التحرير الدماغي لعلاج الاضطرابات الفتاكة لم يعد حلمًا بعيد المنال
18 September 2025
نشرت بتاريخ 18 سبتمبر 2025
نتائج مذهلة بين الفئران تبشر بإحراز تقدم في مجال التحرير الجيني لعلاج الأمراض العصبية.
Credit: Nancy Kedersha/UCLA/Science Photo Library
ها هم العلماء يقتربون من تطبيق تقنيات التحرير الجيني على هدف جديد عصي ومهيب: الدماغ البشري.
فعلى مدار العامين الماضيين، أرسى فيض من المنجزات التقنية والنتائج الواعدة في الفئران أسسًا لعلاج اضطرابات دماغية مدمرة، بالاعتماد على تقنيات مستمدة من تقنية التحرير الجيني «كريسبر-كاس9» CRISPR–Cas9. والعلماء يحدوهم الأمل في ألا يستغرق الأمر أكثر من بضع سنوات حتى تصبح التجارب مهيأة لإجرائها على البشر.
وتعلق مونيكا كونرادس، الرئيسة التنفيذية ومؤسسة «صندوق أبحاث متلازمة رِت» Rett Syndrome Research Trust، في مقاطعة ترامبل، بولاية كونيكتيكت الأمريكية: "لم تبدُ البيانات في أي وقت مضى بهذا المستوى من الجودة. بدأ هذا يتحول تدريجيًّا من ضرب من الخيال العلمي إلى واقع ملموس".
تحدٍ شاق
طور الباحثون بالفعل علاجاتٍ قائمةً على التحرير الجيني لعلاج أمراض الدم والكبد والعيون. ففي شهر مايو الماضي، أعلن1 فريق من الباحثين عن نجاح مذهل لعلاج يعتمد على تقنية التحرير الجيني صُمم خصوصًا لطفل رضيع يُدعى كيه جيه، يعاني من مرض كبدي مميت.
إلا أن الدماغ ينطوي على تحديات استثنائية. في حالة الطفل كيه جيه، أُدخلت المكونات الجزيئية اللازمة لعلاجه داخل جسيمات دهنية من تلك التي تتراكم على نحو طبيعي في الكبد. هكذا، يسعى الباحثون إلى إيجاد جسيمات مماثلة يمكنها أن تستهدف على نحو انتقائي الدماغ المحاط بحاجز دفاعي يحول دون دخول الكثير من المواد.
وعلى الرغم مما في قصة كيه جيه من إثارة وأمل، فإنها حملت كذلك في طياتها إحباطًا لأولئك الذين يعاني أفراد عائلاتهم أمراضًا عصبية، بحسب ما تقول كونرادس التي تستهدف منظمتها علاج متلازمة رِت؛ وهي اضطراب نادر يعطل نمو الدماغ. تقول: "السؤال الذي تردده عائلات المرضى هو: لقد طُور علاجه على جناح السرعة، فلماذا يستغرق الأمر في حالاتنا ردحًا من الزمن؟".
من جانبها تلفت كاثلين لوتس، عالمة الوراثة بمختبر جاكسون في بار هاربور في ولاية ماين الأمريكية، إلى اتساع رقعة العائلات التي يستبد بها القلق، مع تزايد لجوء العائلات والأطباء إلى تقنيات التسلسل الجينومي سعيًّا لاكتشاف أسباب الاضطرابات الدماغية التي كانت يومًا ما يكتنفها الغموض. وتسترسل قائلة: "لقد بدأ الناس يتبينون اليوم أن نوبات الصرع التي تصيب أطفالهم، على سبيل المثال، إنما مردّها إلى طفرات وراثية بعينها".
قص ولصق
تشير الدراسات التي أُجريت على الفئران إلى أن تقنية التحرير الجيني - القادرة على إعادة كتابة قُصاصات صغيرة من جينوم الخلية - باتتْ جاهزة لتصحيح بعض من هذه الطفرات. في شهر يوليو الماضي، أفاد2 الباحثون بأنهم نجحوا في إصلاح طفرات تتسبب لدى البشر في مرض يُعرف بالشلل النصفي المتناوب في الأطفال (AHC). تتسبب هذه الحالة، التي تبدأ أعراضها عادة قبل أن يبلغ الطفل 18 شهرًا، في حدوث نوبات صرع، وصعوبات في التعلم، ونوبات شلل جزئي. "ياله من مرض مريع"، على حد تعبير ديفيد ليو، اختصاصي البيولوجيا الكيميائية بمعهد برود التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد في مدينة كيمبريدج بولاية ماساتشوستس.
طبّقَ ليو وزملاؤه تقنية للتحرير الجيني متفرعة من «كريسبر»، تُعرف باسم التحرير الجيني الأولي، على فئران تحمل طفرة مسببة للمرض. أصلحت التقنية الطفرة في نحو نصف القشرة الدماغية، المنطقة المسؤولة عن التعلم والذاكرة. كما أظهرت الفئران تحسنًا في مجموعة من المؤشرات: خفّتْ حدة نوباتها الشبيهة بالصرع، وتحسنت قدراتها الإدراكية والتحكم الحركي، وازداد متوسط أعمارها. يقول ليو: "جاءت النتائج في الفئران مبهرة بحق. ولَكَم أثارتْ ذهولنا".
