أخبار

لماذا يحتاج العالم العربي إلى علم الأحياء التركيبي؟

نشرت بتاريخ 11 سبتمبر 2025

موجة جديدة من أبحاث علم الأحياء التركيبي تحوّل الخلايا الحية إلى أجهزة قابلة للبرمجة، فاتحةً الباب أمام ابتكارات في مجالات الأدوية والحلول المناخية على مستوى المنطقة.

وليد الشارود

koto_feja/ E+/ Getty Images

يُعد علم الأحياء التركيبي (الذي يعرف اختصارًا بـ SynBio) مجالًا علميًا ناشئًا يهدف إلى إعادة برمجة المواد الجينية للخلايا وهندستها بحيث تتحول إلى أجهزة حيوية حاسوبية يمكن التحكم فيها. يدمج علم الأحياء التركيبي الحوسبة والهندسة من ناحية، والبيولوجيا الجزيئية من ناحية أخرى بهدف تطوير تطبيقات تعمل بدقة عالية وتحقق نتائج متوقعة.

تشكل البرمجة والتصميم عنصرين أساسيين في علم الأحياء التركيبي، إذ يرتكز هذا التخصص على مفهوم جوهري مفاده أن الخلايا قابلة للبرمجة والهندسة. فالخلايا لا تتوقف عن إجراء الحسابات على مدار الساعة؛ إذ تعمل على معالجة المدخلات البيئية من خلال "خوارزميات حيوية" مُشفّرة بالحمض النووي، ومن ثمَّ تُنتج مخرجات قابلة للقياس.

من الأمثلة التقليدية على هذه الحوسبة عملية أيض اللاكتوز في بكتيريا الإشريكية القولونية Escherichia coli؛ إذ تمتص خلايا ذلك الكائن المجهري السكر كمدخل، ثم يستشعر الحمض النووي وجوده، فتنطلق الإنزيمات المعنية بعملية الأيض، لتُنتَج الخلية في النهاية الطاقة واللاكتات كمخرجات. كما يمكن للخلايا في بعض الحالات، تنفيذ وظيفة الدالة المنطقية "AND"، على غرار ما تقوم به الحواسيب.

كان هذا التلاقي بين الحواسيب والخلايا مصدر الإلهام لانطلاقة علم الأحياء التركيبي في مطلع الألفية الجديدة، وذلك عندما نجح الباحثان جيمس كولينز ومايكل إلويتز، كلٌ مع فريقه، في بناء دوائر جينية وجزيئية تُحاكي الدوائر الإلكترونية المكونة من الترانزستورات والأسلاك. وقد أُنجزت نمذجة سلوك هذه الدوائر الجينية بنجاح، وعملت كما كان متوقعًا. وأدى هذا الابتكار إلى فتح الباب أمام تطوير تطبيقات متنوعة، من بينها أجهزة استشعار للكشف عن المواد المتفجرة وعلاجات محتملة لمرض السرطان.

إذا انتقلنا إلى مسألة التصميم، فسنجد أن الجينات تتكون من وحدات يمكن توصيفها وتوحيدها وفهرستها، وهو ما يتيح إمكانية الهندسة المنهجية للأنظمة الحية، ويدفع ـ عند اقترانه بالبرمجة ـ علم الأحياء التركيبي إلى ما يتجاوز حدود التكنولوجيا الحيوية التقليدية. وقد مكّن ذلك العلماء من بناء جينوم ميكروبي كامل وفعّال قادر على تشغيل خلية شبه اصطناعية بكاملها. كما تمكن الباحثون من دمج أحماض أمينية غير طبيعية في بروتينات مُخلَّقة لأغراض علاجية محتملة.

شكّل هذا المفهوم الأساس الذي بُني عليه لقاح كوفيد-19 القائم على الحمض النووي الريبي المرسال mRNA. كذلك تشمل الإنجازات الأخرى لعلم الأحياء التركيبي «إمليجيك» Imlygic، وهو دواء مُعتمَد لعلاج سرطان الجلد، ويعتمد في تركيبه على فيروسات مُحلِّلة للأورام؛ و«أرتيميسينين» artemisinin، وهو مُركَّب مُنتَج من الخميرة لعلاج الملاريا؛ إضافة إلى الحرير الصناعي؛ والمواد البلاستيكية الحيوية؛ والبرجر النباتي الخالي من اللحوم. أما الطموحات الراهنة لهذا العلم فتتراوح بين إعادة الكائنات القديمة المنقرضة إلى الحياة وإطالة عمر الإنسان.

فريق مختبر علم الأحياء التركيبي في جامعة المنصورة، مصر

فريق مختبر علم الأحياء التركيبي في جامعة المنصورة، مصر
Credit: Walid El-Sharoud.

وبهدف الاستفادة من الإمكانات الهائلة التي يتيحها هذا المجال، أنشأتُ مختبر علم الأحياء التركيبي بجامعة المنصورة في مصر. ومن خلال التعاون مع شركاء دوليين، نجحنا في ابتكار نوع غير تقليدي من الخميرة لإنتاج «البيسابولين» bisabolene، وهي مادة صيدلانية أساسية وعنصر أولي في صناعة الوقود الحيوي. يركز عملنا الحالي على هندسة الخميرة لإنتاج بروتين الحليب، والاستفادة من إنزيمات «كريسبر» CRISPR في التعديل الجيني، وتطوير أجهزة استشعار حيوية للكشف عن مسببات الأمراض.

إضافة إلى ذلك، تعمل فرق بحثية متخصصة بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) في المملكة العربية السعودية على تطوير تطبيقات متقدمة لعلم الأحياء التركيبي؛ منها هندسة كائنات مجهرية قادرة على القيام بعملية التمثيل الضوئي، مثل الطحالب، لاستحداث عمليات أكثر كفاءة في استهلاك الموارد تُستخدم في احتجاز الكربون، والتصنيع الحيوي، وغيرها من التطبيقات البيئية.

بناء على ما سبق يمكن القول إن علم الأحياء التركيبي قد تجاوز مرحلة إثبات المفهوم وانتقل إلى مرحلة التطبيق العملي، التي تنطوي على العديد من الابتكارات، مثل طرح أدوية جديدة، ومواد مستدامة، واستحداث تقنيات ذكية لمواجهة التغير المناخي. إضافة إلى ذلك، فإننا في العالم العربي نمتلك المواهب والموارد الطبيعية والطموح الإستراتيجي اللازم للاستفادة من الموجة الجديدة من التقنيات الحيوية.

وأخيرًا، فمن خلال الاستثمار في برامج بحثية هادفة، وتطوير شبكات تعاون إقليمية، وتدريب الجيل القادم من علماء الأحياء التركيبي، يمكن للمنطقة بأكملها تحويل العلوم المتطورة إلى صناعات عالية القيمة وحلول محلية للتحديات البيئية والصحية الملحة في وقتنا الحاضر.

 

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.155