كيف استقبل العلماء دعوة «فتاة التقنية الحيوية» إلى تعديل جينومات الأجنّة البشرية؟
11 November 2025
نشرت بتاريخ 11 نوفمبر 2025
بقلقٍ وتحفُّظ، تلقَّى بعض الباحثين خبر اعتزام شركة تقنية حيوية تعديل جينومات أجنَّة بشرية باستخدام تقنية «كريسبر»، إلا أن هذه الخطوة في حد ذاتها تعكس تغيُّرًا في المواقف حيال هذه المسألة الشائكة.
لم تكن كاثي تاي تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها حين تركت الدراسة الجامعية لتؤسس أول شركةٍ لها متخصصةٍ في مجال التقنية الحيوية. مضى على هذا التاريخ الآن إحدى عشرة سنة، وخلال هذه الفترة، دشَّنَتْ عدة شركاتٍ أخرى. كان لشركتها الأولى دورٌ في مساعدة شركات التحليل الجيني على تفسير النتائج، وشركتها الثانية متخصصة في تقديم خدمات الرعاية الصحية الرقمية.
أما آخر مشروعاتها، الذي أُعلنَ في الثلاثين من أكتوبر الماضي عن بعضٍ من أبرز الأسماء المشاركة فيه، فهو يخرج عن حدود المألوف. في بعض الأحيان، يطيب لتاي، التي تلقِّب نفسها بـ«فتاة التقنية الحيوية» Biotech Barbie، أن تشير إلى شركتها الأخيرة بأنها «مشروع مانهاتن» Manhattan Project — ذلك الاسم الذي كان يحمله في أربعينيات القرن الماضي المشروع الذي قاد الولايات المتحدة إلى اختراع القنبلة الذرية — وهي تطمح من خلال شركتها إلى تحقيق هدف يُثار حوله لغطٌ كثير، هو: تعديل جينومات الأجنَّة البشرية للحيلولة دون الإصابة بالأمراض الجينية.
تقول: "علينا التزام حيال المرضى الذين يعانون أمراضًا مستعصية، ليس لها من علاج. وغالبية الأمريكيين مؤيدون لهذه التقنية".
غير أن القلق يغلُب على قطاعٍ عريض من الباحثين. دشَّنت تاي «مانهاتن جينومكس» Manhattan Genomics — وهو الاسم الرسمي لآخر شركاتها — في الصيف الماضي، واتخذت من مدينة نيويورك مقرًا لها. وشاركتها في تأسيس الشركة إريونا هيسولي، التي سبق أن رأست إدارة الأبحاث البيولوجية في «كولوسال بيوساينسز» Colossal Biosciences، وهي شركة مقرها دالاس بولاية تكساس الأمريكية، تُعنى بإعادة إحياء الأنواع المنقرضة. ولم يمض وقت طويل حتى أعلنت شركة أخرى، هي شركة «بريفنتيف» Preventive، الكائنة في جنوب سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، في الثلاثين من أكتوبر الماضي، أنها بصدد استكشاف إمكان إدخال تعديلات جينية على أجنَّة بشرية.
ولم تُفصح أيٌّ من الشركتين عن تفاصيل خططها العلمية، كالأمراض التي سوف تستهدفها، مثلًا، والتقنيات التي تعتزم الاستعانة بها. وتقول تاي إن شركتها سوف تجري أبحاثًا علمية مستفيضة واختبارات أمان قبل الشروع في محاولة تعديل الأجنَّة جينيًّا. ومن بين المستشارين الجُدد الذين أُعلنت أسماؤهم الأسبوع الماضي، باحث متخصص في أخلاقيات علم البيولوجيا، وآخران لهما باعٌ في بيولوجيا التكاثر لدى الرئيسيات من غير البشر؛ وهي مهارات ستكون لها أهميتها في تقييم اعتبارات الأمان في عملية تعديل الأجنَّة.
ومع ذلك، يرى بعض الباحثين أن من السابق لأوانه الحديث عن تقنيات التعديل الجيني للأجنَّة البشرية على المستوى التجاري، لما تنطوي عليه هذه العملية من مخاطر تمسُّ السلامة، فضلًا عن الإشكاليات الأخلاقية؛ خلافًا للعلاجات القائمة على التعديل الجيني المطروحة حاليًا في الأسواق، وتعالج أمراض الدم في الأطفال والبالغين على السواء.
في تعليقٍ للباحثة ألكسيس كومور، عالمة الكيمياء الحيوية المتخصصة في دراسة تقنيات التعديل الجيني، ذكرت أن "معايير الأمان عالية جدًا جدًا جدًا، ومن المحقَّق أننا ما زلنا بعيدين عن الوفاء بها".
علاجات «كريسبر»
على مدى سنوات، ظلَّ مجال التعديل الجيني واقعًا تحت تأثير ما حدث لهِه جيانكوي، عالم الفيزياء الحيوية الصيني الذي أعلن في عام 2018 أنه تمكَّن من تعديل أجنَّة بشرية على نحوٍ يعزِّز مقاومة الأطفال لفيروس نقص المناعة البشرية (HIV). زُرعت هذه الأجنَّة في رحم الأم، التي ولدت بنتين معدَّلتين جينيًّا، لكن سرعان ما حُكم على الباحث بالسجن ثلاث سنوات بتهمة "مزاولة الطب بالمخالفة للقانون". (وكانت علاقةٌ شخصيةٌ تربطه بتاي في وقتٍ سابق من العام الجاري، لكنهما انفصلا، وفقًا لما أفادت به قول تاي، التي أكدت ألا صلة له بشركة «مانهاتن جينومكس»).
قوبلت تجربة جيانكوي بإدانة واسعة في صفوف الباحثين، وراح الكثيرون منهم ينادون بوقف أي نشاط إكلينيكي ينطوي على تعديل جيني بشري يمكن توريثه. وبالفعل، وضعت بعض الدول قيودًا على هذا النوع من الأنشطة البحثية. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا يجوز استخدام الأموال الفيدرالية لتمويل دراسات التعديل الجيني على الأجنَّة البشرية، ويُحظر على إدارة الغذاء والدواء بالبلاد السماح بأي نشاط إكلينيكي يتضمن استخدام أجنَّة بشرية معدَّلة جينيًّا.
وسط هذا اللغط الكثيف المنعقد حول التعديل الجينيّ للأجنَّة، شقَّت التقنية طريقها في تعديل جينات الخلايا غير التناسلية، وقطعت في هذا المضمار شوطًا طويلًا. كان أوَّل علاجٍ مصرَّحٍ به قائمٍ على تقنية التعديل الجيني هو ذلك المعتمِد على نظامٍ لقص الحمض النووي يسمَّى «كريسبر-كاس9» CRISPR-Cas9، والذي يستهدف تعديل الحمض النووي الخاص بالخلايا الجذعية الدموية. يوصف هذا العلاج، الذي حصل على الموافقة في عام 2023، لعلاج اثنين من أمراض الدم الوراثية. وفي وقت سابق من العام الجاري، استعان باحثون بتقنية وثيقة الصلة بالتقنية المشار إليها آنفًا، هي تقنية التحرير الجيني للقواعد النيوكليتيدية (base editing)، لتعديل الحمض النووي الخاص بخلايا الكبد سعيًا إلى ابتكار علاج مصمَّمٍ خصِّيصًا لطفلٍ رضيع يعاني مرضًا أيضيًّا.
آثار جانبية
غير أن تعديل الخلايا غير التناسلية شيء، وتعديل الأجنَّة شيء آخر مختلفٌ تمامًا من الناحيتين الأخلاقية والعلمية، على حد وصف جونجيو هوانج، عالم البيولوجيا المتخصص في دراسة نمو الأجهزة التناسلية بجامعة سون ياتسن في مدينة جوانجتشو الصينية. فأدوات التعديل الجيني قد تسلُك في الأجنَّة مسلكًا مختلفًا عنها في الخلايا غير التناسلية؛ وذلك لأن تعديل الجنين يعني أن التغيُّرات الجينية سوف تُمرَّر إلى الجيل التالي، بما يستتبعه ذلك من عواقب يصعب التنبُّؤ بها.
وتقول كومور إن حدوث تغيُّرات غير مرغوب فيها في الحمض النووي يظل احتمالًا مصاحبًا لأي استخدام لتقنية التعديل الجيني، إلا أن تأثير تلك التغيُّرات يمكن أن يكون أفدح في الجنين منه في هذا العضو أو ذاك من أعضاء الجسم، بالنظر إلى أن التغيُّرات في حالة الجنين تؤثر في كل خلية من خلايا الجسم أثناء مراحل النمو الحاسمة. وأضافت أن نسبةً لا تُذكر من الأشخاص هم من يمكن أن يرغبوا في إخضاع أجنَّتهم للتعديل، على اعتبار أن الكثيرين منهم يلجؤون بالفعل إلى الفحوص الجينية للتأكد من خلوِّ الأجنَّة من الطفرات المسبِّبة للأمراض.
من جانبهما، علَّقت تاي وهيسولي بالقول إن التقنيات المستخدمة في التعديل الجيني قد شهدت تطوُّرًا هائلًا منذ أجرى جيانكوي تجاربه. وأكّدتا أن التقنيات الأحدث — مثل تقنية التحرير الجيني للقواعد النيوكليتيدية، وتقنية أخرى تُعرف بالتحرير الجيني الأوَّلي (prime editing) — تتيحان للباحثين مستوى أعلى من الدقة، مقارنةً بتقنية «كريسبر-كاس 9» التقليدية. ثم إن أيًّا من هذه التقنيات الحديثة لا يستلزم قطع شريطي الحمض النووي كليهما، كما هو الحال في طريقة «كريسبر» الأصلية للتعديل الجيني؛ وهي الخطوة التي يمكن أن تترتَّب عليها تغييرات جوهرية في الأجنَّة على مستوى الكروموسومات. تقول تاي: "شهد مجال التعديل الجيني تطوُّرات عديدة من شأنها أن تجعل هذه التقنية أكثر أمانًا ودقة".
ومع ذلك، فكما تقول كومور، لا يزال الباحثون يسعون إلى الإلمام بجميع التغيرات الجينية غير المرغوب فيها التي يمكن أن تتمخَّض عن عملية التحرير الجيني للقواعد النيوكليتيدية، فضلًا عن تقنية التحرير الجيني الأوَّلي، التي نحن — حسب قولها — أقلُّ إلمامًا بها.
في عام 2015، كان هوانج وفريقه أوَّل من أجْروا عملية تعديل جيني لأجنَّةٍ بشرية1 (من دون زراعة الأجنَّة في رحم الأم). ومنذ ذلك الحين، يواصل الباحث دراسته للأجنَّة معتمِدًا على تقنية التحرير الجيني للقواعد النيوكليتيدية، التي يصفها بأنها تقنية واعدة، إلا أنها لم تصل بعد إلى مرحلة النضج التي تؤهلها للانتقال إلى مرحلة التطبيق الإكلينيكي. وتتفق معه هيسولي على ضرورة إخضاع هذه التقنيات لمزيد من الدراسة، لا سيما عند تطبيقها على الأجنَّة. وذكرت أن الأسلوب التي ستستقرُّ عليه شركة «مانهاتن جينومكس» سوف تحدِّده — أو، على الأقل، تسهم في تحديده — الأمراضُ التي تقرر الشركة التركيز عليها أولًا.
يرى هوانج أن توقيت إطلاق شركة «مانهاتن جينومكس» "غير مناسب"؛ فالتقنية لم تنضج بعد، حسب قوله، كما لم تكتمل الأُطُر الأخلاقية والقانونية المنظِّمة لاستخدامها، ولا تحقَّق الالتفاف المجتمعي المطلوب حولها.
وفي تعقيبها على ذلك، ذكرت تاي أن هذه الجوانب المتصلة بالتعديلات الجينية القابلة للوراثة لن تبلغ مرحلة النضج قط ما لم تتوفَّر لدى الباحثين أو الشركات القدرة على التصدِّي لها على نحوٍ مسؤول. وتقول إنه من دون ذلك، "لا أمل في إحراز أي تقدم".
أما باولا أماتو، المتخصصة في دراسة الغدد الصماء التناسلية بجامعة أوريجون للصحة والعلوم بمدينة بورتلاند، فترى أن القيود التي تفرضها الحكومة الأمريكية على تمويل الأبحاث الأكاديمية التي تُجرَى على الأجنَّة قد تكون بمثابة فرصة سانحة لدخول شركات القطاع الخاص. تعمل أماتو حاليًّا مستشارةً علميةً بشركة «بريفنتيف». وزميلها بالجامعة، شوخرات ميتاليبوف، الباحث في بيولوجيا التكاثر، يعمل مستشارًا لدى شركة «مانهاتن جينومكس»، حسبما أفادت به أماتو والشركة.
تقول أماتو: "سيكون مما يدعو إلى الاستغراب ألا تظهر شركات أخرى" خلال الفترة القادمة.
مؤسس شركة «بريفنتيف» هو لوكاس هارنجتون، الباحث الذي سبق أن شارك في تأسيس شركة أخرى مع جينيفر داودنا، عالمة الكيمياء الحيوية بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، التي اشتُهرت بدورها في اكتشاف تقنية التعديل الجيني «كريسبر-كاس 9». طالما عبَّرت داودنا عن تخوُّفها من التعديلات الجينية القابلة للوراثة، وهي تقول إن مخاوفها لا تزال قائمة. ومع ذلك، فما شجَّعها هو تأكيد هارنجتون على الحاجة إلى وضع معايير علمية صارمة في شركة «بريفنتيف»، وتوخِّي الشفافية. تقول: "الطبيعة الخلافية لهذه الأبحاث تستدعي قدرًا من التدقيق يفوق حتى المستوى المتعارَف عليه في الدراسات الأخرى. لكن إن ثبت أن هذه الطريقة آمنة، فربما نكون على موعد مع تحوُّل شامل في طريقة التعامل مع الأمراض الوراثية: من العلاج المزمن إلى الوقاية؛ وإنه لتغيُّر جذري في نظرة الطب إلى الأمراض الجينية".
آراء متضاربة
ذكرت شركة «بريفنتيف» أنها جمعت نحو 30 مليون دولار أمريكي من مؤسسات تمويلية خاصة. أما تاي فقد رفضت الكشف عن الجهات التي تقدم دعمًا ماليًّا لشركتها «مانهاتن جينومكس»، وإنْ كانت تستشهد بدراسات يمكن الاستدلال منها على أن مشروعها يحظى بتأييد مجتمعي واسع. من هذه الدراسات، تقرير صادر في عام 2018 عن «مركز بيو للأبحاث» Pew Research Center، الواقع مقره في واشنطن العاصمة، انتهى إلى أن 72% من المشاركين في استطلاع رأي أُجري في الولايات المتحدة لا يجدون غضاضة في تعديل جينات الأجنَّة لعلاج الأمراض العُضال التي سيولد بها الطفل إن لم يعالَج وهو بعدُ جنين. ومع ذلك، رأى 65% من المشاركين أنفسهم أن اختبار تقنية التعديل الجيني على الأجنَّة البشرية سوف يذهب بهذه التقنية إلى ما هو أبعد من الحدود المسموح بها.
تقول كيلي أورموند، باحثة أخلاقيات علم البيولوجيا بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ، إننا لا نعرف على وجه الدقة كيف ينظر الناس إلى التعديلات الجينية القابلة للوراثة. ما نعرفه أن حتى المؤيدين غالبًا ما يتراجع تأييدهم عند سؤالهم عمّا إن كان ينبغي توظيف التعديل الجيني في تعزيز صفاتٍ مرغوبة، مثل الذكاء، لا الوقاية من الأمراض.
تؤكد تاي أن شركة «مانهاتن جينومكس» لا تطمح إلى شيء من ذلك. يعتقد كثير من العلماء أن تحسينات كهذه ليست في المتناوَل حاليًا؛ فهي صفات معقدة، وإدخال تغييرات جوهرية عليها سيتطلَّب تعديل عدد كبير من الجينات. بل إن الباحثين ما زالوا في طور التعرُّف على الجينات التي تتحكم في تلك الصفات. تقول كومور: "ثمة الكثير من الأمور التي يتعذَّر علينا القيام بها حتى الآن، لأن درايتنا بعلم الجينات تبقى ناقصة. لكن الوضع لن يبقى هكذا إلى الأبد؛ يومًا ما، سنتجاوز كل العقبات".
* هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 3 نوفمبر 2025.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.196
1. Liang, P. et al. Protein Cell 6, 363–372 (2015).
تواصل معنا: