أخبار

وسط الدمار والركام والأنين.. البحث العلمي يصارع من أجل البقاء في غزة

نشرت بتاريخ 16 فبراير 2025

حلَّ الدمار بأكثر جامعات غزة، وبعضها سُوِّيت بالأرض، وأصبحت أثرًا بعد عين.. لكن عددًا من باحثيها أكَّدوا لـNature تمسُّكهم بالتعليم وتحصيل المعرفة.

ميشيل كاتانزارو

مبانٍ أتى عليها القصف داخل حرم جامعة الأقصى في خان يونس، جنوب قطاع غزة.

مبانٍ أتى عليها القصف داخل حرم جامعة الأقصى في خان يونس، جنوب قطاع غزة.

Credit: Hassan Jedi/Anadolu via Getty Images

ذكر عدد من باحثي غزة، في تصريحاتٍ أدلوا بها لمجلة Nature، أن وقف إطلاق النار بين «حماس» وإسرائيل، الذي دخل حيز التنفيذ في التاسع عشر من يناير الماضي ويستمر في مرحلته الأولى 42 يومًا، يمثل فرصةً سانحةً للبدء في معالجة آثار التدمير الذي استمر على مدى 15 شهرًا من الحرب. على أن اتفاق وقف إطلاق النار ربما يكون مؤقتًا، ولكن سواءٌ أصمَد الاتفاق أم لم يصمُد، يبقى مصير هذه البقعة من الأرض ومَن يعيشون عليها، على المدى البعيد، في غياهب المجهول.

يرى الباحثون أنه، مهما يكن من شيء، فإن وقف القصف اليومي من شأنه أن يتيح للمنظمات الدولية أن تحصر بدقة احتياجات غزة من المياه والغذاء واللوازم الطبية والبنية التحتية.

أصبح خميس العيسى، عالِم الأعصاب الذي يرأس وحدة الطب القائم على الأدلة بالجامعة الإسلامية في غزة، يقضي جُلَّ وقته في علاج الجرحى بالمستشفى الأهلي المعمداني. يقول: "نحن بحاجةٍ إلى توثيق ما جرى هنا في غزة، ومن ثم ننشر [النتائج] بالتعاون مع الباحثين الآخرين في أنحاء العالم".

هذه معلومات ضرورية لتوجيه دفَّة العمل على إعادة إعمار القطاع ورفع المعاناة عن أهله، سواءٌ في أثناء وقف إطلاق النار أو بعد أن تضع الحرب أوزارها. يقول سامي أبو زِرّ، الذي يدرس الأمراض التي تنتقل عبر الماء بالكلية الجامعية للعلوم والتكنولوجيا في غزة، إن "للبحث العلمية أهمية قصوى [في هذه المرحلة]".

إلى اليسار: عالم الأعصاب خميس العيسى (يسار) أثناء استلامه جائزة في 2022 من ليز جرانت، مديرة أكاديمية الصحة العالمية التابعة لجامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة. إلى اليمين: العيسى أثناء الحرب الجارية.

إلى اليسار: عالم الأعصاب خميس العيسى (يسار) أثناء استلامه جائزة في 2022 من ليز جرانت، مديرة أكاديمية الصحة العالمية التابعة لجامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة. إلى اليمين: العيسى أثناء الحرب الجارية.
Credit: Khamis Elessi

العيسى وأبو زر اثنان من أكثر من عشرة باحثين تحدَّثت إليهم Nature في سياق الإعداد لهذا المقال. تمكَّن هؤلاء الباحثون من مواصلة عملهم البحثي، بل ومنهم مَن استطاع نشر نتائج أبحاثه، رغم كل ما واجهوه من تشريد، ونزوحٍ متكرر، وشحٍّ في الغذاء والاحتياجات الأساسية.

ترى آية المشهراوي، الباحثة في مجال التعلُّم عبر الإنترنت بالكلية الجامعية للعلوم التطبيقية في غزة، أن "الجهود التي يبذلها المجتمع الأكاديمي الفلسطيني لمواصلة العمل وسط هذه الظروف الصعبة لهي أكبر دليل على إصرارهم الذي لا يتزعزع على التعليم وتحصيل المعرفة".

في السابع من أكتوبر من عام 2023، شنَّ مسلَّحو حماس هجومًا على إسرائيل، خلَّف نحو 1,200 قتيل. ردَّت إسرائيل بحربٍ أودت بحياة نحو 47,500 فلسطيني، وفقًا لتقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

تشير تقديرات الباحثين والمتخصصين في مجال المساعدات الإنسانية إلى أن 90% من سكان قطاع غزة، البالغ تعدادهم 2.2 مليون نسمة، أصبحوا بلا مأوى. كما تشير التقديرات إلى أن منظومات الغذاء، والمياه، والمستلزمات الضرورية، والوقود، وخدمات الصرف الصحي، والرعاية الطبية، والنشاط الاقتصادي على جملته، قد دُمِّرت تمامًا، أو أصبحت على شفا التدمير؛ ما يستدعي إعادة بنائها.

ومسألةٌ أخرى يرى الباحثون ضرورة وضعها على رأس سُلَّم الأولويات: هي رفع الأنقاض التي خلَّفها القصف. وفقًا لتقدير مبدئي صادرٍ في يونيو الماضي عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يوجد في كل مترٍ مربَّع من القطاع ما يقدَّر بنحو 100 كيلوجرام من الحطام: ما بين كُتَلٍ خرسانية وحديد وصُلب، إضافةً إلى القنابل التي لم تنفجر، وبقايا القنابل المنفجرة، إلى غير ذلك من المواد المعدنية والبقايا البشرية.

وذكر أحمد حلِّس، رئيس المعهد الوطني للبيئة والتنمية في غزة، أن "أكثر من 97% من مياه القطاع تأتي من حوض مياه جوفية. ولما كانت [طبقات الحوض] عالية المسامّية، فإن احتمالات تعرُّض [المياه الجوفية] للتلوث مرتفعة للغاية".

والجامعات، هي الأخرى، بحاجةٍ إلى من يعيد بناءها. من بين 21 مؤسسة أكاديمية في غزة، ما بين جامعات وكليات جامعية وأهلية، طال القصف 15 مؤسسة، فألحق ببعضها أضرارًا بالغة، وسوَّى بالأرض بعضها الآخر، وفقًا لبيانات رشحت في سبتمبر الماضي عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).

كما يوجد بالقطاع خمس كليات جامعية: كانت كُلِّيتان منها قد تضرَّرتا ضررًا بالغًا بحلول سبتمبر الماضي، مع ترجيحات بتضرُّر اثنتين أُخريين. وإلى ذلك، يحتضن القطاع 9 كليات جامعية أهلية: منها كُلِّيتان يُحتمل أن يكون القصف قد طالهما، وثلاث كليات تضرَّرت ضررًا خفيفًا، وأربعٌ تضرَّرت ضررًا بالغًا، فضلًا عن اثنتين دُمِّرتا تدميرًا تامًا.

كما يوجد بالقطاع خمس كليات جامعية: كانت كُلِّيتان منها قد تضرَّرتا ضررًا بالغًا بحلول سبتمبر الماضي، مع ترجيحات بتضرُّر اثنتين أُخريين. وإلى ذلك، يحتضن القطاع 9 كليات جامعية أهلية: منها كُلِّيتان يُحتمل أن يكون القصف قد طالهما، وثلاث كليات تضرَّرت ضررًا خفيفًا، وأربعٌ تضرَّرت ضررًا بالغًا، فضلًا عن اثنتين دُمِّرتا تدميرًا تامًا.
المصدر: منظمة اليونسكو.

في ردٍ مكتوب ورد إلى Nature، ذكر متحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي أنه، في إطار مساعي الجيش إلى تفكيك قدرات «حماس» العسكرية، "كانت هناك ضرورة عملياتية، ضمن أسباب أخرى، لقصف أو دهم الأبنية" التي لاذ بها مسلحو «حماس» و"أقاموا فيها بنيتهم التحتية الإرهابية". وأضاف المتحدث: "«حماس» تستخدم – وبشكلٍ ممنهَج – المباني العامة التي يُفترض ألا تستخدم لغير الأغراض المدنية، ومنها المؤسسات التعليمية والجامعات".

الشوارع غارقة في المياه العادمة

حتى قبل اندلاع الحرب، لم يكن يحصل على مياه الشرب النظيفة إلا 10% من الغزّيّين. هبطت هذه النسبة الآن إلى 4%. ولا تتوفر خدمات الصرف الصحي إلا لـ30% من سكان القطاع، بعدما كانت تتوفَّر لـ70% منهم قبل بدء الحرب، وذلك وفقًا لتقرير أعدَّه حلِّس، الذي يحاضر أيضًا بجامعة الأزهر في غزة، عن احتياجات إعادة الإعمار في القطاع1. ويقول العيسى: "المياه العادمة متجمِّعة في الطُّرقات. ولذا فإصلاح شبكة الصرف الصحي ضرورة ملحَّة، كي لا يُصاب الناس بالأمراض التي تنتقل عبر الماء".

فإذا انتقلنا إلى تداعيات الحرب على الخدمات الصحية، سنجد أن نصف مشافي القطاع تقريبًا، البالغ عددها 36 مشفًى، خرجت عن الخدمة تمامًا، وأن البقية تعمل جزئيًا، بحسب بيانات منظمة الصحة الدولية. يعاني سكان القطاع من انتشار الإسهال، والأمراض التنفسية، والطفح الجلدي، وداء الجرب، والالتهاب الكبدي الفيروسي، وفقًا لدراسةٍ شارك أبو زر في إعدادها، ونُشرت في شهر نوفمبر الماضي2.

يقول العيسى: "لدينا 350 ألفًا من أصحاب الأمراض المزمنة، لم يتلقَّوا المتابعة الطبية منذ 16 شهرًا. ولدينا 11 ألف مريض بالسرطان، جميعهم يتألمون، وحالتهم الصحية من سيء إلى أسوأ، بسبب انعدام الأدوية، وعدم إتاحة فرص السفر لتلقي العلاج بالخارج. ينبغي الالتفات إلى هؤلاء المرضى على وجه السرعة".

"عجّلوا بإعادة الإعمار"

عكفت المشهراوي على دراسة الآثار المترتبة على نزوح نحو مئتين من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة التي تعمل بها. تقول: "الأولوية القصوى هي إنشاء ملاجئ مؤقتة [لإيواء النازحين]، والتعجيل بإعادة الإعمار".

استدعت المشهراوي، التي انتهى بها مطاف النزوح إلى مخيم النصيرات، لحظة استهداف المبنى الذي تواجدت به، فقالت: "انهارت أربعة طوابق فوق رؤوسنا من جرَّاء القصف، ولقي ثلاثون منّا مصرعهم. يا لها من تجربة مروِّعة، تتجاوز حتى قدرتي على الوصف! لكنها رحمة الله أبقتنا في عِداد الأحياء".

قبل أن يخرج إلى مصر في أواخر أبريل الماضي، نزح حِلِّس داخل القطاع ثماني مرات. يتذكر قائلًا: "رأى أطفالي الموت عدة مرات". وأبو زر، هو الآخر، فقد منزله، وأصبح يعيش ويعمل في خيمة بمخيم النصيرات وسط القطاع.

آية المشهراوي:
آية المشهراوي: "ما زلتُ مصرةً على [مواصلة] رحلتي الأكاديمية".
Aya ElMashharawi- UCAS

البحث العلمي يصارع من أجل البقاء

تقول المشهراوي: "حوَّلَتْ الحرب تركيزي من الابتكار الأكاديمي إلى تلبية الاحتياجات الأساسية: مثل الذهاب لإحضار الماء من أماكن بعيدة، والطهي على الحطب. [إننا] نحصل على الطعام البسيط بأسعار فلكية".

ومع ذلك، تبقى المشهراوي عازمةً على المضيّ في عملها البحثي. تقول: "ما زلتُ مصرةً على [مواصلة] رحلتي الأكاديمية. غالبًا ما أُضطر للسير مسافاتٍ طويلةً سيرًا على الأقدام، بحثًا عن مكان أستطيع فيه شحن حاسوبي وهاتفي، مستعينةً بتلك المحال التجارية التي تعمل بالطاقة الشمسية. وهذا ما يتيح لي العمل ولو لبضع ساعاتٍ قليلةٍ في كل يوم". في تلك الفُسحة الضيقة من الوقت، يتسنَّى لها إنجاز ما تيسَّر من عملها البحثي، باستخدام قواعد البيانات المتاحة عبر الإنترنت، والأدوات التي تتيح التعاون عن بُعد.

أما أبو زر، فهو يسعى إلى البناء على ما أنجزه قبل الحرب، مع التحوُّل إلى الأبحاث النوعية، التي تحتاج إلى إمكاناتٍ أقل. ويشاركه في هذا الاتجاه باحثون آخرون، منهم العيسى، الذي يقول: "ليس في الإمكان أخذ العيّنات، لأن المواد غير موجودة. وهكذا تحوَّلنا من الدراسات التجريبية والإكلينيكية إلى الدراسات الوصفية".

وذكر عديد من الباحثين أنهم عَدَلوا عن طريق البحث برُمَّته. يقول حازم الباز، الباحث في علوم الحاسب بجامعة الأقصى: "كم تمتنَّيتُ أن أواصل السير في طريق البحث العلمي إلى غايته. لكن الظروف التي نمرُّ بها في غزة تجعل هذه الأحلام عصيَّةً على التحقُّق أو تكاد".

يرى العيسى أن "الأولوية الآن لتحويل اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت إلى اتفاق دائم. هذه أول ليلة، منذ 471 ليلة، ننعم فيها بالنوم دون سماع أصوات الانفجارات الهائلة، التي تخترق حاجز الصوت، وتزلزل الأرض ليل نهار. نشعر كأننا في حُلم، وأرجو لهذا الحلم أن يدوم". وتقول المشهراوي: "هناك إصرار جماعي على البقاء فوق هذه الأرض، و[بذل كل ما في وسعنا] خدمةً للأجيال القادمة".

 

* هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 6 فبراير 2025.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.17


  1. Hilles, A. M. Reconstruction and Environment (Friedrich Ebert Stiftung, 2024).
  2. Zinszer, K. & Abuzerr, S. JWater Sanit. Hyg. Dev. 14, 1182–1192 (2024).