ويواصل مختبر ليو أبحاثه على الفئران أيضًا لإصلاح طفرات تتسبب في إصابة البشر باضطرابين عصبيين آخرين، هما مرض هنتنجتون ورنح فريدريخ3. وفي كلية طب جامعة شنجهاي جياو تونج في الصين، لجأ اختصاصي علم الأعصاب زيلونج تشو وزملاؤه إلى تقنية التحرير الجيني للقاعدة النيوكليوتيدية لتصحيح طفرة في جين يُسمى MEF2C4. وهذه الطفرة يمكن أن تتسبب في إصابة الأطفال بالصرع، والإعاقة الذهنية، وضعف القدرات اللفظية.
وفي ذكور الفئران، تُفضي نفس هذه الطفرات إلى تغيير سلوكها عند التفاعل مع أقرانها. وقد أسفر تصحيح طفرة جين Mef2c باستخدام تقنية التحرير الجيني للقاعدة النيوكليوتيدية - وهي نسخة فائقة الدقة من تقنية التحرير الجينومي كريسبر تتولى تصحيح أحرف معينة في الحمض النووي - عن استرداد السلوكيات الاجتماعية الطبيعية وتحسين الوصلات بين الخلايا العصبية.
كذلك يعكف تشو وليو، كل على نحو مستقل، على ابتكار علاجات قائمة على التحرير الجيني لمتلازمة رِت، التي تنشأ في معظم الحالات عن طفرات في جين يُعرف باسم MECP2. ومن جانبها ترى كونرادس أن مقاربة التحرير الجيني تكتسب أهمية خاصة في هذه الحالة؛ إذ إن مجرد إدخال نسخة إضافية سليمة من جين MECP2 بأكمله، كما هو متبع في العلاج الجيني التقليدي، قد يدفع الخلايا نحو إنتاج كميات مفرطة من البروتين الخاص به MECP2. وقد تكون النسب العالية من هذا البروتين سامة.
وأما التحرير الجيني، فيقتصر دوره على تصحيح النسخة الطبيعية من الجين، وتقل احتمالات أن يتسبب في فرط إنتاج بروتين MECP2، بحسب ما أشار إليه تشو.
عثرات مالية
ما أطول الطريق وأشقاه بين النتائج في الفئران والتجارب الإكلينيكية على البشر. يتطلع تشو إلى أن يكون فريقه جاهزًا، خلال نحو خمس سنوات، لاختبار علاج التحرير الجيني للقاعدة النيوكليوتيدية على أشخاص يعانون من متلازمة رِت. وأما فريق ليو فيأمل أن يتمكن خلال الأعوام القلائل المقبلة من إنجاز ما تبقى من التجارب اللازمة لتمهيد السبيل إلى الدراسات الإكلينيكية على الأطفال المصابين بالشلل النصفي المتناوب.
ولأن الجسيمات الدهنية، كتلك التي استُخدمت في علاج الطفل كيه جيه، ليست خيارًا متاحًا بعد، يَتوقع الفريقان أن تعتمد التجارب الإكلينيكية على فيروس يعرف بالفيروس الغدي 9 (AAV9) ليتولى مهمة نقل مكونات التحرير الجيني إلى الدماغ. الفيروس يمكنه أن يصيب خلايا الدماغ وبطريقة ما قادر على اختراق الحاجز الدموي الدماغي.
ولكنه لا يخلو من المخاطر، فالجرعات المرتفعة منه يمكنها أن تستثير استجاباتٍ مناعيةً قاتلة. ويتسابق الباحثون لابتكار نسخ أفضل من الفيروس يمكن استخدامها بكميات أقل5. كما تمول منظمة كونرادس تجارب لتطوير أساليب يمكنها أن توصل الجزيئات إلى خلايا الدماغ دون اللجوء إلى الفيروس.
في المحصلة، ربما لا يكون العائق الأكبر ذا طبيعة تقنية؛ إذ تعاني صناعة التقنيات الحيوية في الولايات المتحدة، ركودًا ماليًّا طويل الأمد. فبعض المستثمرين قد تراجعوا عن تمويل العلاجات الجينية وتقنيات التحرير الجيني؛ نظرًا لارتفاع تكلفتها وصعوبة إنتاجها. تقول كونرادس التي تحاول الاحتفاظ بتفاؤلها: "الأموال توشك على النفاد".
وتتابع قائلة: "عادة ما تتأرجح الأمور بين طرفي النقيض. ولا يسعنا في الوقت الراهن إلا الانكباب على عملنا وإنتاج بيانات متينة".
هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 14 أغسطس 2025.
doi:10.1038/nmiddleeast.2025.160
تواصل معنا: