أن الجلوونات وتفاعلاتها مع الكواركات
مسؤولة عن تكوين بقية كتلة البروتون1، لكنَّ الجلوونات ليس لها كتلة
ولا شحنة كهربائية، لذا فمن الصعب فحصها تجريبيًّا. وفي دراسة نُشرت على صفحات
دورية Nature، أفادت الباحثة بورجو دوران وفريقها بنجاحهم
في قياس كميةٍ تُسمَّى «نصف قطر كتلة البروتون» يُمكن أن تكشف عن كيفية
توزيع كتلته، وبذلك تساعد في فهم بنية المادة.
أمَّا شحنة البروتون الكهربائية، فمعروفٌ عنها الكثير بالفعل: إنها
تنشأ من الحركة السريعة للكواركات التي تحمل شحنة كهربائية داخل البروتون. وهذه
الحركة تُحدد «نصف قُطر الشحنة الكهربائية»، على غرار نصف قطر كتلته.
أمكن قياس نصف قطر شحنة البروتون الكهربائية لأول مرة في عام 1955، في
تجارب تضمَّنت إطلاق إلكترونات عالية السرعة صوب هدفٍ من ذرات الهيدروجين3.
استخدم الباحثون آنذاك مسار انحراف الإلكترونات عن الهدف ليستنتجوا نصف قطر شحنة
بروتون الهيدروجين الكهربائية. ثم كُشِف عن مكونات البروتون بعد ذلك بحوالي 14
عامًا، وذلك في تجربةٍ أخرى اعتمدت مرة أخرى على تشتت إلكترونات، لكنها كانت ذات
طاقات أعلى4. وأشارت نتائج تلك التجربة إلى أنَّ البروتون لا بد أن
يكون مكوَّنًا من جسيمات أصغر منه وأبسط، وخلص الباحثون إلى أنَّ هذه الجسيمات لا
بد أن تكون كواركات.
تحمل الكواركات نوعًا آخر من الشحنات يُعرَف بالشحنة اللونية، وهذه هي
المسؤولة عن التفاعل القوي؛ الذي يُعرَف بأنه القوة الأساسية التي تحصر الكواركات
داخل البروتون. والجلوونات هي الجسيمات الأولية التي تتوسط في إجراء هذا التفاعل. ولأنها
لا تحمل شحنة كهربائية، فلا يُمكن استكشافها بالإلكترونات مباشرة. لكنها، مع ذلك،
تحمل شحنة لونية، لذا فالتحدي يكمن في إجراء قياساتٍ على قدرٍ من الحساسية يكفي
للكشف عن ديناميات الجلوونات من خلال شحنتها اللونية.
ومما يُذكر في هذا الصدد، أيضًا، أنه توجد عمليات ملائمة يُمكن من
خلالها استخلاص معلومات عن توزيع كتلة البروتون5، وإحداها تتضمن إنتاج
جسيم يُسمى ميزون
J/Ψ.
يتكون هذا الجسيم من كوارك من نوعٍ معين، يُطلق عليه «الكوارك الساحر الثقيل»، والجسيم
المضاد له، أي «الكوارك الساحر المضاد» (الشكل 1). ويُمكن توليد ميزون J/Ψ
عندما تنبعث من الإلكترونات فوتونات تتفاعل بعدئذ مع بروتونات. لكن هذه الميزونات
غير مستقرة، وتتحلل بسرعة، فتُنتج أنواعًا أخرى من الجسيمات. وبقياس نواتج تحلُّل ميزون J/Ψ،
يُمكن استخلاص عوامل تُسمَّى «عوامل
الشكل الجلوونية المتعلقة بالجاذبية»، وتتيح معلومات عن توزيع الكتلة في
البروتون. وهذا بالضبط ما نجحت فيه دوران ورفاقها.
الشكل 1 | قياس نصف قطر كتلة البروتونيمكن تحديد كتلة البروتونات من خلال تفاعلات بين جسيمات بالغة الصغر في البروتون، تُسمى الكواركات والجلوونات. وتُعرَّف المنطقة التي تنحصر فيها هذه الكتلة بمسافةٍ تُسمَّى نصف قطر كتلة البروتون. وقد أجرت الباحثة بورجو دوران وزملاؤها2 تجربةً لتقدير قيمة نصف قطر كتلة البروتون، وذلك بقياس احتمالية إنتاج جسيم يُسمَّى ميزون J/Ψ، يُمكن أن يتولد عند اصطدام الفوتون ببروتون. يتكون ميزون J/Ψ من كوارك وكوارك مضاد، ويتحلل بسرعة إلى إلكترون وبوزيترون (الجسيم المضاد للإلكترون)، وقد قاست دوران وفريقها كلًّا من هذين الجسيمين، ثم استخدموا نماذج نظرية لاستخلاص قيمة نصف قطر الكتلة.
استعان الباحثون بشعاع من الإلكترونات لإنتاج شعاع من الفوتونات، ثم
أتبعوا ذلك بتمرير كلا الشعاعين عبر وعاء مليء بالهيدروجين السائل. ثم كان أن رصدوا
إلكترونًا، وجسيمًا مضادًا له، أي بوزيترونًا، ناتجَين من تحلل ميزون J/Ψ. ومن
هذه التجربة، استخلص واضعو الدراسة المقطع العرضي، الذي يُعد مقياسًا لاحتمالية أن
يؤدي تفاعل الفوتون مع البروتون إلى إنتاج ميزون J/Ψ،
كدالةٍ في مقدار الزخم المنقول في التفاعل.
أتاح هذا القياس أتاح لدوران وفريقها حساب عوامل الشكل الجلوونية
المتعلقة بالجاذبية، وتقدير نصف قطر كتلة البروتون. ووجدوا أنَّ القيمة التي أمكن
قياسها لنصف قطر الكتلة كانت أصغر من نصف قطر الشحنة الكهربائية الذي خلُص إليه
فريقٌ آخر من الباحثين في دراسة سابقة6. وهذه نتيجة تبعث على
الاستغراب؛ لأنها تشير إلى أنَّ منطقة توليد الشحنة عن طريق الكواركات أكبرُ بقدرٍ
ملحوظ من الحيز الذي تتركز فيه كتلة البروتون. وهذه المعلومة، بدورها، تشير إلى
أنَّ البروتون له بنية معقدة، لم تُفهَم الفهم التام حتى وقتنا هذا.
وما زال الباحثون بحاجةٍ إلى مزيد من العمل على المستويين النظري
والتجريبي لتحديد تفاصيل هذه البنية العجيبة. فالطريقة التي حسبت بها دوران وفريقها
نصف قطر الكتلة استلزمت مُدخَلًا من النظرية5،7،8، وبذلك كانت معتمِدة
على النماذج التي وقع عليها اختيارهم. وقد استندت هذه الأساليب النظرية إلى نظرية
الكم التي تشرح التفاعل بين الكواركات والجلوونات، والتي تُعرَف بالديناميكا
اللونية الكمية. وقد اعتمدت دوران وزملاؤها على هذه النماذج في استخلاص قيم نصف
قطر الكتلة من بياناتهم التجريبية أولًا. ثم قارنوا القيم المَقيسة بحسابات عددية
كانت معتمِدة هي الأخرى على الديناميكا اللونية الكمية. وجاءت القيم متسقة في بعض
الحالات، لكنَّ النتائج كانت متفاوتة قليلًا في حالات أخرى. وهذا يشير إلى أنَّ
النماذج النظرية قد تحتاج إلى تحسين لتتناسب مع القياسات.
ثم إنه يُمكن تحسين التجارب نفسها. والحقُّ أن مختبر دوران وفريقها قد
وضع بالفعل خططًا لإجراء تجارب مصممة لقياس ميزون J/Ψ
بدقةٍ أكبر من تلك التي أوردوها في دراستهم موضع النظر. ويُمكن أيضًا قياس نصف قطر
الكتلة باستخدام ميزونات أخرى، مثل ميزون Y الذي يحتوي على كوارك "سفلي"، وكوارك مضاد له. وعما
قريب، سيصبح تنفيذ مثل هذه القياسات ممكنًا في منشأة تُبنَى خصيصًا لفحص البنية
الداخلية للبروتونات والنيوترونات باستخدام تصادمات بين إلكترونات وأيونات9.
ومن شأن هذه القياسات التجريبية أن تُسهم في تحسين النمذجة النظرية، وحلِّ لغز
كتلة البروتون وبنيته.
آنا إم. ستاستو: باحثة بقسم الفيزياء في
جامعة ولاية بنسلفانيا في يونيفرسيتي بارك بولاية بنسلفانيا الأمريكية.
البريد الإلكتروني: ams52@psu.edu
أقرَّت المؤلفة بعدم وجود تضارب في المصالح.
doi:10.1038/nmiddleeast.2024.7
Ji, X. Phys. Rev. Lett. 74,
1071–1074 (1995).
2.
Duran, B. et al. Nature 615, 813–816 (2023).
3.
Hofstadter, R. & McAllister, R. W. Phys. Rev. 98, 217–218
(1955).
4.
Breidenbach, M. et al. Phys. Rev. Lett. 23, 935–939 (1969).
5.
Kharzeev, D. E. et al. Phys. Rev. D 104, 054015 (2021).
6.
Xiong, W. et al. Nature 575, 147–150 (2019).
7.
Guo, Y., Ji, X. & Liu, Y. Phys. Rev. D 103, 096010 (2021).
8.
Mamo, K. A. & Zahed, I. Phys. Rev. D 101, 08600 (2020).
9.
National Academies of Sciences, Engineering, and Medicine. An Assessment
of U.S.-Based Electron-Ion Collider Science (Natl Acad. Press, 2018).
تواصل معنا: