«أوبنهايمر» في ميزان العلم: حوار مع المدققين العلميين للفيلم الحائز على أوسكار 2024
نشرت بتاريخ 21 مارس 2024
من بين العناصر التي لاقت استحسانًا في فيلم «أوبنهايمر»، الدقة العلمية في تصوير بناء القنبلة الذرية. وقد أجرت دورية Nature حوارًا مع ثلاثة علماء شاركوا في صناعة الفيلم.
جوناثان أوكالاهان
حقق فيلم «أوبنهايمر» Oppenheimer نجاحًا مدويًا في حفل توزيع جوائز الأوسكار، الذي أقيم في الحادي
عشر من مارس الجاري، بحصده سبع جوائز، تشمل جائزة أفضل فيلم، من بين 13 جائزةً
رُشِّح لها. وقد لاقى الفيلم استحسانًا لدقَّته في تصوير حياة عالم الفيزياء جيه. روبرت أوبنهايمر، وتعرُّضه للكلفة البشرية والعلمية لمشروع مانهاتن، ذلك البرنامج
البحثي الذي قاد إلى تطوير القنبلة الذرية في أربعينيات القرن المنصرم، في مدينة
لوس أنجلوس بولاية نيو مكسيكو الأمريكية.
ولضمان الوصول بالفيلم إلى أعلى مستوًى ممكن من الدقة، فقد حرص
المخرج كريستوفر نولان على الاستعانة بالعديد من المدققين العلميين، ليستقي منهم
المعلومات عن أوبنهايمر وحياته، وكذا عن المشروع نفسه، الذي تكلَّل بأول تجربة
لتفجير سلاح نووي، هي المسمَّاة «ترينيتي» Trinity، في السادس عشر من يوليو عام 1945، وما تبع ذلك من إلقاء قنبلتين
ذرّيتين على مدينتَي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، ليُسدَل بذلك الستار على
الحرب العالمية الثانية بكُلفة بشرية مروِّعة.
وقد أجرت دورية Nature حوارًا مع ثلاثة من هؤلاء المدققين، للتعرُّف على الكواليس
العلمية لهذا الفيلم. أولهم روبرت دايكراف، عالم الفيزياء النظرية الذي يشغل حاليًا منصب
وزير التعليم في هولندا، والذي عمل في الماضي مديرًا لمعهد الدراسات المتقدمة في
برينستون بولاية نيوجرسي الأمريكية بين عامي 2012 و2022، وهو ذات المنصب الذي سبق
أن شغله أوبنهايمر بين عامي 1947 و1966. والثاني كيب ثورن، أستاذ الفيزياء النظرية
بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا، وهو صديقٌ مقرَّب لنولان، سبق أن تعاون
معه في عدة مشاريع، من بينها تصوير ثقب «جارجانتوا» الأسود في فيلم «إنترستيلار» Interstellar (2014). والثالث ديفيد
زالتسبورج، أستاذ الفيزياء بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، الذي شارك مستشارًا
علميًا في أعمال فنية أخرى، مثل «نظرية الانفجار الكبير» The Big Bang Theory، قبل أن يقدم خدماته
لصنّاع فيلم «أوبنهايمر».
ما إسهامك في فيلم
«أوبنهايمر»؟
دايكراف: في
عام 2021، أراد نولان أن يأتي لزيارة المعهد، من أجل رؤية المكان الذي عاش وعمل
فيه أوبنهايمر قرابة عشرين عامًا. عشتُ في المنزل نفسه عشر سنوات، واتخذت من مكتب
أوبنهايمر مكتبًا لي. وقد أحببتُ كثيرًا النقاش المطوَّل الذي دار بيني وبين نولان
حول أوبنهايمر خصوصًا، والفيزياء عمومًا.
ثورن:
تحدثتُ إلى كيليان مورفي عن كيفية تجسيد شخصية أوبنهايمر في الفيلم. عرفتُ
أوبنهايمر حين كنتُ طالبًا في مرحلة الدراسات العليا في معهد برينستون بين عامَي
1962 و1965، ثم باحثًا في مرحلة ما بعد الدكتوراه في عامَي 1965 و1966. ومن هنا،
فقد اتصل بيني وبين مورفي حديثٌ عن أوبنهايمر على المستوى الشخصي.
زالتسبورج:
لجأ إليَّ صنَّاع الفيلم للمشاركة في إنجاز المشاهد التي جرى تصويرها في لوس
أنجلوس. وكان أغلب عملي مع مصمِّم المشاهد؛ كان عليَّ أن أقرر، مثلًا، ما كان
يكتبه أوبنهايمر على السبورة، أو المعادلات التي أرسلها لأينشتاين لتحديد مدى
إمكانية اشتعال النيران في الهواء الجوي.
هل لك أن تقصَّ علينا بعضًا
من المواقف التي جمعَتْك بالمخرج وطاقم العمل؟
دايكراف: زار
نولان معهد برينستون مرتين بقصد تفقُّده والتجوُّل بين أبنيته. أذكر أننا كنّا
نمشي سويًا من المنزل إلى المعهد؛ كانت تمشيةً لطيفة بين الأشجار. وأذكر أنني قلتُ
له في ذات مرة إنها تمشية مثالية، لأن أينشتاين و[الفيزيائي الأسترالي] كورت جودل
كانا دائمًا يسيران في الطريق نفسه. وفي الفيلم، يلتقي لويس شتراوس أوبنهايمر،
وإذا به يشير صوب المنزل وهو يقول: "تمشية مثالية". توقفتُ أمام هذه
العبارة، وقلتُ في نفسي: "كأنني شاهدتُ هذا المشهد قبلًا!"
هالني حجم الفضول الذي ينطوي عليه نولان حيال الفيزياء والفيزيائيين.
وأذكر أيضًا إعجابه بالبحيرة التي تتوسط المعهد. لقد التُقطَت بعض
مشاهد الفيلم قريبًا من هذه البحيرة. إنها المكان المفضَّل للكثيرين من مُرتادي
المعهد.. مكان مناسب للتفكير والتأمُّل.
زالتسبورج: كان
عليَّ في بعض الأحيان أن أشرح للممثلين هذه الجُملة أو تلك من حوار الفيلم، إن كان
يصعُب على غير الفيزيائي المتخصص فهمها، على النحو الذي يعينهم على استيعابها،
ونقل ما فيها من حمولة شعورية، ومعرفة السبب وراء قولها. وأذكر أن جملةً بعينها
كانت بالغة التعقيد، تتعلق بعناصر المصفوفة اللاقُطرية (off-diagonal matrix)، وميكانيكا الكم.
كانت من التعقيد بحيث وجدتُ — وأنا الفيزيائي المتخصص — صعوبةً في فهم ما ترمي
إليه على وجه الدقة. كان مورفي في أمسّ الحاجة إلى شرحٍ لهذه الجملة. وقد فعلت،
وما زلتُ به حتى استوعب المعنى الكامن وراءها، ولو بصعوبة.
وموقفٌ مشابه جمعني بجوش هارنِت، الذي جسَّد شخصية [عالم الفيزياء
النووية الأمريكي] إرنست لورانس. كان كلَّما وجد فسحةً من الوقت، قَدِم إليَّ
ليحدثني في الفيزياء. وكان ذلك بالنسبة لي شيئًا مدهشًا؛ ذلك أنه كان يُقبِل
عليَّ مرتديًا أزياء الشخصية، ومتخذًا هيئتها. صحيحٌ أنني لم ألتقِ لورانس، لكنني
رأيتُ له صورًا كثيرة. ولذلك كنتُ أجلس أمام هارنت مشدوهًا؛ كأنما أشهد لورانس
يقطعُ الغرفة أمامي جيئةً وذهابا.
كيف ترى مستوى الدقة
العلمية في الفيلم؟
زالتسبورج:
كان دقيقًا إلى درجةٍ تدعو للإعجاب.. إنه رائعٌ حقًا. بدا جليًّا أن نولان يفهم الخلفية
العلمية لموضوع الفيلم حقَّ الفهم.
في أحد المَشاهد، ظهر أوبنهايمر وهو يكتب على السبورة ما يُفهم منه
أن إثبات الانشطار الذرِّي مستحيل، حين دلف لورانس من الباب قائلًا: "ما رأيك
في أن [الفيزيائي الأمريكي] لويس والتر فعلها للتوّ، وغير بعيدٍ عن هنا؟!"
وهنا، كان ينبغي أن تظهر على السبورة بعض المعادلات التي ربما فكَّر فيها
أوبنهايمر وخلُص منها إلى استحالة إثبات الانشطار الذرّي. وقد أتحتُ لطاقم العمل
هذه المعادلات بالفعل. صحيحٌ أن السواد الأعظم من جمهور المشاهدين لم يكن لينتبه
إلى تفصيلة كهذه، لكنني شعرتُ بالراحة لِتوخِّينا الدقة في معالجتها.
دايكراف:
العمل مُتقَن للغاية. ومما أعجبني في الفيلم التزام صُنَّاعه بنقل الأشياء
والأحداث كما كان يراها أوبنهايمر. أما المناقشات الفيزيائية فكانت في غاية
الإحكام.. ولا أدَلَّ على ذلك من أن المعادلات التي ظهرت على السبورة كانت صحيحةً
تمامًا!
كيف كان أوبنهايمر على
المستوى الشخصي؟
ثورن:
كان معلِّمًا رائعًا بحق، يترك في النفوس بصمةً لا تُمحى. وكان موسوعي المعرفة،
وآيةً في سرعة البديهة. أما قدرته على فهم الأشياء ورؤية ما بينها من علاقات فكانت
مذهلةً بحق؛ ولعلَّ هذا من أهمّ العوامل التي قادت إلى نجاحه عندما كان يدير مشروع
القنبلة الذرية.
دايكراف:
كانت شخصيته تجمع بين العالِم الرائد والمستشار الحكومي. جاء أوبنهايمر في لحظةٍ
اتجه فيها أينشتاين، الذي كان من الأعمدة الأساسية لبرنامج القنبلة الذرية، إلى أن
يُصبح أبًا روحيًّا للتيَّار المنادي بالسلام. كان [عالم الرياضيات الأمريكي من
أصلٍ مَجَري] جون فون نويمان يدعو، كما قيل، إلى ضرب الاتحاد السوفيتي بالقنابل؛
ما دفع أينشتاين إلى أن يقف على الطرف النقيض. وهنا، سعى أوبنهايمر إلى أن يتخذ
لنفسه موقفًا وسطًا بين هذين النقيضين، وعوقب على مسعاه هذا. ولذا، فكثيرًا ما
أشعر بأن شخصيته تعطي هذه الانطباعات المختلطة. إنه نموذج رائع لكل مَن يرغب في أن
يكون عالمًا، ويحتلَّ لنفسه موقعًا على خريطة النقاش العام.
ما شعورك وأنت ترى فيلمًا
يقوم على أساس علمي يحصد كل هذه الجوائز في حفل الأوسكار؟
ثورن:
شعورٌ رائع أن أراه يلفت الأنظار ويجتذب الاهتمام إلى هذا الحد. إنه يحمل رسائل
بالغة الأهمية في أيامنا هذه. آمل أن يُسهم في التوعية بمخاطر الأسلحة النووية،
وضرورة الحدّ من التسلُّح.
دايكراف:
كثيرًا ما نشكو من خواء الثقافة العامة. ولذا، كان أكثر ما أثار دهشتي أنَّ فيلمًا
بهذه الصعوبة، يتناول موضوعًا صعبًا وشخصية صعبة، وتمَّ تصويره بأسلوب لا يقلُّ
صعوبة، يلقى هذا الإقبال الكبير في شتى أنحاء العالم. هذا بحد ذاته أمرٌ يدعو
للتفاؤل. ها نحن نرى كيف أن خفايا سِيَر الفيزيائيين غَدَتْ محطًّا للاهتمام
العام.. وهو اهتمامٌ مستحَق.
* هذه ترجمة للمقالة المنشورة بدورية Nature
بتاريخ 11 مارس 2024.
تواصل معنا: