أخبار

فيزياء الكم تخرج إلى العالم المرئي 

نشرت بتاريخ 12 أكتوبر 2025

لم تعد فيزياء الكمّ حبيسة الذرّات والمختبرات، بل صارت جزءًا من محاولتنا لفهم العالم الذي نعيش فيه..

أحمد جمال سعد الدين، كاتب وصحفي علمي - زميل مركز النايت بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا(2025)

حقوق الصورة: الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم.  © Johan Jarnestad

حقوق الصورة: الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم.  © Johan Jarnestad

في عالم الفيزياء الكلاسيكية، تحدث الأشياء كما يُفترض بها أن تحدث. ارمِ مثلًا كرة باتجاه حائط أمامك. يخبرك حدسك السليم، وتجاربك السابقة مع ناموس الكون، أن الكرة ستصطدم بالحائط وترتد عنه. لو حدث عكس ذلك لكان الأمر غريبًا بالتأكيد.

في عالم فيزياء الكم، التي تفسّر ما يحدث على مستوى عالم متناهي الصغر، لاحظنا أن هناك احتمالًا صغيرًا، لكنه ليس معدومًا، يقول بأننا لو أطلقنا جزيئًا ما في مساره باتجاه حاجز، فإنه قد يشق طريقه عبر هذا الحاجز، مخترقًا إياه، حتى لو لم يمتلك من الطاقة ما يسمح له بفعل ذلك.

يُطلق على هذه الظاهرة اسم النفق الكمّي، وهي تلعب دورًا أساسيًا في عمليات مثل البناء الضوئي أو تحلل المواد العضوية.

كيف يحدث ذلك؟ لا أحد يعرف تمامًا. لكنها تحدث. وهما جملتان تتكرران كثيرًا في عوالم فيزياء الكم. نعم، نرصد ذلك ونعرف أنه يحدث، لكننا لا نعرف لماذا ولا كيف تحدث الأشياء.

احتمالات

في أوائل القرن العشرين، أدرك العلماء، باستخدام صديق الفيزياء الأوفى: الرياضيات، أن بإمكاننا توصيف الجزيئات لا باعتبارها نقاطًا في الفراغ، بل وكأنها موجات من الاحتمالات، وأن هذه الجزيئات لو أطلقناها باتجاه حاجز، نجد أنها قد تظهر أحيانًا على الجانب الآخر من الحاجز وكأنها اخترقته. في الحقيقة لم يهشّم الجزيء جزءًا من الجدار أو يحطمه ليخرج إلى الجانب الآخر، بل استطاع أن ينفذ منه. لو بدا ذلك غريبًا فهو غريب بالفعل. ولو بدا أنه غير مفهوم وينافي العقل، فربما هو كذلك. لكنه مرصود، ويحدث.

لفترة طويلة كان من المعروف أن ظواهر مثل النفق الكمّي تحدث على المستوى الذري، لكنها لم تكن مرصودة على مستوى الأنظمة المرئية عيانًا، أي غير الميكروسكوبية. حتى جاء العلماء الثلاثة: جون كلارك، وميشيل ديفوريت، وجون مارتينيس، الذين حصلوا على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2025، ليغيّروا تلك الصورة تمامًا.

حصل هؤلاء العلماء على الجائزة تحديدًا لأنهم استطاعوا، من خلال سلسلة من التجارب في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، إثبات حدوث ظواهر كميّة في أنظمة يمكن للعين المجردة رؤيتها. وهي المرة الأولى التي يقترب فيها العالمان، عالم الكمّ وعالم العيان، من بعضهما إلى درجة تلاشي الحدود بينهما.

أين تبدأ فيزياء الكم؟

السؤال الأساسي الذي شغل بال علماء هذه المساحة كان عن اللحظة التي ينتهي فيها العالم الكمّي لتسيطر قوانين الفيزياء التقليدية. في حالة الجسيمات كبيرة الحجم مثلًا، تختفي الظواهر الكمّية. لا يستطيع إنسان، بكل تعقيد تكوينه وهذا العدد المهول من الذرات، أن يخترق جدارًا ليخرج من الناحية الأخرى مهما حاول. لكن الذرات والإلكترونات قد تفعل.

في سبعينيات القرن الماضي، بدأ أحد علماء الفيزياء النظرية، واسمه أنتوني ليجيت، في وضع سلسلة من الافتراضات الرياضية التي تتنبأ بإمكانية رصد ظواهر كمّية، وتحديدًا ظاهرة النفق الكمّي، في أنظمة أكبر حجمًا.

بدت، كالعادة، فرضية غريبة، لكن المعادلات الرياضيّة التي توصل إليها ليجيت ومساعدوه كانت واضحة: نعم، يمكننا رؤية ظواهر كمّية في أنظمة عينية. حصل ليجيت على جائزة نوبل في الفيزياء بعد ذلك عام 2003 بالمناسبة.

تطلّب الأمر سنوات عديدة ليؤكد العلماء الثلاثة هذه الفرضية. بالإمكان اليوم ملاحظة ظاهرة النفق الكمّي في نظام كبير الحجم. كبير لدرجة أن بالإمكان إمساكه باليد.

درس كلارك وديفورِيت ومارتينيس شريحة من الموصلات الفائقة، أي أنها قادرة على تمرير التيار الكهربائي دون مقاومة. صمّموا الشريحة بطريقة تكون فيها المكوّنات فائقة التوصيل تلك مترابطة مع بعضها عبر حاجز عازل أطلقوا عليه اسم وصلة جوزيفسون. وفي هذا التصميم، استطاعت الدائرة الكهربية أن تتصرّف وكأنها ذرة صناعية، تُظهر خصائص كمّية يمكن ملاحظتها مباشرة، بما في ذلك سلوك النفق الكمّي.

ما فعلته تلك الدائرة الكهربية الصغيرة، كان أنها انتقلت إلى حالة أعلى من الطاقة مرورًا بنفق كمّي، مرصود من خلال ارتفاع مفاجيء في الجهد الكهربائي.

هذه الظاهرة لم تعد تظهر في الأنظمة متناهية الصغر فحسب إذن، والمسافة الواسعة بين عالم ميكانيكا الكمّ والفيزياء الملموسة لم تعد كما كانت قبل هذه التجارب.

لماذا نهتم بذلك؟

لأنها فكرة مبهرة، تغيّر تصوراتنا عن الفيزياء بالكامل. لم تعد ميكانيكا الكمّ محصورة في الذرات والإلكترونات والفوتونات فحسب؛ يمكن لميكانيكا الكم أن تظهر في أنظمة هندسية ودوائر كهربية مصمَّمة.

ولأنها أساس لتقنيات كمّية جديدة. المنهج المستخدم في الوصول إلى هذه النتائج، والنتائج نفسها، يخبرنا أن بإمكاننا استخدام هذا التصميم في تطبيقات الحواسيب الكمّية والاستشعار الكمّي. لو أردنا بناء دائرة كهربائية تعتمد على هذه الظواهر الكمّية، فعلينا أولًا أن نفهم كيف نتحكم في السلوكيات الكمّية داخل هذه الدوائر.

لذلك لم تُمنح هذه الجائزة لمسألة فيزيائية بحتة، بل لأنها فتحت مساحات هندسية وتقنية هائلة يمكن الاستثمار فيها.

وأخيرًا، لأن ما فعله العلماء الثلاثة، هو أنهم نقلونا من الرصد السلبي إلى التحكم المباشر في ظواهر كمّية داخل دوائر كهربائية. وهي لحظة شديدة الأهمية في تحويل الغرائب المرصودة في عالم فيزياء الكم إلى تكنولوجيا يمكن استخدامها والبناء عليها في المستقبل.

لم تعد فيزياء الكمّ حبيسة الذرّات والمختبرات. صارت جزءًا من محاولتنا لفهم العالم الذي نعيش فيه وصنعه من جديد. وما بدأ بفضولٍ عن جسيمٍ يخترق حاجزًا، انتهى بقدرتنا على بناء دوائرٍ تفعل الشيء نفسه، دوائر تكشف، في كل مرة، أن ما نظنه مستحيلًا قد يكون مجرد احتمالٍ في انتظار أن نرصده. وفي ذلك، ربما، معنى العلم الأعمق: خطوة في اتجاه التعايش مع غموض هذا العالم.

doi:10.1038/nmiddleeast.2025.177